إن فيلم (لورانس العرب- 1962) هو الفيلم الذي وضع له ميزانية مقدارها أربعة
عشر مليون دولار، وهو بذلك يعتبر إنتاجا سينمائيا ضخما جدا بمقاييس
الستينات، إضافة إلى انه من إخراج عبقري السينما (ديفيد لين)، الذي قدم
للسينما العالمية أعمالاً عظيمة وخالدة مثل (الصراع القصير، أوليفر تويست،
جسر علي نهر كيواى، دكتور زيفاجو)، و أخيرا فيلم (الطريق إلى الهند).
أما عن فيلم (لورانس العرب)، فلا اعتقد أن هناك عربيا لم يسمع بهذا الاسم،
فقد تردد اسم لورانس العرب في منطقتنا كثيرا، وذلك لان هذا الفيلم يمثل أول
انطلاقة عالمية لفنان عربي، ألا وهو الممثل المصري عمر الشريف. لذا دعونا
نترك عمر الشريف نفسه يتحدث عن ظروف ومراحل إنتاج هذا الفيلم الكبير،
ويتحدث أيضا عن تجربته الشخصية مع فريق العمل من فنانين وفنيين.
وللعلم فقط فان فيلم لورانس العرب قد أطلق نجمين مغمورين وقدمهما للسينما
العالمية في نفس الوقت، فبالإضافة إلي أن اسم عمر الشريف الذي لم يكن
معروفا أبدأ في أوروبا وأمريكا، فقد كان اسم "بيتر اوتول" بطل الفيلم لم
يتجاوز بعد الحدود البريطانية. بيتر اوتول، ذلك الايرلندي صاحب العينين
الزرقاوتين، الذي قام بدور لورانس استطاع أن يكسب لبريطانيا إمبراطورية!
وعمر الشريف في دور الشريف علي كزعيم أو رئيس لقبيلة عربية يعاونه للوصول
إلى ذلك الهدف.
يبدأ عمر الشريف حديثه فيقول: (...لم يكن أي منا قد ذهب إلى هوليود.. لكننا
بالطبع تصورنا إمكانية حدوث ذلك. لقد وضعنا سويا هذه الرؤية أمام من عملوا
معنـا، واستمعنا منهم إلى قصص.. من أليك جينيس، انتوني كوين، ديفيد لين.
لقد كان لديهم الوقت لأن يتكلموا.. وكان لدينا الوقت لأن نسمع.. لقد كنا
نعيش جميعا تحت نفس الخيمة.. كنا نعيش وسط الصحراء.. كنا مضطرين لأن نراعي
حياتنا.. ننصت إلى أحاديث بعضنا بعضا، كنت أراقبهم كأصدقاء بان كنت أنصت
إليهم .. شكرا لهم، فقد كنت أدخل من خلالهم إلى عالم فسيح.. عالم التمثيل..
عالم السينما.، عالم التجربة، كنا نتكلم عما فعلوا وعما لم أفعل، عما رأوا
وعما لم أر.. من هذه الأحاديث أخذت ما يمكن أن يتلاءم مع طبيعتي، كنا
كمجموعة من الممثلين في لورانس العرب مرتبطين باهتمامات مشتركة، ولكن كان
هناك شعور بعلاقة قوية تربطني ببيتر أوتول، وهذه العلاقة الحميمة تكونت تحت
عباءة الصداقة، وهى التي حققت نجاح لورانس العرب...).
سيناريو فيلم لورانس العرب مأخوذ من كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) الذي ألفه
لورانس نفسه، واستغرقت كتابته حوالي العامين بين الأردن وسوريا. ولقد قيل
الكثير عن طبيعة - العلاقة بين لورانس والشريف علي، كما يتحدث عمر الشريف
عن هذه العلاقة فيقول: (...مقالات لا حصر لها كتمت عن ذلك، والسيناريو لم
يحدد تماما طبيعة علاقتهما .. لقد صور السيناريو تعقيداتها وهى تكشف نفسها
خلال الفيلم عن طريق السلوك الذي كان في الواقع إنعكاساً للحياة اليومية
التي كنا نعيشها.. بيتر و أنا...).
لقد اختار المخرج ديفيد لين، مكانا في الصحراء يبعد عن اقرب طريق ب 150
ميلا وذلك تحاشيا لظهور أي أثر لأقدام العاملين في الفيلم. كما انه اختار
مكان يبعد عشرين ميلا عن مكان التصوير لإقامة طاقمه الفني، وذلك حرصا منه
على أن تكون المشاهد بكرا، أما الفنانون والفنيون والبدو فقد وصل عددهم إلى
ألف شخص، كانت إمداداتهم تصل عن طريق ثلاث طائرات وفرها المنتج لخدمتهم،
إضافة إلى ذلك كانت هناك مئات من الجمال والخيول وكان لها طعامها وشرابها
أيضا.
أما عمر الشريف، فيضيف متحدثا عن هذا الإنتاج الضخم قول: (...خيامنا كانت
مجهزة بأجهزة تكييف وثلاجة، وكان هناك خدم لكل ممثل وفني للعمل على راحتهم،
وكانوا يقومون بغسل ملابسنا ومسئولين عن ضرورة وجود طعام وشراب في أي وقت،
وجهز مطعم تحت إدارة كبير طهاة لندن، كما كانت هنـاك منضدة لكرة الطاولة
بجانب المطعم. ومساء كل سبت كان هناك جو الإجازة الذي يوجد في المدينة.
وكانوا يعرضون أفلاماً في الهواء الطلق لكل العاملين في الفيلم. ولم يكن
هناك أبدأ من تخلف عن مشاهدة واحد من هذه الأفلام (التي تجاوزت المائة
فيلم)! لكن لا تسـألني ماذا شاهدنا؟ لا أستطيع أن اذكر اسم أي منها، لقد
تعودت أن أنظر إلى الشاشة دون أن أرى. إنني ببساطة استمتعت بعدم تتابع
الأحداث في الأفلام التي شاهدتها.. عدم التتابع هذا هو الذي نسيته..
استمتعت أيضا ببعض الموضوعات المستحيلة في هذه الوحدة بين كثبان الرمال.
حياتي - إلى أن وجدت نفسي في هذا الركن من الأردن - كانت عبارة عن تتابع
لمناظر خلوية.. لا مكان حيث الناس والحيوانات يعيشون سوياً، والان فأنني في
هذا المكان مرتديا زي الصحراء مطيعاً لقانونها ولسحرها كان هناك ألف منا
فقد كنت وحيدأ مع نفسي...).
كما يتحدث عمر الشريف عن المخرج العبقري، فيقول: (...اختار ديفيد لين أن
يعيش كما يعيش البدو، كان يعيش في عربة مقطورة في نفس المكان الذي يتم
تصوير الفيلم فيه. وفي كل صباح كنا نذهب الى المقطورة في الساعة الخامسة
والنصف ونرى نفس المنظر كل يوم.. كنا نرى مقعداً مزروعاً في هذا الاتساع
الصحراوي الذي بلا حدود، وعلى هذا المقعد كان يجلس ديفيد لين يتأمل الافق،
وفي نفس الوقت يشبع نفسه بالمشهد الذي سوف يخلقه لمغامرات لورانس وعلي.
والواقع انه كان يجلس هناك لمدة ساعتين بلا حراك، لقد كان يريد أن يحصل على
نصيبه من هذه الصحراء كل يوم. إن ذلك الرجل وهو يجلس وحده وسط كثبان الرمال
وهي تتماوج أمامه بلا نهاية...).
ويواصل عمر حديثه عن لين، قائلاً: (...كان وصول مجموعة العمل إلى ديفيد لين
في مقطورته معناه نهاية تأملاته. ذلك انه يجمع الممثلين في المقطورة ويتكلم
معهم لمدة طويلة، ثلاث أو أربع ساعات عن المشهد الذي سنمثله. وكان يشرح كيف
نمثله.. الفكرة التي كان يعدها لرد فعل كل شخصية للموقف الذي يدرسه معنا
بكل تفاصيله، في الوقت نفسه هناك ثلاثمائة من البدو كانوا يمحون آثار
أقدامنا من نهاية الأفق إلى بدايته بواسطة سعف النخل العريضة. وعند الظهر
كنا نبدأ البروفة، ثم بعد ذلك يبدأ البدو في محو أثار أقدامنا مرة أخرى ثم
بروفة ثم محو، وهكذا.. وعندما تبدأ الشمس في المغيب نعود الى المعسكر، أما
ديفيد لين فكان يعود الى تأملاته. وفي اليوم الثاني كان يعطي تعليماته الى
الفنيين قبل تصوير المشهد الذي أجرينا بروفته بالامس.. ويعطي هذه التعليمات
مرة.. مرتين.. عشر مرات.. خمسين مرة اذا وجد أن ذلك ضرورياً. وهذا هو السبب
في أن فيلم لورانس العرب استمر تصويره عامين...).
أما عن ظروف العرض الأول للفيلم، فيقول عمر الشريف: (...هناك في الصحراء
كنا نحلم بحفل الافتتاح. إننا أبطال الفيلم الذي سوف يأسر كل مشاهديه..
أسماؤنا سوف تظهر بحروف كبيرة في كل مكان.. المنتجون سوف ينهالون علينا
بعقود الأفلام. كان نجاحنا لا مفر منه...).
كاد عمر الشريف أن يخسر فرحة حضوره حفل الافتتاح، وذلك عندما رفض المنتج
حضوره، مبررا ذلك بأنه من الأحسن أن يركز في الفيلم علي بطل واحد فقط، وهو
بيتر اوتول، أما أن يدفع باثنين غير معروفين للجمهور في وقت واحد فان ذلك
لن يكون من صالح الفيلم، إلا أن بيتر اوتول اتخذ موقفا إيجابيا حينما قال
للمنتج : (...إذا لم يحضر عمر فأنني لن احضر أيضا...).
يقول عمر التشريف: (...سويا دخلنا إلى قاعة السينما المضيئة من الخارج، وفي
الميدان إضاءة لا حد لها.. ثم اشعاعات الجواهر والجمال لهؤلاء النجـوم..
النجوم "السوبر".. النجوم هم اليـزابيث تايلور.. شيرلي ماكلين.. ريتشارد
بيرتون.. جريجوري بيك. هؤلاء كانوا هناك ضيوفا على حفل الافتتاح. لقد
عرفتهم.. أنا، الولد الذي لم تقع عيناه عليهم، لقد كانوا المثال بالنسبة لي
في سنوات مراهقتي، وهذه الليلة أصبحوا حقيقة أمامي. بيتر اوتول لم يكن أقل
مني غربة بالنسبة للسينما العالمية، لورانس العرب كان هو الفيلم الذي حصل
فيه على اكبر أدواره.. تماما كما كان الموقف بالنسبة لي، ولكن اسمينا ظهرا
بحروف ضخمة على الشاشة الكبيرة، وكنا نجلس علي مقاعد مريحة ولكننا كنا
نتطلع إلى الناس ننتظر رد فعل.. ولم ننتظر ذلك طويلا.. كان زمن الفيلم أربع
ساعات، وعندما نزلت الستارة، وجدنا أنفسنا، بيتر وأنا وسط أوركسترا أنساني
تقدم لنا التهاني. تبادلنا نظرة مرتجفة، سريعة جدا. ثم وجدنا أننا قد
انفصلنا، أحسست أنني قد ولدت من جديد بواسطة إعصار...). |