انه فريد شوقي.. فنان يكرمه كل فنان.. وإنسان عملاق أشاخته الأضواء فزادته
ألقاً، وأرجعته محبة الناس سنوات عدة إلى الوراء، حتى صار النجم نجماً..
واستمر النجم نجماً.. وكسر النجم قواعد الشباب والقد الوسيم، والوجه الحسن،
والشعر المصفف بعناية. هذا الفنان الذي رحل عن عالمنا مؤخراً، تاركاً ورائه
إرثاً فنياً زاخراً بالإنجازات الكبيرة. ونحن هنا في أمسيتنا هذه سنقف
طويلاً أمام مشوار هذا الفنان الفذ، ونتحدث عنه طويلاً. لكن لماذا نحفر في
أيام وليالي فريد شوقي نستخرج منها تفاصيل عمره؟ تفاصيل النجم الذي كبر مع
الزمن، ولم يكبر على الزمن؟ لماذا نتحرك داخل العملاق، ونظراته تكاد تنبئ
عن المضمون؟ هذه النظرات المشعة من خلال عينين أكل التعب بياضهما، فبانت
الهالة السوداء المتحرقة حول جفنيه؟ لماذا نكتب عن الرجل الذي رحل بعد أن
أرهقه المرض أصيب بثلاث نوبات قلبية حادة ؟ ألانه آخر العمالقة؟ ألان قلبه
لم يتحمل كل هذه السنوات وهذا المشوار الفني الطويل؟ أم لأن النجم يحمل
عدداً من الألقاب والأوسمة، لو تجمعت في جسد واحد لملأته غروراً.
ومن خلال صوره الأخيرة التي نشرتها الصحف بعد وفاته، لاحظنا كم كان هذا
الجسد المتعب يعاني كثيراً، وهو بالفعل يعاني منذ زمن طويل، حيث لم يتبقى
من النجم فريد شوقي، في السنوات العشر الأخيرة، غير جسد مفتوح على كومة من
شحم، ولنقلها بصراحة !! لم يتبقى له غير هذا الشعر الصناعي الموضوع على
رأسه، وغير هذه الانتفاخات المحصنة حول عينيه، وغير هذا الفم الذي زرع أيضا
بالأسنان الصناعية. وهل كان الشكل عند فريد شوقي، جواز مرور لشهرته التي
حيرت الجماهير حتى الآن ؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد انتهى النجم منذ زمن
بعيد، ولكن هذا لم يحدث، لأن الطلة الجامعة، الواصلة بين فريد وبين
الجماهير ما زالت موجودة وستظل كذلك. هذه الطلة نختصرها بحسن الأداء، وعمق
التجربة الفنية، وطيبة القلب، وقوة الشخصية، والسيطرة على أضواء الكاميرا،
كأنه شبح يبتلع الأضواء، ولا تبتلعه الأضواء أبدا.
لم يكن فريد شوقي فناناً كبيراً فحسب.. بل كان أسطورة، إتسعب وتعمقت منذ
الاربعينات وحتى وقتنا الراهن. راهن على الفن كسلاح وحيد لمناهضة آثام
البشرية من شرور وجريمة وقبح، وحتى التطرف، وبالتالي هو فنان مسكون بالفن
وللفن. ولهذا عندما شعر ان جسده لا يطاوعه على الحركة والنشاط وأداء
الرسالة .. كان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البطل.
لأجل ملك الترسو نتذكر ونحكي .. نحكي عن وحش الشاشة.. عن زوربا المصري،
ونجم الشباك الشعبي الأول.. نحكي عن القلب المرهف والمتعب، ونجمع كل
تصريحات النجم، وننبش في مذكراته من البداية، ونفتش عن كل أشيائه المتعثرة،
ثم نجمعها معاً، عبر هذه الأمسية المتواضعة، لتكون عرفاناً بما قدمه النجم
الكبير فريد شوقي للسينما والفن والجماهير التي أحبته كثيراً.. ولتكن نوعاً
من المذكرات التي نحرص على عدم ضياع تفاصيلها فالرجل قد رحل متعباً، وودع
شبابه ودخل في الشيخوخة الصعبة قبل وفاته بسنوات، هذا بالرغم من أن النجم
بقى نجماً، وسيبقى في ذاكرة جماهيره ومحبيه. وذاكرتنا ما زالت تعي.. إن
فريد شوقي دخل السينما المصرية من باب كره الجمهور له. كرهه الناس في
أدواره الأولى للشرر الذي كان يتطاير من عينيه، وللشر الذي كان يتطاير
كلمات مدسوسة من خلال شفتي. كان فريد شوقي في أدواره الأولى مفرق الأحبة
وهادم البيوت، ثم صار شيئاً فشيئاً ملك البوكس والمشاكسات الشوارعية، التي
ينتصر فيها دائماً على زميله الراحل محمود المليجي. لم انعطف فريد، في
اللحظة المناسبة من عمره، نحو أدوار الطيبة.. الأدوار الاجتماعية التي تحمل
عدة مضامين مأساوية. فأحبه الناس في الحاضر، كما أحبوا رجولته في الماضي..
أحبوا في السابق بطلهم المنقذ الذي يطارد عصابة المليجي، ويفتح في رأي
المتمردين جرحاً كبيراً بضربة رأسه المشهور. فهل يستمر البطل بطلاً في
ذاكرة الجماهير العريضة، وهو الذي ودع هذه الدنيا ورحل..؟؟
كان لا بد أن ينعطف فريد شوقي نحو الجمال، بعدما جسد القبح.. وكان لا بد
لنا أن ننعطف مع زوربا المصري لندور حول كل تفاصيل حياته، وهل لنا من مفر
إلا أن نسجل بدايات النجم يوم كان طفلاً صغيراً؟ من هنا نبدأ، من ملامحه
الأولى، من الطفل الذي عشق الفن، حتى أخذ الفن كل شبابه.. وما أعطاه إلا
محبة الجمهور.. والجمهور دائماً يجازي أطفاله وأبطاله بالخير.. ولا ينكر
عليهم الفضل، في انهم كانوا سوبرمان العصر.. رواد السينما المصرية الحديثة.
الولادة والنشأة
ولد فريد في حي البقالة بالسيدة زينب، ونشأ في حي الحلمية الجديدة، حيث
انتقلت إليه الأسرة. وهذا الحي يتوسط عدة أحياء وطنية قديمة، كأحياء السيدة
زينب والقلعة والحسين والغورية وعابدين وشارع محمد علي وباب الخلق. وتلقى
دراسته الابتدائية في مدرسة (الناصرية) التي حصل منها على الابتدائية عام
1937 وهو في الخامسة عشرة، ثم التحق بمدرسة الفنون التطبيقية وحصل منها على
الدبلوم.
ونشأ فريد شوقي وسط عائلة مصرية ذات أصل تركي، فجده لأبيه عبده بيك شوقي
كان موظفاً بقصر عابدين وهو من أب تركي وأم مصرية. وجده لأمه محمد بيك أسعد
المهندس السابق بالسودان، وهو من أم مصرية وأب تركي. والده هو محمد عبده
شوقي، الذي كان يعمل مفتشاً بمصلحة الأملاك الأميرية بوزارة المالية. وكان
خطيباً وطنياً ثائراً من أعضاء الوفد المصري المتحمسين للزعيم سعد زغلول.
وكان أيضاً خطيباً بارعاً على المنابر السياسية، لدرجة أن سعد زغلول أطلق
عليه لقب (بلبل السيدة زينب). وإذا عدنا إلى قائمة أسماء طلبة أول معهد
حكومي للتمثيل في عام 1930، فانك ستجد اسم الوالد بين أسماء هؤلاء الطلاب
والطالبات الرواد في المسرح المصري، وهم: زوزو حمدي الحكيم، روحية خالد،
جمال مدكور، محمود السباع، محمد توفيق، عبد العليم خطاب، إبراهيم عزالدين،
يوسف حلمي المحامي، أحمد بدرخان الذي رسب في امتحان القبول. وقد التحق بهذا
المعهد لدراسة فن الإلقاء، الذي يعتبر أساس الفن التمثيلي. وكان من بين
مدرسيه الدكتور طه حسين، الدكتور زكي مبارك، زكي طليمات، جورج أبيض، عبد
الرحمن رشدي، ونجيب الريحاني.
كان للجانب الوطني أثر كبير في حياة فريد شوقي العائلية، فقد فتح عينيه على
الحياة ليعيش مأساة وطنية في محيط الأسرة. فقد أعدم زوج عمته الشهيد الوطني
(محمود إسماعيل) مع آخرين في قضية مصرع (السير ستاك) سردار الجيش المصري
وحاكم السودان، في 19 نوفمبر 1924. وكان ذلك أثناء تولي الزعيم سعد زغلول
رئاسة الوزارة لأول مرة بعد افتتاح أول برلمان دستوري. وأدى ذلك الحادث إلى
استقالة سعد زغلول وحل البرلمان. لذلك نشأ فريد شوقي منذ الصغر مع أحداث
تلك المأساة الوطنية.. نشأ وطنياً متحمساً، فعندما كان في الثالثة عشرة،
خرج في مظاهرة مع أقربائه تلاميذ المدرسة الابتدائية في ثورة عام 1935 التي
كانت تطالب بعودة الدستور.
وإذا كان فريد يردد دائماً (إن التمثيل حياتي)، فقد كان التمثيل فعلاً هو
حياته منذ الطفولة. كانت مدرسته الأولى التي تلقى فيها أول درس في التمثيل،
هي مدرسة أبيه الطالب في أول معهد حكومي للتمثيل، والذي أنشأه على تذوق فن
التمثيل. وكان الأب صديقاً للكاتب المسرحي (عبد الجواد محمد) والد المخرج
السينمائي (محمد عبد الجواد)، الذي كان سكرتيراً لفرقة رمسيس ومؤلفاً
ومترجماً للكثير من مسرحيات الفرقة. ولهذا كان الوالد حريصاً على مشاهدة كل
مسرحيات الفرقة، مصطحباً معه ابنه فريد، وهو تلميذ بالسنة الأولى
الابتدائية.
عشق الطفل الصغير أضواء المسرح، وألهبت خياله الحياة المسرحية. فقد رأى
يوسف وهبي الممثل ابن الذوات في مسرحيات (راسبوتين، كرسي الإعتراف، غادة
الكاميليا، الذبائح، أولاد الذوات، أولاد الفقراء، أولاد الشوارع). ولم يكن
في طفولته وصباه يدرك بالطبع لتلك المسرحيات معنى، لكنه عشق حياة الأضواء
وتقلب الممثلين بين الفقر والغنى، وتمثيل أدوار الشجاعة والإقدام. وعلق
بذاكرته شيء واحد هو مشاهد العنف التي تجري أمامه على الخشبة، حيث يتفنن
يوسف وهبي في قتل أبطال مسرحياته شنقاً أو خنقاً أو بطلقات الرصاص. ولهذا
أصبح المسرح حلم حياته، وتقمص جسده شيطان اسمه المسرح، وأصبح يوسف وهبي
مثله الأعلى في الحياة. فكان يجمع أقرانه من صبيان الحي ويمثلون مشاهد
المطاردات والمغامرات بين العسكر والحرامية في مساحة أرض أمام البيت، وكان
يقوم هو بدور الفتى الشرير. وعشقه للفن قد جعله يسرق بعض الأخشاب من عمارة
مجاورة وذلك لعمل منصة للمسرح، وأثناء التمثيل فوجئ بالشرطي ينزله من فوق
المسرح ويقوده إلى قسم الشرطة. ولم تكن هذه السرقة الوحيدة في حياة فريد
شوقي، فقد اعترف للصحافية (ايريس نظمي) بأنه لم يقنع في تلك الأيام بان
يكون ممثلاً ومخرجاً فقط، بل أراد أيضاً أن يكون مؤلفاً، فسطا على مسرحيات
يوسف وهبي، ونسبها إلى نفسه كمؤلف بعدما أدخل عليها بعض التغييرات، وقام
بتمثيلها مع فرقته باسم (الفاجعة). وأعلن بالخط العريض، كما كان يفعل يوسف
وهبي في الإعلان عن مسرحياته (أن المسرحية من تأليف وتمثيل وإخراج فريد
شوقي).
ولما التحق بعد ذلك بمدرسة الفنون التطبيقية، كان يعد له القدر مفاجأة
للاستمرار في هواية التمثيل، فقد وجد فيها فرقة مسرحية يقوم بتدريبها
المخرج المسرحي الأول عزيز عيد، فانضم إليها وتتلمذ على يد عزيز عيد، الرجل
الذي تتلمذ على يده عمالقة المسرح المصري، واكتشف من قبل روز اليوسف ونجيب
الريحاني ويوسف وهبي وفاطمة رشدي، وضحى بحياته في سبيل المسرح، ولم يجمع
ثروة. فكان أول درس تعلمه منه طالب الفنون التطبيقية فريد شوقي، هو حب
المسرح.
البداية كانت في المسرح
وبالرغم من انغماس فريد في جو الحياة الفنية، بالتمثيل مع فرق الهواة
والتردد على المسارح في شارع عماد الدين ليمثل أدوار الكومبارس في فرق يوسف
وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار وفاطمة رشدي وجورج أبيض، فانه استطاع
أيضاً الحصول على دبلوم مدرسة الفنون التطبيقية، ويلتحق موظفاً مع أبيه في
وظيفة بالدرجة الثامنة وبمرتب ستة جنيهات بمصلحة الأملاك الأميرية. لكن
الوظيفة لم تشغله عن نشاطه المسرحي، فقد كانت من بين زملائه في حي السيدة
زينب والحلمية الجديدة، مجموعة من هواة التمثيل لمعت أسماؤهم فيما بعد،
أمثال: عبد الرحيم الزرقاني وعلي الزرقاني وأحمد الجزيري وكمال اسماعيل
وعبد الحميد جاويش وحسن الفكهاني المحامي والناقد الفني عبد الفتاح
البارودي. جمعت بينهم هواية التمثيل، وكونوا فرقة مسرحية أطلقوا عليها اسم
(الرابطة القومية للتمثيل)، وكان مقر الفرقة حجرة واحدة بإيجار شهري لا
يزيد على الثلاثين قرشاً في شارع الشيخ البقال. وكان عبد الفتاح البارودي
هو المدير الإداري للفرقة، وعبد الحميد جاويش المدير الفني. وكتب علي
الزرقاني مسرحية الافتتاح بعنوان (الضحية) وتولى إخراجها المدير الفني.
وقدمت على مسرح (برنتانيا) بشارع عماد الدين وقام ببطولتها فريد شوقي أمام
ممثلة غير معروفة. وواصلت هذه الفرقة نشاطها وقدمت مسرحية أخرى تولى
إخراجها في ذلك الوقت (أنور وجدي) لقاء أجر لا يزيد على خمسة جنيهات،
واشترك في تمثيلها مع الفرقة زوزو حمدي الحكيم وإحسان الشريف. وفي أثناء
عمله بمصلحة الأملاك الأميرية، التحق أيضا مهندساً بدائرة الأميرة نعمت
مختار التي كانت تمتلك وقتئذ ستة آلاف فدان. وساعده دخله من تلك الوظيفة
الإضافية على أن يصبح من أصحاب السيارات، ويشتري سيارة (أوستن) قديمة
بالتقسيط.. وكان قسطها الأول مبلغ ثلاثين جنيهاً.
في عام 1945 افتتح المعهد العالي للتمثيل في مدرسة علي عبد اللطيف في حي
المنيرة، فتقدم للالتحاق به ألفا طالب وطالبة لم ينجح منهم سوى خمسة عشر
طالباً وطالبة فقط، وهم فريد شوقي وشكري سرحان وحمدي غيث ونبيل الألفي
وصلاح منصور وعبد الرحيم الزرقاني وعلي الزرقاني وسعيد أبو بكر وعمر
الحريري وكمال حسين وأحمد الجزيري ونعيمة وصفي وزينب عبد الهادي وعزيزة
حلمي وفاتن حمامة. ولحق بهم فيما بعد أحمد سعيد وتوفيق الدقن وعبد الفتاح
البارودي ويوسف الحطاب ومحمد السبع وزكريا سليمان وسعد أردش وأنور فتح الله
وعدلي كاسب ونور الدمرداش وعبد الغني قمر ولطفي عبد الحميد وأحمد اباضة
وسميحة أيوب وسناء جميل وبرلنتي عبد الحميد وزهرة العلا وراجية محسن ونادية
السبع وانشراح الألفي.
كان فريد شوقي وقتئذ في الثالثة والعشرين، فتى عملاق مديد القامة عريض
المنكبين صارم الملامح، لا يصلح لتمثيل دور الفتى الوسيم الأول. وكان
مطلوياً من الطالب ليجتاز امتحان القبول، أن يقدم مشهداً تمثيلياً أمام
لجنة الامتحان التي كانت برئاسة محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية فيما
بعد، والذي كان يشغل وقتئذ منصب رئيس مجلس إدارة المعهد، وعضوية العميد زكي
طليمات والأساتذة. واختير فريد شوقي لتمثيل دور من أدوار (الغراند بريمييه)
أي أدوار الشيوخ الكبار، وهو دور الكاهن الأكبر (انوبيس) في مشهد من
المسرحية الشعرية (مصرع كليوباترا) لأمير الشعراء أحمد شوقي، أمام الطالبة
الجديدة زينب عبد الهادي - التي سوف يكون له معها فيما بعد تاريخ - والتي
قامت بتمثيل دور الملكة كليوبترا. نجح فريد في امتحان القبول وجلس بين صفوف
أبناء جيله من هواة التمثيل الموهوبين، يتلقون الدراسات والمحاضرات من كبار
الأدباء والفنانين الذين كان على رأسهم الدكتور طه حسين والدكتور زكي مبارك
والدكتور محمد مندور وزكي طليمات وجورج ابيض واحمد علام وفتوح نشاطي ودريني
خشبة.
وكانت هناك جمعية اسمها (جمعية خريجي فرنسا وبلجيكا وسويسرا) كان من بين
مؤسسيها زكي طليمات، فكان يقيم فيها حفلات ويحييها الطلاب والطالبات. وفي
إحدى تلك السهرات، قدم فريد شوقي بالاشتراك مع زميلته فاتن حمامة أمسية
شعرية تباريا فيها في إنشاد قصيدة (الليالي) للشاعر الفرنسي الفريد دي
موسييه، مترجمة باللغة العربية. وفي عيد ميلاد الملك فاروق يوم 11 فبراير
1946، احتفلت الأميرة (شيوه كار) الزوجة السابقة لوالده الملك احمد فؤاد،
بإقامة حفل في قصرها شهده الملك. وقدم فيه فريد شوقي بالاشتراك مع فاتن
حمامة وطلاب وطالبات المعهد عرضاً مسرحياً لملحمة (الأسرة العلوية) تأليف
محمود بيرم التونسي وإخراج زكي طليمات. وفي العام التالي، أقيم امتحان
التخرج على مسرح دار الأوبرا الذي يقدم فيه الطالب أو الطالبة بالاشتراك مع
الزملاء مشهداً تمثيلياً من إحدى المسرحيات. واختاره زكي طليمات وقتئذ
ليقوم ببطولة مسرحية (الجلف) ذات الفصل الواحد للكاتب الروسي أتنطون تشيكوف
أمام زميلته عزيزة حلمي التي قامت بدور السيدة الأرملة (ألينا بوبوفا).
دبلوم التمثيل
حصل فريد شوقي على دبلوم المعهد العالي للتمثيل، مع الفوج الأول من
الخريجين واستقال من وظيفته الحكومية، مع الاحتفاظ بعمله الإضافي في دائرة
الأميرة نعمت مختار، وبدأ يبحث عن الفرصة المناسبة لتطبيق العلم على العمل.
وكان فريد قد اشتهر بشخصية (الجلف) التي نال عليها الدبلوم، ورشحته تلك
الشخصية للتخصص في تمثيل أدوار الشر على المسرح والشاشة، واتجه إلى احتراف
التمثيل فيما بعد. فرح به والده بعد حصوله على الدبلوم في التمثيل، الذي
حقق به أملاً عزيزاً كان يتمناه لنفسه، عندما التحق بأول معهد حكومي
للتمثيل. ولهذا ذهب به إلى صديقه يوسف وهبي وقدمه إليه ليضمه إلي فرقته
كموهبة جديدة. فرحب به عميد المسرح العربي وعينه في فرقة رمسيس بالمرتب
نفسه في الوظيفة الحكومية، وهو ستة جنيهات.
وكان يوسف وهبي قد علم بنجاحه في شخصية الجلف، فرشحه لإعادة تمثيل أدوار
ملك أدوار الشر في مسرحياته (محمود المليجي). وقد أسعده ذلك كثيراً لأنه
كان معجباً بالمليجي كأستاذ في هذا الفن. كان من بين المسرحيات التي اشترك
في تمثيلها، مسرحيات (بيت تهدم، بنات الريف، أولاد الفقراء، أولاد الشوارع،
الشيطان، رجل الساعة، المائدة الخضراء). كما سبق له التمثيل في فرقة جورج
ابيض في مسرحية (صلاح الدين الأيوبي)، وفي فرقة فوزي الجزايرلي ونجيب
الريحاني وعلي الكسار وفاطمة رشدي، حيث يقوم بثلاثة أدوار لا رابع لها، أما
دور الخادم أو دور العسكري أو دور الحرامي.
وفي عام 1950 تأسست فرقة (المسرح المصري الحديث) برئاسة زكي طليمات لتستوعب
خريجي وخريجات المعهد وعددهم خمسة وعشرون فناناً وفنانة كان فريد من بينهم،
حيث كان التعيين بالفرقة وقتئذ بمرتب قدره اثنا عشر جنيهاً. واستهلت الفرقة
نشاطها بقديم الروائع العالمية، مثل: (مريض بالوهم، طبيب رغم انفه،
المتحذلقات، مدرسة الإشاعات). لكن أدوار البطولة أخطأته في تلك الروائع
العالمية، فلم يستمر طويلاً في تلك الفرقة، وقدم استقالته أو أقيل منها
ليتفرغ لنشاطه السينمائي. وكان قد رشح مع زميله حمدي غيث ونبيل الألفي
للسفر إلى بعثة إلى الخارج لدراسة الإخراج المسرحي، لكنه اعتذر عن قبول تلك
البعثة بسبب ارتباطه بالعمل السينمائي.
السينما تعني التنوع والشهرة
فريد شوقي نجومية تلمع منذ الخمسينات مع بداية ثورة يوليو 52، رغم ان
بدايته تعود الى الاربعينات. كان في الاربعينات يلعب السينما بمقياس
السينما وقانونها السائد، المخرجون الذين يتعاملون مع نجوم لهم وسامة حسين
صدقي وأنور وجدي وكمال الشناوي، لا يمكن ان يفسحوا لفريد شوقي المجال لكي
يقف ولو في آخر صف هؤلاء النجوم، ولهذا كان عليه ان يقدم دور الشرير
باسلوبه النمطي في تلك السنوات، الفنان الشرير الذي يرفع حاجباً وينزل
الآخر، والذي يكشر عن انيابه ولسان حاله يهتف.. انا الشرير والشرير انا.
وجاءت الثورة وتغير توجه الجمهور وتعانق فريد شوقي مع سينما صلاح ابوسيف،
بعد ان كتب قصة (الاسطى حسن)، لينجح الفيلم الذي اعتبر أحدى العلامات
لبداية الواقعية في السينما المصرية، ويكسب فريد العديد من النقاط في مشوار
النجومية، وتنهال عليه العروض السينمائية. فيقدم افلام (حميدو، رصيف نمرة
5، النمرود). ويواصل صناعة اسمه، فيكتب وينتج في عام 54 فيلم (جعلوني
مجرماً) الذي اخرجه عاطف سالم. وفي عام 56، يلحظ جمال عبد الناصر نجومية
فريد الخاصة، وانه وحش الشاشة وملك الترسو، فيستدعيه ويطلب منه ضرورة ان
يقدم فيلماً عن بور سعيد. ثم يتحول فريد شوقي الى نجم جماهيري، لدرجة ان
الموزع الخارجي يسأل قبل ان يتعاقد على الفيلم عن عدد الخناقات التي تجمع
بين فريد شوقي ومحمود المليجي، واذا كان العدد ملائماً.
وإذا أردنا أن نتذكر معاً أدواره وشخصياته التي تقلب فيها على الشاشة،
فإننا سنجد أن غالبية أفلامه تندرج في نوعية الفيلم البوليسي. فالكثير منها
يدور حول الجريمة، التي يقوم فيها الصراع بين المجرم والبوليس. وإذا كانت
أفلامه فيما عدا القليل من الجانب العاطفي بين الفتى الأول العاشق والفتاة
الأولى المعشوقة، التي لا تنطبق عليه مواصفات الفتى الأول الوسيم فانه من
الممكن تقسيم أفلامه إلى خمس نوعيات، وهي: السينما البوليسية، السينما
الاجتماعية، سينما الفروسية، السينما التاريخية، السينما السياسية
والوطنية، والسينما الفلسفية.
# ومن الافلام التي تمثل السينما البوليسية:
جعلوني مجرماً، رصيف نمرة خمسة، سلطان، الأخ الكبير، أريد حباً وحناناً،
الثعلب والحرباء.
# ومن الافلام التي تمثل السينما الاجتماعية:
الاسطى حسن، النمرود، حميدو، المجد، زهرة السوق، سكرتير ماما، دماء على
النيل، ابن الحتة، الفتوة، وبالوالدين إحسانا، دعاء المظلومين، الجنة تحت
قدميها، القضية المشهورة، إبليس في المدينة، الزوج العازب، ساحر النساء،
أيام العمر معدودة، حساب السنين، أنا الدكتور، سلطانة الطرب، بداية ونهاية،
كفاني يا قلب، ومضى قطار العمر، أفواه وأرانب، قطة على نار، حالة خاصة
جداً، حب فوق البركان، حب لا يرى الشمس، هكذا الأيام، طائر على الطريق،
الباطنية، شاطئ العنف، البؤساء، كلمة شرف، دموع في ليلة الزفاف، الخبز
المر، أنا المجنون، عيون لا تنام، حكمت المحكمة، وخرج ولم يعد.
# ومن الافلام التي تمثل سينما الفروسية والفتونة:
فتوات الحسينية، فتوات بولاق، وفتوات الدرب الأحمر (الشيطان يعظ).
# ومن الافلام التي تمثل السينما التاريخية:
الصقر، ألف ليلة وليلة، هارب من الأيام، عنتر يغزو الصحراء، أمير الانتقام،
وفارس بني حمدان.
# ومن الافلام التي تمثل السينما السياسية والوطنية:
الكرنك، بور سعيد، الغول، شياطين الليل، وقهوة المواردي.
# اما الافلام التي تمثل السينما الفلسفية، فهما فيلمين:
طريد الفردوس، والسقامات.
الفتى الشرير
تقلب في شخصيات عديدة مختلفة متباينة في الملامح والسمات والوجوه، تطلبت
منه أن يلبس لكل شخصية قناعاً يتلاءم مع تلك الشخصية.. فبدا تارة شيطاناً
رجيماً، وأخرى ملاكاً رحيماً. لقد كسر القاعدة الذهبية التي تقول: أن من
دخل مملكة الشر، لا يمكن أن يخرج منها إلى مملكة الخير، كما هي الحال مع
زميله الشيطان الرجيم محمود المليجي. لكنه استطاع عن طريق فن التنكر ولعبة
الأقنعة أن يتنقل بكل يسر وسهولة بين المملكتين، ويقنع الأشرار بأنه أكثرهم
شراً، والأخيار بأنه من أولياء الله الصالحين. بل انه جمع بين خصائص هاتين
الشخصيتين المتناقضتين في شخصية واحدة مثلثة في فيلم (طريد الفردوس)، حيث
لعب فيه شخصيتي الرجل الصالح (الشيخ عليش) صاحب الضريح والرجل الطالح (علوي
بك) فتوة الكباريهات ثم الشخصية الثالثة وهي (الشيخ عليوة) معلم الكتاب.
كان لمملكة الشر في الماضي ملوكها وزبانيتها العتاة على الشاشة، أمثال عباس
فارس وعبد العزيز خليل وسليمان نجيب وزكي رستم وسراج منير واستيفان روستي
أنور وجدي والبقية الباقية منهم كمحمود المليجي. فلما ظهر (جلف) المسرح على
الشاشة في دور الفتى الشرير، منذ فيلمه الثاني (ملائكة في جهنم) فاق
أساتذته الأشرار في مملكة الشر والإجرام كشيطان رجيم. فقد كان صاحب شخصية
شيطانية تحمل ملامح النمر المفترس، الذي يتأهب للوثوب على الفريسة في إصرار
وعناد، وتعطش للعنف والبطش والانتقام. لقد اشتهر كقاتل سفاح، زعيم عصابات
للسرقة والتهريب والتجارة في الرقيق الأبيض، وقواد يعيش من كد النساء،
ويختار ضحاياه من الزوجات ذوات الماضي، اللواتي يطاردهن مهدداً متوعداً
بالرسائل والصور الفاضحة في سبيل الابتزاز. وكان في تلك الأدوار يولد ويموت
مجرماً، خنقاً أو شنقاً أو ذبحاً أو رمياً بالرصاص أو بالسقوط من ارتفاع
شاهق، أو تحت عجلات قطار أو أتوبيس، أو بالسجن المؤبد أو بالإعدام. كما
اشتهر في أحد أفلامه الأولى بعنوان (حميدو) الذي قام فيه بدور من أدوار
البطش والعنف بلقب (وحش الشاشة) الذي جعل منه شخصية رهيبة تلقي الرعب في
النفوس.
الفتى الأول
لكن سرعان ما غير جلده، وتحول من أدوار الوحش المخيف إلى أدوار الفتى الأول
الضحية حيناً والفتى الظريف أحياناً، وان كان لم يتخل فيها عن أدوار العنف
والقوة على طريقة رعاة البقر (الكاوبوي). وبدأ هذا الاتجاه في سلسلة
الأفلام الاجتماعية (الاسطى حسن، جعلوني مجرماً، رصيف نمرة 5، المجد،
الفتوة). واصبح بطلاً وطنياً في سلسلة الأفلام السياسية: (بور سعيد، الغول،
شياطين الليل، الكرنك). وقام بدور الفتوات الذين يشبهون فرسان العصور
الوسطى أيام زمان، خصوصاً فتوات نجيب محفوظ في قصص أفلامه الثلاثة (فتوات
الحسينية، فتوات بولاق، فتوات الدرب الأحمر"الشيطان يعظ"). واشتهر بشخصية
الشاعر العربي الفارس عنترة التي مثلها مرتين في فيلمي (عنترة بن شداد،
عنتر يغزو الصحراء)، وشخصية ثانية من الأدب الشعبي وهي شخصية (الفارس
الأسود) ابن الفارسة الشعبية (الأميرة ذات الهمة)، وكذلك شخصية الشاعر
العربي الأمير (فارس بني حمدان). كما اشتهر بشخصية (الشيطان) في سلسلة
أفلام تحمل اسم الشيطان، مثل: (شيطان البوسفور، ابن الشيطان، نهاية
الشيطان، عصابة الشيطان، شياطين الليل)، وكثير من نوعيات تلك الشخصية
الشيطانية، التي كان يصول فيها ويجول بالبطش والعنف والانتقام.
القوة المستعارة
وهذه القوة الخارقة التي اشتهر بها على الشاشة، ليست قوته الذاتية، وإنما
هي قوة مستعارة من أخرين. فالمعروف إن مشاهد المعارك التي تعتمد على
المبارزة والملاكمة والمصارعة والعاب الفروسية، وغيرها من مشاهد القسوة
والعنف، لا يقوم بها أبطال الشاشة، وإنما يقوم بها البديل الذي يجيد الضرب
والنزال والصراع. وكان يقوم له بدور البديل الكثير من الرياضيين المحترفين
ولاعبي السيرك، مثل مدرب الأسود السابق محمد الحلو الذي أكله الأسد الذي
كان يتولى تدريبه في السيرك القومي. لكنه كان يجيد تمثيل استهلال وختام
المعارك التي يبدو فيها وجهه واضحاً على الشاشة، بينما يقوم البديل بتمثيل
بقية الدور مولياً ظهره إلى الشاشة، إلى أن يأتي ختام المشهد، فيظهر البطل
بوجهه، ليكيل لخصمه الطعنة الحاسمة أو اللكمة القاضية، أو الضرب بالروسية
التي اشتهر بها فريد شوقي في الأفلام وأصبحت بالنسبة له ماركة مسجلة.
كما يجيد فريد شوقي الرقص الشعبي بالعصا على طريقة الفتوات، ولعبة التحطيب
التي تعتبر من العاب الفروسية في الصعيد. وإذا كان الجمهور يتقبل من فريد
شوقي كل شيء إلا الغناء، كما ظهر في دوره بشخصية (حسن) في فيلم (بداية
ونهاية) الذي حاول فيه الغناء، فثار علية الجمهور وانتهت الحفلة بمعركة
تبادل فيها مع الجمهور الضرب بالكراسي، لكنه مع ذلك غنى في موقف من فيلم
(ساحر النساء) أغنية شعبية لحنها له خصيصاً الموسيقار محمد ضياء الدين، وهي
أغنية: (شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفريت يحضر). هذا في الوقت الذي
أعاد فيه تمثيل كوميديات عبقري الكوميديا نجيب الريحاني، التي تقوم على
الشخصيات الهزلية الساخرة. فهو صاحب شخصية مرنه طيعة، تجعله يتقلب في كل
الأدوار بكل اقتدار كالحرباء التي تشكل بكل الأشكال والألوان.
أدوار أخرى
ولما بلغ الثالثة والخمسين عام 1975 غير جلده مرة أخرى واتجه إلى تمثيل
أدوار (الغراند بريمييه) أي أدوار الشيوخ الكبار. بدأ يمثل أدوار الأب أو
العم الطيب، بدءاً بفيلم (ومضى قطار العمر). ثم تابع تلك المسيرة في أفلام
(وبالوالدين إحسانا، دعاء المظلومين، القضية المشهورة، الجنة تحت قدميها،
هكذا الأيام، لا تبك يا حبيب العمر، دموع في ليلة الزفاف، حكمت المحكمة).
وتحول وحش الشاشة المجرم الخارج على القانون إلى رجل من رجال العدالة
والقانون، بتمثيل دور رجل الأمن في كثير من الأفلام، مثل (الجاسوس، الثعلب
والحرباء). ودور المحامي الكبير المتهم في فيلم (كلمة شرف)، ورئيس محكمة
النقض في فيلم (حكمت المحكمة). ولعب شخصية الأمير في فيلم (رابعة العدوية)،
والفتى الريفي هريدي الذي اصبح باشا في فيلم (الفتوة)، ثم باشا في فيلم
(سلطانة الطرب).
ويزعم المخرج صلاح أبو سيف، الذي قدمه في مجموعة غير قليلة من الأفلام،
بأنه أول من اكتشف فريد شوقي في أدوار الفتى الشرير في فيلم (مغامرات عنتر
وعبلة) قبل فيلم (ملائكة في جهنم) الذي قدمه المخرج حسن الإمام، وذلك لان
الفيلم الأول صور قبل الثاني، الذي عرض قبل الأول. وخطا به صلاح أبو سيف
خطوة ثانية عندما اخرج النسخة العربية من الفيلم المصري الإيطالي المشترك
(الصقر)، والذي صورت مناظره الخارجية في مصر، واخرج النسخة الإيطالية
المخرج الإيطالي جاكوما، من تمثيل غاسمان وسيلفانابمبا نيتي وفولكولوللي.
فقد اسند إليه في النسخة العربية دور فيتوريو غاسمان في النسخة الإيطالية
أمام سامية جمال في دور سيلفانا بمبا نيتي، وعماد حمدي في دور فولكولوللي.
وقد كان فيتوريو غاسمان بجانب شهرته كنجم عالمي بطلاً دولياً في لعبة الشيش
وفولكولوللي بطلاً دولياً في الملاكمة.
وقد اشتهر بعد ذلك على شاشة السينما العالمية، فقام بدور (عطيل) في فيلم
ألماني، وفيلم عالمي باسم (كريم ابن الشيخ)، واستعان في فيلم مصري باسم
(الجاسوس) بالنجمة الفرنسية (آن سيمرنر)، وبدأ التمثيل في فيلم عالمي آخر
باسم (ابن سبارتكوس) لكنه انسحب منه، لان الدور كان يتطلب منه أن يخرج من
إحدى معاركه منهزماً أمام البطل الإيطالي.
ملك الترسو
وقد ظل فريد شوقي مسيطراً على (مملكة الترسو)، لا ينازعه على عرشها أحد،
لأنه كان يركب كل موجة جديدة تظهر في الحقل السينمائي. فعندما كانت الموجة
السائدة هي الفيلم الغنائي في أيام فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم
حافظ، وفي عهد أفلام أنور وجدي وليلى مراد، اتجه أيضا إلى الفيلم الغنائي
الذي كان يتقاسم بطولته مع هدى سلطان. ولم تتأثر شعبيته، كذلك بموجة الفيلم
الكوميدي الذي كان من بين فرسانه إسماعيل ياسين ومحمود شكوشو ثم الجيل
الجديد الممثل في فؤاد المهندس وأمين الهنيدي وعبد المنعم مدبولي ومحمد رضا
وعادل إمام ومحمد عوض، لأنه نزل أيضا إلى ميدان الكوميديا بأدوار الريحاني.
ولما عادت موجة أفلام الميلودراما التي تستدر الدموع بالمواقف المثيرة التي
تجعل الجمهور يعصر المناديل المبللة بالدموع، تحول كذلك إلى تمثيل أدوار
المآسي. وكان في تلك الأدوار صاحب تيار جارف له جمهوره العريض أمام تلك
التيارات المختلفة. وكان نجم شباك لا يعتمد في أفلامه على نجمات السينما
اللامعات، فكان في الماضي يختار بطلات أفلامه من صاحبات الوجوه الجديدة
أمثال هند رستم وبرلنتي عبد الحميد وزهرة العلا وصفاء أبو السعود. واليوم
يختار بطلاته من صاحبات الوجوه الجديدة أيضا أمثال شيريهان ونورا وبوسي
وآثار الحكيم وليلى حمادة وهالة فؤاد وعايدة رياض وهناء ثروت وروعة الكاتب.
وكان وراء اتجاهه في منتصف السبعينات إلى تمثيل الأدوار الخيرة ونبذ أدوار
الشر، هو شعوره بالتقدم في السن، وانه ينبغي عليه أن يدخل كرحلة جديدة
تتناسب مع سن الخريف. كان قد لعب وقتئذ دور البطولة في فيلم بعنوان
(الأبطال) يعتمد على ألعاب الكاراتيه التي كانت موضة جديدة في تلك الفترة،
ولاحظ بان لعبة الكاراتيه أصبحت لعبة متداولة بين الشباب.
أشهر الأدوار
ومن أشهر أدواره عدا ما ذكر، دور (حسن الشحات) في فيلم (ألف ليلة وليلة)
اقتباس بيرم التونسي عن القصة العالمية (قسمت) التي سبق أن أخرجت في فيلم
أمريكي قام ببطولته رونالد كولمان، كما سبق أن ترجمه خليل مطران للمسرح
القومي بعنوان (القضاء والقدر) من إخراج عزيز عيد وأخرجها أيضا زكي طليمات
من اقتباس بيرم التونسي. ومن الروائع العالمية، قام فريد شوقي بتمثيل دور
الدكتور في فيلم (أنا الدكتور) المقتبس عن مسرحية (د.كنوك) للكاتب الفرنسي
جيل رومان، وحامد حمدان كشخصية جان فالجان في فيلم (البؤساء) للكاتب فيكتور
هوجو، والاسطى إبراهيم في فيلم (عيون لا تنام) المقتبس عن مسرحية (رغبة تحت
شجرة الدردار) للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، وعم إبراهيم في فيلم (القضية
المشهورة) عن مسرحية جورج أوهنيه، والساعي في فيلم (وبالوالدين إحسانا) عن
مسرحية (ولدي) تأليف اندرية ميرابو، وفي (دعاء المظلومين) عن مسرحية
(الشريدة) تأليف تورنتون وايلدر، والمليونبر في فيلم (قطة على نار) عن
مسرحية تنسي ويليامز. ومن أعمال شكسبير قام بالتمثيل في فيلمين، الأول
(الملاعين) المقتبس عن مسرحية (الملك لير)، والثاني (شاطئ العنف) المقتبس
عن مسرحية (هاملت). ومن الأعمال الأدبية للكتاب المصريين، قام بتمثيل تلك
الشخصية المثلثة في فيلم (طريد الفردوس) لتوفيق الحكيم، وشخصية كمال الطبال
في قصة (هارب من الأيام) لثروت اباظة، وشخصية شحاتة أفندي في فيلم
(السقامات) ليوسف السباعي، ومن أعمال نجيب محفوظ قدم ثلاثية الفتوات (فتوات
الحسينية، فتوات بولاق، وفتوات الدرب الأحمر "الشيطان يعظ")، و(الكرنك)
و(بداية ونهاية) و(ساحر النساء). ولإسماعيل ولي الدين فيلم (الباطنية)،
و(كفاني يا قلب) لموسى صبري.
فريد شوقي المؤلف
وخلال مراحل حياته السينمائية، سعى فريد شوقي إلى اكتساب صفة جديدة هي
المؤلف، لكن قصصه كاتب أما مسروقة أو مقتبسة أو عبارة عن أفكار كان الكتاب
يحولونها له إلى سيناريوهات صالحة للظهور على شاشة السينما، وآخرها قصة
مسلسل (عم حمزة) المسروقة فكرته عن (البؤساء). ظهر اسمه كمؤلف على كثير من
قصص أفلامه التي يصيغها كفكرة سينمائية ويترك للكتاب السينمائيين أعدادها
باللغة السينمائية سيناريو وحواراً. وقد كتب أفكار اكثر من عشرين قصة
سينمائية ومسلسلات تليفزيونية.
وقصص أفلامه المشهورة، هي: حكم القوي، الاسطى حسن، جعلوني مجرماً، رصيف
نمرة 5، حميدو، المجد، النمرود، الفتوة، الجاسوس، النصاب، المحتال، جوز
مراتي، ابو ربيع، آخر فرصة، كلمة شرف، ومضى قطار العمر، وهكذا الأيام،
كباريه الحياة، لا تبك يا حبيب العمر، وأخيرا مسلسل عم حمزة.
والفكرة القصصية، عموماً، شيء مشاع بين الناس جميعاً، سواء منهم الموهوب
وغير الموهوب، لكن الأهمية تكمن في طريقة معالجة تلك الفكرة، لتأخذ الشكل
والقوام اللذين يجعلان منها عملاً فنياً نابضاً بالحياة، تتحرك من خلاله
الشخصيات في دائرة الفن. لهذا تتأرجح قيمة أعماله كمؤلف بين أيدي الكتاب
السينمائيين القادرين على تشكيلها في الإطار الفني المناسب. ولا شك في أن
الفتى الشجيع كان يضع عينيه على جمهوره الشعبي العريض، وهو يكتب أفكار تلك
القصص، مما جعلها تتسم بالسطحية والسذاجة والإثارة، بما تحتشد به من مشاهد
الميلودراما الفاجعة والفكاهة الصاخبة ومواقف العنف والقسوة، في سبيل
استدرار الدموع أو انتزاع الضحكات أو إثارة الرعب والفزع، بمشاهد المعارك
والمغامرات والمطاردات، وذلك فيما عدا القليل من تلك القصص التي تولى
إعدادها ومعالجتها سينمائياً كبار السينمائيين والأدباء، كأفلام: (حكم
القوي، الاسطى حسن) اللذان حملا بصمات السيد بدير وصلاح أبو سيف، وأفلام
(جعلوني مجرماً، الفتوة، النمرود) لنجيب محفوظ.
وقيمة فريد شوقي كمؤلف تتمثل في فكره الاجتماعي، كمسجل للظواهر الاجتماعية
السائدة، حيث كان يستمد أفكار قصصه من الواقع. وإذا كانت فكرته في فيلم
(جعلوني مجرماً) قد تحققت بإلغاء السابقة الأولى، فان فكرته في فيلم (كلمة
شرف) قد تحققت كذلك في العمل بنظام السجن المفتوح الذي يسمح لبعض السجناء
غير الخطرين بزيارة عائلاتهم في الأعياد. وفريد شوقي كمؤلف ينتمي إلى مدرسة
يوسف وهبي، التي تعتمد في التأليف والاقتباس على الهدف المباشر، الذي يخرج
عن الإطار الفني في سبيل استنباط الحكمة والموعظة الحسنة.
المسرح في مشوار فريد شوقي
لقد كان لفريد شوقي نشاط ملحوظ في المسرح، بجانب النشاط السينمائي. فقد
أعاد تكوين فرقته المسرحية في أواخر الخمسينات ليدعم بها مجده السينمائي،
وضمت تلك الفرقة أربعة وثلاثين فناناً وفنانة، وكان يتقاسم بطولة مسرحياته
مع بطلة أفلامه هدى سلطان، واستهل نشاطها بمسرحية كوميدية بعنوان (عفريت
الست) واحيت مواسمها بين القاهرة والإسكندرية وقامت برحلات فنية إلى لبنان
وسوريا وليبيا والسودان. وفي ذلك الوقت لم يقنع بتمثيل الكوميديات، وشرع في
تكوين فرقة أخرى غنائية استعراضية باسم (فرقة المسرح الجمهوري)، التي ضمت
هدى سلطان ونعيمة عاكف وزوزو ماضي وزوزو حمدي ومحمد توفيق ومحمود السباع،
لكن مشروع تلك الفرقة لم يخرج إلى النور، فسرعان ما عدل عن تكوينها لأنه
طلب من الدولة وقتئذ تقديم موسمها الأول على مسرح دار الأوبرا، فقدمت له
بدلاً منه مسرح حديقة الازبكية.
ولما أقيم مهرجان نجيب الريحاني المسرحي في مطلع الستينات، وتبادل زملاؤه
القدامى تمثيل أدواره الخالدة، من أمثال سليمان نجيب وحسين رياض وحسن فايق
وعباس فارس وسراج منير، كان له دور في هذا المهرجان. لكنه لم يلبث أن انسحب
منه ومن الفرقة عندما ظهر نجم الفنان المسرحي الجديد عادل خيري، نجل بديع
خيري النصف الثاني لنجيب الريحاني. فقد اضطلع عادل ببطولة مسرحيات الفرقة،
ولقى القبول من الجمهور غير أن الأجل لم يمهله طويلاً، وعادت الفرقة
العريقة تشكو الفراغ الكبير. وفي خلال تلك المحنة، تذكر بديع خيري النجم
السينمائي فريد شوقي الذي كان قد تنبأ له بالنجاح، عندما رآه مع عزيز عيد،
وهو يقوم ببطولة مسرحية (الضحية) مع فرقة الرابطة القومية للتمثيل على مسرح
برنتانيا قبل هذا التاريخ بنحو عشرين عاماً. وتذكره كذلك عندما ساهم
بالتمثيل في مهرجان نجيب الريحاني المسرحي. اتصل به تليفونياً وقال له:
- ابني عادل مات يا فريد.
- البقية في حياتك يا أستاذ بديع. في الواقع انه خسارة كبيرة.
- خسارة كبيره للفرقة.
- لكن الفرقة لازم تستمر.. لازم تعيش.
- أنا باكلمك عشان كده.
- أنا بديت حياتي كمبارس في فرقة الريحاني. ومستعد لأي خدمة.
- ده عشمي فيك. لأني باعتبرك ابني الثاني اللي بادخره لليوم ده.
- ده شرف لي يا أستاذ بديع.
- ويسعدني انك تقبل تكون بطل الفرقة.
- ويسعدني أنا كمان. وان شاء الله أتكون عند حسن ظنك.
- بلاش تواضع يا فريد. عارفك كويس من أيام الهواية.
وبهذا عادت إلي مسرح الذكريات حركة بعث جديدة، ليعيد الممثل الهاوي القديم
تمثيل أدوار الريحاني الخالدة. كان فارع القامة يملأ خشبة المسرح العريق،
ويذكر الناس بقامة الريحاني المديدة، وحركاته ولفتاته ونظراته وأدائه
الموسوم، الذي كان يحفظه عن ظهر قلب بحكم معاصرته لهذا العملاق العظيم.
وارتقى خشبة المسرح العريق، كخليفة جديد لعبقري الكوميديا الخالد. وكان من
بين الشخصيات التي اشتهر بها في مسرحياته، شخصيات (بندق أبو غزالة) في
مسرحية (حكم قراقوش) و(أمشير أفندي) في مسرحية (30 يوم في السجن) و(حسين
كعك) في مسرحية (ياما كان في نفسي) و(افلاطون أفندي) في مسرحية (الدنيا لما
تضحك) و(تحسين أفندي) في مسرحية (قسمتي) المعروفة باسم (الدلوعة). كما مثل
في فرقة الريحاني مسرحية جديدة بعنوان (الحرامية) قام فيها بدور مغن قديم
في شارع محمد علي. وقام في فرقة أخرى باسم فرقة (عمر الخيام) بالتمثيل في
مسرحية بعنوان (البكاشين).
التليفزيون أخيراً
وامتد نشاطه إلى المجال الثالث وهو التليفزيون، فقام ببطولة العديد من
المسلسلات التليفزيونية، ثم مثل (أشعة الشمس السوداء) و(في مهب الريح)
إخراج كمال أبو العلا، و(الشاهد الوحيد) و(عم حمزة) إخراج أحمد توفيق.
ويعتبر فريد شوقي من جيل الصف الثاني بعد الجيل الأول الذي ضم يوسف وهبي
والريحاني وحسين رياض وزكي رستم وعباس فارس وسليمان نجيب وسراج منير، فهو
من جيل أنور وجدي وحسين صدقي ومحسن سرحان وعماد حمدي ويحيى شاهين ومحمود
المليجي، وإن كان يصغرهم بنحو عشر سنوات.
لقد اقتحم فريد شوقي ميدان السينما بعد معاناة في مرحلتي الهواية والتأسيس
العلمي، عن طريق الثقافة والاحتراف على خشبة المسرح. ثم ساعده ذكاؤه على أن
يتطور بشخصيته ويغير جلده في كل مرحلة من مراحل حياته الفنية، إلى أن جاوز
الخمسين، وتعدى مرحلة أدوار (الجان بريمييه) أي الفتى الأول، فاتجه إلى
أدوار (الغراند بريمييه) أدوار الآباء الكبار بعد أن خلا الميدان من كثير
من نجومها الكبار، فحل مكانهم في تلك الأدوار، وورث عروش ملوك التمثيل من
الرعيل الأول، أمثال: يوسف وهبي ومحمود المليجي ونجيب الريحاني وحسين رياض
وسراج منير وعباس فارس وزكي رستم.
تأثير أفلامه على المجتمع
ولا ننسى الإشارة إلى أن أعمال فريد شوقي، قد ساهمت في إصدار قوانين جديدة
لصالح المجتمع. فعندما أعلنت ثورة يوليو في عام 1952، وصدرت قوانين إعادة
تنظيم المجتمع، قدم فريد شوقي فيلم (حميدو) ليبين فيه دور المخدرات في
مجتمعاتنا، وما تحمله من أخطار تهدد حياة الإنسان بالتفسخ والانحلال.
وعندما صدر قانون جديد يمنع الرشوة ويعاقب الراشي والمرتشي، انتج وقدم فيلم
(رصيف نمرة 5) ليعبر فيه عن اقتناعه بهذا القانون الجديد، الذي هو لصالح
المجتمع.وعندما شاهد وزير الشؤون الاجتماعية فيلمه (جعلوني مجرماً) اصدر
قانون الإعفاء من السابقة الأولى، وذلك لإتاحة الفرصة أمام الذين دفعتهم
الظروف الصعبة للانحراف، لكي يبدءوا صفحة جديدة من حياتهم. وكان لهذا
الفيلم شرف المساهمة في إصدار هذا القانون. وفي فيلم (الفتوة) أدان فريد
وهاجم استغلال ملوك وتجار سوق الخضار الكبار، والأساليب المريبة التي
يلجئون إليها، لكي يجمعوا الثروات الفاحشة، على حساب الفقراء من أبناء
الشعب. وبعد أن شاهد رئيس الوزراء فيلمه (كلمة شرف) وافق على خروج السجين
من وراء القضبان لمدة 48 ساعة، لكي يزور أهله، ولكي لا يفقد صلته بالحياة
من حوله. كما أن فريد شوقي، وبتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر، قدم فيلم
عن العدوان الثلاثي على مصر تحت اسم (بور سعيد)، وقد خاطر فريد وذهب مع
زملائه الفنانين معرضين حياتهم للخطر اكثر من مرة لكي يقدموا فيلماً يدين
هذا العدوان الغاشم على الوطن. |