سيكون الفنان العالمي "عمر الشريف" هو موضوع حديثنا.. محاولين ـ بقدر
الإمكان ـ رصد المراحل الفنية في مشوار هذا الفنان العربي، الذي إنطلق نحو
العالمية وأصبح نجماً عالمياً يشار له بالبنان، باعتباره أحد عمالقة
التمثيل في العالم.
البداية
"ميشال شهلوب" هو إسمه الحقيقي. ولد في الإسكندرية عام 1932، ونشأ في ظل
عائلة غنية من أصل لبناني مسيحي. تلقى تعليمه في أرقى المدارس الخاصة، مثل
»كلية فكتوريا«، والتي أهلته لإتقان اللغة الفرنسية كتابة وقراءة وتحدثاً.
أما في الوقت الحاضر فهو يجيد الإنجليزية والإيطالية والأسبانية
واليونانية، إضافة الي العربية والفرنسية.
بدأت علاقة عمر الشريف بالفن منذ الصغر، عندما وقف على خشبة المسرح المدرسي
ليؤدي دوراً في إحدى المسرحيات العالمية. أما فرصته الذهبية فكانت في عام
1954، عندما إختاره المخرج يوسف شاهين للوقوف أمام النجمة الكبيرة فاتن
حمامة في فيلم (صراع في الوادي). وبالطبع كانت جرأة كبيرة وحساسية فنية من
شاهين، عندما قدمه ولأول مرة في دور بطولة.. إلا أن عمر الشريف لم يخذل
مكتشفه، فقد نجح الفيلم والدور، وأصبح إسم عمر الشريف على كل لسان.
كانت المرة الأولى التي يواجه فيها كاميرات السينما، ومن ثم بدأت الرحلة
الى عالم الأضواء، وذلك بعد أن أنقذ عمر نفسه من الغوص في تجارة الأخشاب
(مهنة والده التي إختارها له والده)، ليصبح في فترة قصيرة، وبمساعدة وتشجيع
فاتن حمامة في البداية، فتى الشاشة الأول في السينما المصرية. كانت فاتن قد
تطلقت حديثاً من المخرج عزالدين ذوالفقار، وكانت حينها تشعر بفراغ عاطفي
كبير يسري في كل كيانها. وعندما إلتقت بالوجه الجديد عمر الشريف (وهو الإسم
الفني الذي إختارته له فاتن حمامة) شعرت بألفة غريبة تجاهه. عندها بدأت
علاقة حب بقبلة طويلة، كانت أساساً ضمن إحدى مشاهد فيلم (صراع في الوادي)،
والتي أعادها المخرج إحدى عشرة مرة حتى يحصل على التأثير المناسب، وكانت هي
المرة الأولى التي تسمح فيها فاتن حمامة لممثل أن يقبلها على الشاشة. وذات
ليلة إختفى الإثنان عمر وفاتن، بعد إنتهاء العمل في الفيلم، في فندق
»ميناهوس«، حيث تزوجا هناك وأمضيا أسبوع العسل خفية عن أعين الفضوليين
وشائعات المغرضين.
بعدها مثل عمر الشريف في العديد من الأفلام أمام فاتن حمامة وغيرها من
نجمات السينما المصرية، أمثال: نادية لطفي، ماجدة، شادية، سعاد حسني، هند
رستم، لبنى عبدالعزيز، زبيدة ثروت، برلنتي عبدالحميد. وعمل مع عدد من خيرة
المخرجين المصريين، أمثال: عاطف سالم في شاطيء الأسرار، موعد مع المجهول،
صراع في النيل، إحنا التلامذة، المماليك، ومع كمال الشيخ في أرض السلام،
سيدة القصر، حبي الوحيد، ومع صلاح أبوسيف في لاأنام، لوعة الحب، بداية
ونهاية، ومع مكتشفه يوسف شاهين مرة أخرى في فيلم (صراع في الميناء)، ومع
حلمي حليم في فيلم (أيامنا الحلوة)، ومع السيد بدير في (غلطة حبيبي)،
ونيازي مصطفى في (فضيحة في الزمالك)، ومع فطين عبدالوهاب في (إشاعة حب)،
ومع عزالدين ذوالفقار في (نهر الحب)، ومع رمسيس نجيب في (غرام الأسياد)،
ومع هنري بركات في (في بيتنا رجل).
وفي أثناء عمله في السينما المصرية، قام بأداء دورين قصيرين في فيلمين
أجنبيين، هما (صاحبة القصر الملكي) أمام الممثلة جينا ماريا كانالي وبادارة
المخرج ريشار بوتيه، والدور الثاني في فيلم (مرحباً أيها الحزن) من تأليف
الفرنسية فرانسوا ساجان. وفي عام 1957 إختاره المخرج الفرنسي جاك باراتيه
للقيام بدور البطولة في فيلم (جحا البسيط).
وبالرغم من أدواره هذه في الأفلام الأجنبية، إلا أنه إستمر بالعمل في
السينما المصرية، بل إنه بدأ يفهم أسرار الصناعة ويفكر في تكوين شركة
للإنتاج السينمائي، حيث إشترى بالفعل رواية »لاتطفيء الشمس« من إحسان
عبدالقدوس، وبدأ يستعد للقيام ببطولتها أمام زوجته فاتن حمامة، ليكون هذا
الفيلم باكورة إنتاجه السينمائي. إلا أن بطولة مشروعه هذا، قد ذهبت الي
زميله شكري سرحان، وذلك لأن فرصته للإنطلاق الى العالمية قد حانت قبل إتمام
هذا المشروع، عندما إتصل به المنتج البريطاني »سام سبيغل« يدعوه للقائه في
الأردن لإجراء إختبار لأداء دور الشريف عليّ في فيلم (لورنس العرب).
سافر عمر الشريف الى عمان وعاد يحمل عقداً بتمثيل الدور، بعد أن إجتاز جميع
الإختبارات. فقد كانت كل النتائج في صالحه، وبالتالي سيعمل تحت إدارة
المخرج البريطاني الكبير »ديفيد لين«.. كان ذلك عام 1962.
عندما عاد عمر من الأردن ليزف الخبر الى فاتن، قابلته بمشاعر موزعة بين
الفرحة العارمة والخوف الغامض. أما الفرحة، فلأن عمر سوف يكون النجم
السينمائي بدون نفوذ وشعبية فاتن حمامة، وسوف يسترد معنوياته كلها ويتحرر
من العقدة التي تملكت منه.. أما الخوف الغامض فلم تكن تدري له سبباً، مع أن
السبب واضحة معالمه في قلب كل زوجة ترى زوجها يشق طريقه الى مجتمع متحرر
فيه نساء فاتنات بالمئات والآلاف. كانت فاتن الزوجة تخاف على عمر الزوج،
وكان خوفها في محله، فقد حصلالطلاق بينهما فيما بعد.
لورنس العرب .. بداية المغامرة
بالنسبة لمسألة إشتراكه في فيلم (لورنس العرب)، فيعتبرها عمر الشريف مغامرة
فنية وحياتية، حيث قال: (...كان لي في مصر بيت وزوجة وإبن، وكنت أعمل في
السينما المصرية ولي فيها مكانة، فغامرت بكل هذا وقلت وأنا ذاهب الى الأردن
بأنني لو نجحت كان بها، ولو لم أنجح سأرجع الى مصر حيث حياتي منتضمة...).
ونجحت المغامرة، بل وكانت بمثابة التجربة الفنية والحياتية الهامة في مشوار
عمر الشريف السينمائي. عامان كاملان من الإعداد والتصوير في صحراء الأردن،
كانا بمثابة المختبر الفني الحقيقي الأول بالنسبة لعمر.. تعلم من خلالهما
الكثير عن السينما والحياة، فقد تسنى له ـ ولأول مرة ـ معاشرة كبار
السينمائيين، أمثال: ديفيد لين، بيتر أوتول، أنتوني كوين، أليك جينس،
وغيرهم. كما تعلم منهم كيف يمثل بعينيه لا بحركات جسمه فقط، وكيف يعود الى
ذاته فيتصوف، وكيف لايرى النساء إلا خلال زياراته الخاطفة لبيروت مع صديقه
بيتر أوتول. ومن خلال (لورنس العرب)، وضع عمر الشريف نفسه أمام تجربة
المشوار الطويل، وأمام الفن العالمي الحقيقي، والذي لا يشبه في إنتاجه
وإخراجه وإمكانياته ما يعادله في السينما المصرية.
بعد فيلم (لورنس العرب)، ظهر عمر الشريف في عدة أفلام كبطل.. فقد جسد دور
جنكيزخان أمام الممثلة الفرنسية »فرانسواز دورلياك«، ولعب دور الكاهن في
فيلم (أنظر الحصان الشاحب) تحت إدارة المخرج الأمريكي »فريد زينمان« مع
»أنتوني كوين« و »جريجوري بيك«. عندها بدأ نجمه يلمع في السينما العالمية،
ويدأت وسائل الإعلام تتكلم عنه، خصوصاً عندما إختاره عبقري السينما ومكتشفه
عالمياً المخرج »ديفيد لين« للقيام بدور عمره في فيلم (دكتور زيفاجو) عن
رائعة »بوريس باسترناك«. وديفيد لين بخبرته ومقدرته الفنية، عرف كيف يستثمر
إمكانيات عمر الشريف التمثيلية، فأسند إليه الدور الرئيسي أمام »جولي
كريستي« و»جيرالدين شابلن«، وكانت الإنطلاقة الصاروخية.
بعدها، قام بدور تشي جيفارا، للمخرج »ريشار فليشر«، لكن الفيلم أنتقد
كثيراً، حيث لم يغفر له وجود عمر الشريف ومخرج ماهر ومتمكن. كما أنه وقف
أمام الإيطالية »صوفيا لورين« في فيلم (سقوط الإمبراطورية الرومانية)،
وأمام »إنجريد بيرجمان« في فيلم (الرولزرويس الصفراء)، ومرة أخرى مع »بيتر
أوتول« في فيلم (ليلة الجنرالات)، وأمام »كاترين دينوف« في فيلم
(مايرلينغ)، كما مثل في فيلم (ذهب ماكينا).
وفي عام 1967 مثل دور البطولة مع اليهودية »بربارا ستريسند« في فيلمين
الفتاة المرحة، إمرأة مرحة. وكانت ردود الفعل عند العرب ذلك الإستنكار
التام، خصوصاً وإن العمل في هذا الفيلم تزامن مع أحداث 1967 والهزيمة،
وعندما نشر في إحدى الصحف الأمريكية صورة لمشهد غرامي من الفيلم يجمع
الإثنين في قبلة، مالبثت الصورة أن وصلت الى القاهرة، ومن ثم نشرت مرفقة
بتعليقات مطولة تطالب بإسقاط جنسية هذا الذي باع وطنه بقبلة منحها الى
يهودية.
أما عمر الشريف، فيقول في هذا الصدد: (...تلقيت مكالمة هاتفية من وكالة
الأسوشيتد برس تسألني عن رأيي في هذه المقالات التي تنشرها الصحف المصرية
عني؟ فأجبت بالقول: إنني لا أهتم بإن أسأل فتاة عن جنسيتها أو مهنتها أو
ديانتها قبل أن أقبلها.. سواء على الشاشة أو في الحياة العامة...). كما
يضيف قائلاً: (...إنني أعارض فكرة التعصب القومي والديني، وأكره العنصرية،
بل أكره أي شيء يدفع بمجموعة من الناس الى إحتقار مجموعة أخرى من
الناس...).
بعد ذلك قدم عمر الشريف العديد من الأدوار العالمية، والتي تفاوتت في
المستوى الفني، مثل دوره في فيلم (السطو) مع »جان بول بلموندو«، وقيامه
ببطولة مشتركة مع البريطاني »مايكل كين« في فيلم (القرية الأخيرة).. وأفلام
أخري مثل: رصاصة بالتيمور، مرارة الحب، الحصان الأبيض، الخريف، وفيلم
(الموعد) أمام الممثلة »أنوك إيميه«، وفيلم (أكثر من معجزة) مع »صوفيا
لورين«، ثم فيلم (ثمار التمر الهندي).
وفي رده على من يتهمه بالفشل في إختياره للأدوار الجيدة لأفلامه، يقول
عمرالشريف: (...ماذا تنتظرون من ممثل مصري شاب لا يعرف شيئاً عن عالم
السينما في هوليوود، وعرضوا عليه دوراً رئيسياً في (لورنس العرب) مع عقد
يحتكر نشاطه الفني لمدة سبع سنوات لحساب شركة كولومبيا.. لقد كان هذا العقد
بمثابة عقد للعبودية...). ويشرح عمر ظروف تلك السنوات السبع العصيبة، حيث
كان يتقاضى خمسة عشر ألف دولار فقط عن كل دور يقوم به. لذلك ما أن إنتهت
مدة العقد ـ وكان عمره آنذاك 37 عاماً ـ حتى إنطلق باحثاً عن المال والمزيد
من الشهرة، وليقوم بأي دور لئلا يفوته القطار.
الأفلاس والعودة الى السينما العربية
قبل حوالي خمسة عشر عاماً، أو بالأحرى عام 1979، قام عمر الشريف بدور قصير
في فيلم (أشانتي) مع الممثل »مايكل كين«. هذا الفيلم ـ عموماً ـ يهاجم
العرب وبترولهم، ويصفهم بالجهل والتخلف. هذا إضافة الى أن الجزء الكبير منه
صور في صحراء النقب بفلسطين المحتلة، ومثل فيه بعض الممثلين الإسرائيليين.
وعلى هذا الأساس وقعت المقاطعة العربية على عمر الشريف بتهمة تعاونه مع
الصهاينة، بعد أن شنت الصحافة العربية حملة شعواء على الفيلم، وطالبت
بمقاطعة عمر الشريف وجميع أعماله.
أما عمر الشريف، فيبرر إشتراكه في هذا الفيلم، بقوله: (...عرض عليّ هذا
الفيلم وفيه الدور الرئيسي الثاني، والذي أداه الممثل الهندي فيما بعد، على
أساس إن الفيلم سيصور في المغرب.. وفي آخر لحظة قال المنتج إنه سيصور في
إسرائيل. قلت له: أنا لن أذهب الى إسرائيل، ليست لدي الرغبة في أن أصور في
إسرائيل. قال: إنك مضطر لأنك وقَّعت العقد، وأنا بعت الفيلم على إسمك. قلت:
هذا لا يهمني، لقد إتفقنا على المغرب ولن أذهب الى إسرائيل، فإعطي الدور
الى ممثل آخر، ولكنه قال: عليك أن تقوم بدور صغير حتى أستطيع أن أضع إسمك
على ملصقات الفيلم. فاقترح أن نصور في مدينة »بالرمو« في صقلية، ودفع ـ
بالضبط ـ مبلغ مائة ألف دولار مقابل التصوير لمدة أسبوع، وكنت في ضائقة
مادية حينها...).
هكذا تكلم عمر الشريف وبصراحة، بل إنه عاتن على البلدان العربية التي
لامته، والتي عندما أرادت إستثمار أموالها في السينما العالمية، بإنتاج
فيلم (الرسالة) للمخرج مصطفى العقاد، لم تفكر فيه تماماً، وأستعانت بالممثل
»أنتوني كوين«.. خصوصاً إن رأسمال الفيلم والمخرج والموضوع عربي، وهو منذ
سنوات يحمل إسم السينما والثقافة العربية في المحافل الدولية.. هذا مع
العلم بأنه كان في حالة مادية سيئة، ولم يعمل في أي فيلم خلال الأربع سنوات
التي سبقت إنتاج الفيلم. ويواصل عمر الشريف حديثه، فيقول: (...ثم أنني لم
أذهب الى إسرائيل، رفضت الذهاب.. فبماذا يتهمونني؟ لأني صورت فيلماً لم
أذهب من أجله الى إسرائيل؟ لقد شرحت كل هذا لجامعة الدول العربية، وعلى هذا
الأساس رفع الحظر، فماذا يريدون مني؟...).
في الحقيقة، إن هذه المقاطعة العربية، كانت ظالمة بالنسبة لعمر الشريف، وهو
الذي عانى الأمرِّين.. فبالإضافة الى الحرب العربية ضده على صفحات المجلات
والصحف العربية، كان هناك بالمقابل سطوة رأس المال الصهيوني على السينما
الأمريكية.. فعندما بدأ عمر الشريف مشواره نحو العالمية، وأصبح أحد خمسة
كبار في السينما العالمية، شنت عليه الصهيونية حملة شعواء مفادها إن عمر
كان طياراً سابقاً أغار على إسرائيل وقتل بني إسرائيل.
وبالرغم من كل هذه العقبات والمشاكل التي صادفها عمر الشريف في مشوار
حياته، إلا أنه لم يتوقف وواصل مسيرته السينمائية وحياته الخاصة كذلك،
والتي إقتصرت ـ في أكثر الأحيان ـ على ممارسة هواياته وإهتماماته في لعب
البريدج والسكربل وتربية الخيول، وإستمر في تنقله من لندن الى باريس الى
هوليوود وغيرها، حتى إستقر به المقام في باريس في بداية الثمانينات. وأصبحت
السينما بالنسبة إليه مجرد أكل عيش (كما يقول). فقد كان لا يشارك في أي
فيلم إلا إذا أحس بضائقة مالية. فهو يذكر ـ بصراحة ـ في إحدى مقابلاته
الصحفية بأن عمله في السينما يرتبط بخسارته على موائد البريدج، حيث يقول:
(...عندما كنت أترك صالة ألعاب بعد أن أكون قد خسرت كل نقودي، كنت أتصل
بمتعهدي كي يجد لي دوراً ما في أي فيلم...). ومعنى هذا بأن عمر الشريف قد
إنغمس في مباريات البريدج والسهر ومراهنات سبق الخيل، وإنشغل عن تقديم الفن
الحقيقي والجاد، ولهذا إنحسر نجمه لفترة طويلة، غير إنه ـ في نفس الوقت ـ
كان يعاني وحيداً، ويشعر دائماً بأن عليه أن يجتاز مرحلة حساسة من مراحل
التحدي الشخصي، وضرورة إثبات الوجود.. ذلك لأنه يريد أن يبرهن لنفسه
وللسينما العالمية التي خذلته، أن بإمكانه النهوض من كبوته الفنية، وإن
النجاح بالنسبة إليه لم ينته مع فيلم (الدكتور زيفاجو).
في هذه الفترة بالذات، أي في عام 1983، إختار عمر الشريف العودة الى
القاهرة، والى الفن المصري أيضاً، وذلك ليقوم بدور المليونير المصري
المشلول في فيلم (أيوب) التليفزيوني، والذي إختار قصته هو بعد أن أعدها
نجيب محفوظ، ومن ثم أخرجها المصري الشاب هاني لاشين، في أولى تجاربه
الإخراجية الروائية. إذاً يعود عمر الشريف للتمثيل في مصر، بعد كل هذه
القطيعة، منذ آخر أفلامه المصرية (المماليك) عام 1965. علماً بأن الكثيرين
قد إعتبروا هذه العودة بمثابة تأكيد للأفلاس الفني الذي يعيشه هذا الفنان
العالمي، ولكن عمر الشريف يرفض هذا الإتهام بشدة ويعتبره مجرد دعاية مغرضة.
عموماً، ليس هذا هو المهم، المهم هو العودة بحد ذاتها، والتي جاءت من خلال
التليفزيون وليست من خلال السينما، كما كان متوقعاً. يتحدث عمر الشريف في
هذا الصدد، فيقول: (...لقد فكرت في الأمر ووجدت بأن التليفزيون يحضى
بأغلبية ساحقة، فضلاً عن إنه يجمع العائلات في المنازل، ويقدم ـ وقتها ـ
مستوى أرقى من مستوى السينما. أما مسألة إسناد الإخراج لفنان مبتديء، فقد
إعتبرها البعض مغامرة محفوفة بالمخاطر. إلا أن عمر الشريف أعلن مستنكراً:
(...إطلاقاً، فلابد للشباب أن يأخذ فرصته ويثبت وجوده، وهذه الفرصة من
يعطيها له إلا نحن!! وهاني أخرج لي ثلاثة أفلام تسجيلية تتناول السياحة
والآثار في مصر، وهو شاب له فكر وأسلوب يميزانه عن غيره...).
بعد فيلم (أيوب)، تأتي المصادفة لتجعل من أحلام عمر في إثبات وجوده
عالمياً، واقعاً ملموساً، وذلك عندما تلقى عرضاً مغرياً للقيام ببطولة
المسرحية الإنجليزية (الأمير النائم)، على مسرح »هاي ماركت« الذي يعد من
أجمل مسارح العاصمة البريطانية. وقد قدمت هذه المسرحية من قبل، حيث قام
ببطولتها إمبراطور المسرح البريطاني الممثل الراحل »لورنس أوليفيه«،
وإستكمالاً لنجاح المسرحية، تم إنتاجها في فيلم لعب فيه »أوليفيه« دور
البطولة أمام فاتنة السينما »مارلين مونرو«.
لقد تردد عمر في البداية بقبول هذا الدور، إلا أنه تراجع تحت إصرار المخرج،
ورصده لتجربة زميليه »يول براينر« في مسرحيته (الملك وأنا)، و»أنتوني كوين«
في تجربته المسرحية (زوربا اليوناني). عندها أدرك عمر بأن هذه الفرصة
مثالية، لكي يثبت للجمهور كفاءته كممثل من جهة، ومن جهة أخرى ينقذ نفسه من
الإنهيار ويتخطى مرحلة الضياع والوحدة.
فنجح عمر الشريف ونجحت المسرحية، فلا يكاد يمر يوم إلا ويكون الحديث عن
الإثنين حافلاً بالإعجاب والتقدير من قبل المتفرجين، كما إن الصحافة
البريطانية والعالمية والعربية أيضاً، قد أنصفت عمر في النجاح الذي حققه
عبر هذه المسرحية، فكتبت عنه الكثير وأضاءت له شموعاً جديدة في عالم الشهرة
والنجومية. وعندما تحدث عمر عن هذا النجاح، فقال: (...لم أقبل الدور سعياً
وراء شهرة.. ما كنت أبحث عنه هو رضى النفس عن النفس...).
وقد إستمر عرض المسرحية أكثر من ستة أشهر، كانت بمثابة عودة الروح لهذا
الفنان، بعد قيامه بالتمثيل في العديد من الأفلام غير الناجحة، بإعتبارها
جاءت عن غير إقتناع تام. يتحدث عمر عن هذه الأفلام، فيقول: (...لقد أعطتني
الأفلام السيئة حياة جيدة، ولكن الأزمة التي قامت إنما كانت بيني وبين
نفسي.. لقد كرهت نفسي بسبب تلك الأفلام، لذلك إنطلقت وراء الليل وميادين
السباق وطاولات البريدج، على أمل أن يؤدي كل هذا الى يقظة الطموح في أعماق
نفسي، وعندما جاء عرض المسرحية قبلت به وأنا أدرك تماماً ما أنا مقبل
عليه.. إنها مسرحية مرحة لا تحتاج الى الكثير من الذكاء أو التذاكي. لقد
جعلتني هذه المسرحية أشعر بأنني قد إستعدت شبابي، وقلبت موازيني، فما عدت
أحب لعب البريدج ولا التردد على ميادين السباق...).
بعد ذلك، أي في النصف الثاني من عقد الثمانينات، إشترك عمر الشريف في عدة
أعمال فنية، مثل قيامه بدور آخر قياصرة روسيا في الفيلم التليفزيوني
(ناتاشيا)، ثم قيامه بدور أحد الكهنة المقربين لأحد قياصرة روسيا في فيلم
(بطرس الأكبر) الذي أنتجته محطة التليفزيون الأمريكي »إن.بي.سي« وتكلف
إنتاجه ستة وثلاثين مليون دولار.
وفي عام 1989، عاد عمر الشريف الى السينما المصرية ليقوم ببطولة فيلم
(الأراجوز)، الذي أثبت فيه بأنه مازال النجم »عمر الشريف«. فقد لاقى هذا
الفيلم نجاحاً فنياً وجماهيرياً، وإستقبلته المهرجانات بشكل يليق به، حيث
حصل على الجائزة الثالثة مع شهادة تقدير لعمر الشريف في مهرجان فالنسيا
الدولي في أسبانيا.. كما حصل ـ قبل ذلك ـ على الجائزة الأولى مناصفة مع
جائزة خاصة لعمر في مهرجان الإسكندرية السينمائي.
الى هنا نكون قد وصلنا الى ما وصل إليه عمر الشريف في مشواره مع النجومية،
منذ ظهوره كفتى أول في السينما المصرية، ثم إنطلاقته الى السينما العالمية،
حتى رجوعه ـ مرة أخرى ـ الى السينما المصرية. |