يعتبر (بداية ونهاية)، والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للروائي الكبير نجيب
محفوظ، من أهم ما قدم للسينما من أدب نجيب محفوظ، حيث أن عدداً ليس بالقليل
من المخرجين قدموا روايات وقصص لمحفوظ، إلا أن ارتباط اسم محفوظ (الروائي
الواقعي) باسم أبو سيف (السينمائي الواقعي) يعتبر مثالاً لذلك التجانس
الأدبي والفني المتميز، والذي أثمر أعمالاً سينمائية جيدة وقوية في المضمون
الفني والتقني. وفيلم (بداية ونهاية) يعتبر من أهم ثمرات هذا التجانس.
لقد اشترك أبو سيف في كتابة سيناريو الفيلم مع السيناريست صلاح عز الدين،
وكانت مهمة صعبة وشاقة، حيث كانت الرواية حافلة بالأحداث والشخصيات. ومن
الطبيعي في أن قاريء الرواية سيكتشف بعد مشاهدته للفيلم، بان ما يعرفه عن
الأحداث كان أكثر مما شاهده، حيث إن أقصى ما يستطيع أن يحققه كاتب
السيناريو من نجاح ـ عند تحويله هذه الرواية بالذات إلى السينما ـ هو
التوفيق في الاحتفاظ بالجو العام والمضمون الذي تحمله الرواية. وهذا بالضبط
ما وفق فيه كاتب السيناريو، حيث لجأ إلى الحذف الكامل لبعض الفصول من
الرواية، والدمج بين أحداث فصلين أو أكثر، وذلك بعمليات وتصرفات فنية
مشروعة.
ثم أن رواية "بداية ونهاية" نفسها تعتبر من أكثر روايات محفوظ قابلية
للترجمة السينمائية، فقد احتوت على العديد من المميزات التي تساهم في ذلك.
فبالإضافة إلى البناء المعماري للرواية، والذي يتشكل في خطوط درامية تلتقي
في نقطة واحدة، وذلك النمو الطولي للأحداث.. كل هذا ساعد كثيراً على خلق
وحدة درامية مناسبة للفيلم. ثم أن ترتيب الفصول والأحداث داخل الرواية قد
أوحى بإمكانية عمل صياغة بين تطور العلاقة بين شخصيتي (نفيسة، سلمان) من
جانب، وبين شخصيتي (حسنين، بهية) من جانب آخر.
لقد نشرت رواية بداية ونهاية عام 1949، وتعتبر من أنضج روايات تلك المرحلة
التاريخية. فقد اهتم نجيب محفوظ فيها بتصوير تفاعل العلاقات الاجتماعية من
جانب، وتصوير الواقع الحضاري للمجتمع من جانب آخر.. هذا إضافة إلى البحث في
التكوين الذاتي لنفسية الفرد وعلاقته بهذا المجتمع.
"البداية" هي موت الأب، و"النهاية" هي تفسخ الأسرة وانهيارها، لتتخذ هذه
المأساة ذلك الشكل التراجيدي القاتم، لكونها أصابت تلك الأسرة النموذج،
والتي تنتمي للشريحة القابعة في قاع الطبقة المتوسطة أو الفقيرة، والتي
تعاني من التكوين الهش والكيان الاجتماعي الممزق، وتلك القيود والتقاليد
التي تتصادم بشدة مع واقعها. فبعد موت العائل الوحيد للأسرة، لا يفصلها عن
اللحاق به في قبره سوى قطع الأثاث التي أخذت تذوب في أمعائهم شيئاً فشيئاً.
إلا أن تواطؤ المجتمع اللاإنساني الذي يترك أبناءه يعيشون في مثل ذلك الفقر
والعوز بلا تأمين أو ضمان، إضافة إلى العوامل الذاتية لكل شخصية، قد أدى
إلى سقوطها الحتمي. فالابن الأكبر "حسن" هو نموذج للبلطجي الجاهل، والذي
ينتهي إلى عالم الإجرام مروجاً للمخدرات. والابنة "نفيسة" هي نموذج للعانس
القليلة الحظ في كل شيء، المال والجمال والعلم، غير إن غريزتها متأججة لا
تهدأ.. لذلك تنتهي إلى الاتجار بعرضها وتنتحر بتحريض من شقيقها الأصغر
"حسنين". وهذا الـ"حسنين" هو أيضاً نموذج الأناني المتطلع طبقياً، والذي
يصطدم في النهاية بالحواجز الطبقية لتحول بينه وبين ركوب الطبقة الأعلى،
وذلك بفشله من الاقتران بإحدى بناتها، ليفيق على واقعه الأليم في ضياع
الحاضر والمستقبل، فيلحق بشقيقته متطهراً في مياه النيل. هذا بينما الأم
نموذج الحزم والصرامة، تقف كربان سفينة تحاول عبثاً، ومعها الابن الأوسط
"حسين" نموذج المثقف الذي لا يتردد ـ عند الاختبار ـ عن التضحية بمصلحته من
أجل منفعة الأسرة ومصلحتها.
هذا هو الفيلم الذي أبدعه مخرجنا صلاح أبو سيف، مستخدماً كافة أدواته
الفنية ليصنع بها قصيدة سينمائية واقعية. ثم إذا كان السيناريو قد وصل إلى
ذلك النضج الفني والاقتراب من مفهوم الرواية، فان أبو سيف قد استفاد كثيراً
من التقارب في المزاج والأسلوب الفني بينه وبين نجيب محفوظ، بل وسخر كامل
خبرته السينمائية في الوصول إلى مستوى فني جيد في ترجمته للرواية.. فقد
تعددت إمكانيات الصورة السينمائية لديه، من خلال الممثل والكادر السينمائي
وزوايا الكاميرا وحركتها والديكور والملابس والإضاءة والمونتاج، هذا إضافة
إلى عنصر الصوت من موسيقى ومؤثرات سمعية. ثم التكوين العام الذي يجمع بين
عناصر الصورة المتنوعة.
لقد نجح صلاح أبو سيف في توظيف جميع هذه العناصر الفنية والتقنية توظيفاً
متناسباً ومنسجماً مع أحداث الرواية وشخصياتها، معطياً للمتفرج لوحات بصرية
تميزت بالأصالة والصدق العميق. |