رائد السينما المصرية «محمد بيومي» يكتب عن سنوات وعذابات طفولته |
تاريخ حياتي منذ الطفولة والعوامل التي كان لها أثر في توجيهي. نشأ أبي منذ طفولته مع امرأة الأب التي تسببت في حرمانه من عطف أبيه وكفلته ابنته الكبري وكانت تكبره بثلاث سنوات. ولقد قاسي من معاملة امرأة أبيه الأمرين ولاقي من الحرمان وسوء المعاملة وانعدام العطف ما أورثه قسوة القلب وعبوس الوجه وشدة الحرص والاعتماد علي النفس. وكان جدي بيومي سيد أحمد كبير تجار طنطا وكان يطلق عليه لقب سي التجار أي ممثلهم لدي الجهات الحكومية وكان دخله من التجارة كبيرا ولكنه كان كريما عطوفا علي الفقراء والمعوزين بسيطا في مظهره شديد الطيبة منقادا لزوجته ينفق علي بيته دون حساب ولا يهتم بما يدور في البيت من جهة معاملة زوجته لأولاده وتفريقها بين أولادها وأولاد زوجها فكانت الآمرة وعليه السمع والطاعة. لم يترك جدي بعد موته سوي تجارته الواسعة والمنزل الكبير الذي يقطنه مع أفراد عائلته وأنجب من زوجته الثانية بعد وفاة الزوجة الأولي وهي جدتي لوالدي ثلاثة أولاد وبنتا فكانت ذريته أربعة ذكور واثنتين من الإناث فاستولت الزوجة وأولادها علي محل التجارة وما تركه من المال المودع في عهدة الزوجة ولم ينل والدي غير نصيبه في البيت وهو 4 قراريط وربع القيراط من أربعة وعشرين قيراطا باعها لأخويه بمبلغ ثلاثين جنيها ذهبا وكان إذ ذلك مبلغا لا يستهان به وكان سنه وقتئذ عشرين سنة وكان قد عوفي من الخدمة العسكرية بالبدل النقدي في حياة والده. وبعد أن استولي علي ثمن نصيبه من الميراث أسس ببعضه تجارة عمل فيها بجد ونشاط حتي أصبحت بعد عامين اثنين تضارع تجارة إخوته التي استحوذوا عليها بعد موت أبيهم لأنه امتاز عنهم بالحرص والاستقامة بعكس ما كانوا عليه من إسراف وانغماس في الملذات. ومازال والدي يتقدم في تجارته حتي صار في وقت قصير من أكبر وأشهر تجار المدينة واتسعت أعماله مع مضي الزمن واستخدم العمال والكتبة وصار له عملاء في القري والبلاد المجاورة ثم تجاوز بها إلي ما وراء حدود مديرية القرية وامتلأت مخازنه بالسلع التي كان يستوردها من الصين والهند واليابان والنمسا وغيرها بواسطة الوسطاء والأجانب المنتشرين في القاهرة و الإسكندرية وأغلبهم من اليهود والمسيحيين أما المسلمون فكانوا قلة من جنوب الجزيرة العربية من أهل اليمن وحضرموت وعدن وقد اقتصرت أعمالهم في البن والصابون النابلسي والطرابلسي. وشارك والدي بعد ذلك زوج أخته وكان لقبه الفطاطري واشتهر المحل بهذا الاسم واتخذه الأولاد والأقارب عنوانا لهم. وكون والدي ثروة لا بأس بها ولكنها قليلة جدا إذا قورنت بالحركة الكبيرة الدائرة في المحل حيث بلغت المبيعات اليومية ما يربو علي الألف جنيه كما كون شريكه ثروة تعادل ضعفي ثروة والدي مع أنه كان يمتلك نصف التجارة ويحصل علي نصف الأرباح. أما السبب في عدم زيادة الربح بالنسبة لحركة العمل فهو الجهل بأصول التجارة وعدم النظام والدقة وقيد ما في المخازن في دفاتر صادر ووارد كما لم تكن هناك رقابة علي العمال ولا أمين للمخزن وعدم اختبار الأماكن الأمنية لجعلها مخازن كما كان العميل يذهب مع العامل لاستلام طلباته دون رقابة في حين أن مرتب هذا العامل الشهري لا يتجاوز المائة قرش كحد أعلي ومثله لا يؤتمن علي مخازن تحوي بضائع بآلاف الجنيهات وبالجملة فقد كان شعارها «خليها كدا بالبركة» ومع كثرة العمل ووفرة المكاسب لم تكن هناك خسائر بل كانت هناك مكاسب قليلة. وتزوج والدي بوالدتي وهو في سن الثانية والعشرين وكان تقيا ورعا يؤدي فرائض الدين علي أكمل وجه خلافا لإخوته وهذا هو سبب نجاحه وفشلهم ولم يمتازوا عنه إلا بطيبة القلب وتهاونهم مع أولادهم الذين شبوا في أحضان العز والتدليل ولم يتموا تعليمهم وماتوا في شرخ الصبا واحدا تلو الآخر من الإفراط في تعاطي المخدرات كما مات أعمامي قبل أن يصل الواحد منهم إلي سن الستين. وكما قدمت فقد أورثت والدي المعاملة السيئة من زوجة أبيه قسوة القلب وعبوس الوجه كما أورثه الحرمان شيئا من الحرص لم يصل إلي درجة البخل والحمد لله فقد كان في المأكل عن سعة ليعوض ما فاته في طفولته. وكان يؤتي الزكاة كاملة لأنه كان شديد التمسك بدينه كما كان باراً بالفقراء من ذوي قرباه وجيرانه فرتب لهم الإعانات الشهرية بخلاف الأعياد وبني زاوية ووظف بها إماما هو في نفس الوقت المؤذن والمقرئ وأوقف عليها أربعة أفدنة من أجود أرضه. تلقي تعليمه في الكتاب وهو المدرسة الشعبية الأولي التي لا تتعدي الدراسة فيها الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب وحفظ القرآن وكان علي جانب كبير من الذكاء وخط حسن، وأتم تعليمه في الحساب ومسك الدفاتر وصورة الفدان علي باشكاتب المديرية. وكان ينظر إلي موظفي الحكومة نظرة اعتبار واحترام زائد وكان يعتبرهم من طبقة أعلي من طبقة التجار ولذلك رغب في تعليمنا لنصبح في المستقبل موظفين في الحكومة وكثيرا ما كان يقول: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» ولم يفكر إطلاقا في أن يمرنهم علي التجارة خلافا لاخوته الذين لم يهتموا بتعليم أولادهم في غير المدارس الأولية ثم ضموهم إليهم في التجارة التي كانت عمل معظم أفراد العائلة الذين اشتغلوا بتجارة المواد الغذائية والصوابين والعطارة والحلوي المستوردة من أوروبا ومواد الصباغة وأصناف الورق بالجملة ونصف الجملة وكانوا يعرفون بعائلة الفطاطري. وحافظت هذه العائلة علي مركزها الممتاز بين عائلات طنطا الشهيرة وسمعتها الطيبة في المعاملات التجارية وكان والدي هو آخر من عاش مشاهير تجارة العائلة ولكنه اعتزل التجارة في أعقاب الحرب العالمية الأولي وخلفه أخي الأصغر الذي استمر حتي نهاية الحرب العالمية الثانية، ووجه الوالد همه للزراعة فأدار مزرعته وتولي جميع أعماله بنفسه حتي آخر يوم في حياته وقد ولد في سنة 1864 وتوفي في فبراير سنة 1956 عن خمسة وتسعين عاما إثر عملية جراحة في البروستاتا وقد أنجب ثلاثة من الذكور وبنتا واحدة. كان رحمه الله كما قدمت قاسيا وتجلت قسوته في معاملته لنا وكان يتصور أنها الطريقة المثلي للتربية التي ترضي رغبته ولم يفكر مطلقا أننا أطفال بل كان ينتظر منا أن نكون أنبياء، لا نلهو ولا نخطئ لم أذكر أنه قبلني مرة وابتسم في وجهي وداعبني كما يفعل باقي الآباء مع أبنائهم ولا أذكر إلا العصا التي كانت تلهب جسدي وقدماي فتدميهما لأقل هفوة ولأتفه سبب وكان هذا هو الحب الأبوي كما فهمه رحمة الله عليه. لقد كنت أشعر ببعض السعادة في طفولتي يوم أقع فريسة الحمي فيومها فقط كنت أحظي بكلمة عطف منه وظاهرة من الحنان تغطي ذلك الوجه القاسي وأشعر بيده تمر علي جبيني تتحسس حرارته ثم يربت بكفه علي كتفي ويقول:«بكرة تخف وتبقي عال» ثم يسقيني شربة زيت الخروع ويتركني ويمضي لعمله. نت أضرب أنا وأخي الأكبر لمجرد وجود الواحد منا يلهو مع الأطفال أمام باب المنزل أو إذا كنا في زيارة لأطفال أقاربي وكنت أتوسل وأسترحم وأستجير بالله والأنبياء والسيد البدوي وأولياء الله جميعا دون جدوي فأكسبتني هذه المعاملة الجبن واستعنت علي تجنب الأذي باستعمال الكذب، كنت ألهو وأشبع رغباتي من اللعب والاستحمام في الترع كلما وجدت إلي ذلك سبيلا في غيبة والدي وأجتهد في العودة إلي البيت قبل أن يعود هو بعد صلاة المغرب من كل يوم حيث نكون جميعا في انتظاره لتناول العشاء. هربت يوما من الكتاب مع بعض الأطفال وذهبنا نستحم في ترعة صغيرة علي حدود المدينة وفاجأنا ابن السيد الفقيه ومساعده في الكتاب فساقنا أمامه كالنعاج حيث تناول كلانا نصيبه من الضرب وأخطر آباؤنا وانتظرت نصيبي في البيت ولكني لم أنتظر فاتفقت مع أخي الأكبر علي الهرب تخلصنا من علقة ساخنة لأن والدي إذا ضرب أحدنا فكر للآخر في ذنب وضربه أيضا وكان شقيقي في الثامنة من عمره وأما أنا فقد تجاوزت الخامسة بقليل. ركبنا القطار خلسة واختفينا أسفل المقاعد، وتستر علينا ذوي القلوب الرحيمة من الركاب وسار بنا القطار من طنطا قاصدا القاهرة ونحن لا ندري ما سيكون من أمرنا ومررنا مع الركاب إلي خارج المحطة ولم نكن نفكر في غير ما أصبحنا عليه من الحرية نفعل ما نشاء دون رقيب أو خوف من عقاب، ولم يكن معنا من النقود أكثر من مليمين فبعنا سترتي وبقيت بالجلباب ودخلنا في شارع كلوت بك ومنه عرضا علي شارع باب البحر، وسرنا نستعرض الحوانيت حتي لفت نظرنا علي مقلاة فاشترينا منها بعض اللب والسوداني والحمص وكان بجانب المقلاة حانوتا لبيع الحلويات اشترينا منه صندوقا خشبيا صغيرا من صناديق الحلوي وضعنا فيه بضاعتنا وبدأنا ننادي عليها، وراجت تجارتنا ولم يمض غير القليل حتي فرغت البضاعة وعدنا إلي المقلاة ثانية لجلب غيرها وصارت بيننا وبين صاحب المقلاة مودة فأوفي لنا الكيل، وتكررت العملية فكنا نجبر بسرعة ثم نعود لنأتي ببضاعة جديدة، ولم نشعر بالتعب لما لاقيناه من رواج وربح وقتي ولم نهتم للجوع فلم نتناول طعاما إلا عندما غربت الشمس وأقفلت الحوانيت فجلسنا علي حافة الطريق نفرز العملة ونحصيها فإذا بالخمسة عشرة مليما التي كانت رأس مال تجارتنا تصبح مجموعة لا بأس بها من القروش، والقطع ذات المليمين والمليم ونصف المليم فارتسمت السعادة علي وجوهنا ولم نفكر في غير ما نحن فيه من ثراء نسبي وقمنا فاشترينا رغيفا بمليمين ونصف المليم وطعمية بمليمين وطرشي بنصف مليم فأكلنا وشربنا وقد خيم الظلام ولم ندر أين ننام وكان الوقت صيفا وقد ساقتنا أرجلنا إلي العتبة الخضراء، وبجانب بعض الصناديق الفارغة علي الرصيف أمام محل استين للملابس الجاهزة حاولنا أن ننام ولم نكن نغمض جفوننا حتي فاجأنا الخفير الليلي وطردنا بعد أن هددنا بأن يسلمنا لقسم البوليس، فأسرعنا لا نلوي علي شيء من زقاق إلي زقاق في الظلام اهتدينا إلي عجوز ترقد في مدخل بيت قديم فرجوناها أن تأوينا نظير خمسة مليمات، وهناك قضينا الليل علي حصير بجانبها ورحنا في سبات عميق من جراء ما قاسيناه في يومنا من مجهود فلم نشعر بلذع الحشرات التي هاجمت أجسامنا وامتصت دماءنا وتركتنا العجوز فلم تحاول إيقاظنا إلا في ساعة متأخرة من الصباح وبعد أن اشتدت الحركة في الأسواق وبعد أن استوفينا قسطنا من النوم والراحة فودعنا العجوز ووعدناها بالعودة في المساء وتوجهنا ومعنا الصندوق إلي المقلاة فقابلنا صاحبها بالترحاب وهش في وجوهنا وزودنا بما نريد كالعادة ثم دخلنا مطعم الفول وأكلنا حتي امتلأت بطوننا وحمدنا الله علي ما صادفناه من التوفيق وما نحن فيه من حرية واستقلال وبعد عن الأذي. ولقد شجعنا الربح الكثير علي التفنن في أسلوب التجارة بالنداءات المغرية والمظهرالمثير لعطف الزبائن فقطعنا أزرار الطرابيش وقلبناها وشرشرنا حافتها ورسمنا بالطلاء الأسود في وجوهنا شوارب وحواجب غليظة ولحي وصرت أنادي بلهجة مضحكة فاستلفت ذلك الأنظار وأقبل الجميع علي الشراء وتضاعف المكسب فاشترينا حصالة من الصفيح أسقطنا في ثقبها ما يتجمد من العملة الفضية من القطع ذات القرشين والقروش، وأبقينا المليمات وأنصاف المليم للتعامل بها مع الزبائن فلما امتلأت الحصالة وزهدنا في العمل لكثرة ما جمعناه من النقود ومضي من النهار ثلثيه قررنا الراحة بقية اليوم، فغسلنا وجوهنا ووضعنا الطرابيش في جيوبنا وتوجهنا لزيارة مقام سيدنا الحسين وبدأنا نشعر بالحنين إلي البيت وإلي أمنا رغم ما هناك من قسوة وكبت حرية لقد حن كلاما إلي عشه الذي نشأ فيه، وإلي حنان الأم الذي كان يطغي علي آلام الضرب وعلت الكآبة وجهينا وطلبنا من الله الخلاص من هذه الورطة، ولم نكد نخطو خطوتين نحو باب المسجد إلي الخارج حتي سمعنا صوتا ينادي علينا باسم أخي الأكبر فنظرنا خلفنا فوجدنا محمد البشتاوي السمسار وهو أحد الوسطاء الذين يتعاملون مع والدي والذي اعتاد أن يحضر إلي بيتنا كلما حضر إلي طنطا لعرض بعض عينات العطارة الموجودة في السوق عند المستوردين بالغورية فكان فرحنا برؤيته لا يوصف وقصصنا عليه قصة هروبنا منذ أمس خوفا من الضرب الذي ينالنا من الوالد فطيب خاطرنا وأخذنا معه ووعدنا بأنه سيتوسط عند والدنا لكي يسامحنا وسيوصيه بألا يضربنا، وذهبنا معه إلي بيته حيث اغتسلنا وكنا موضع الإكرام والترحيب من زوجته حيث تركنا وأسرع لإرسال تلغراف لوالدي قال فيه وجدنا الأمانة لا تقلقوا وأمضينا الليل في بيته وقد بالغ في إكرامنا، وفي الصباح كان والدنا قد وصل إلي القاهرة في أول قطار فتسلمنا مزودا بوصية البشتاوي فعدنا في قطار الظهر بعد أن تغدينا عند الحاتي. لم نكد نضع أقدامنا علي عتبة البيت حتي اندفعت والدتنا فاحتضنتنا بين أحضانها وأسبغتنا ضمنا وتقبيلا وهي تبكي من شدة الفرح وأما والدي فكان يزوم من وقت لآخر محاولا كتم غيظه متكلفا التلطف ولكننا نشعر في قرارة نفسنا ما يضمره لنا من الشر وما ينتظرنا من الأذي عند سنوح الفرصة. لقد قصت علينا والدتنا ما قاسته من الآلام وما صورته لها الأوهام من الظنون عندما حل المساء ولم نعد، وابتدأت البحث عنا في بيوت الأقارب ثم في قسم البوليس ولم يغمض لها جفن ولم يجف لها دمع وقضت ليلتها ساهرة تبكي وتبتهل إلي الله وتتوسل بالأنبياء والأولياء أن يردونا إليها سالمين إلي أن طلع الفجر فأحضروا المنجم وفاتح المندل ولم يتركوا مشعوذا ولا وسيلة من وسائل التنجيم ومازالوا كذلك حتي وصلهم تلغراف البشتاوي فانقلب المأتم فرحا وراحت الزغاريد تتجاوب في أنحاء البيت ووزع الشراب علي الجيران ومن أتوا للتهنئة، أما نحن فقد كان الخجل يكسو وجهينا فقد كان الهروب عملاً مشيناً وقد استحق كلانا لقب الهارب وأصبح الصغار يعيرونا به كلما رأونا. ومضي ما يقرب من الشهر دون أن يضرب أحدنا ولكن كان هناك ما هو أشد إيلاما من الضرب هي وجبات يومية من التوبيخ الجارح والتهكم اللاذع ونظرات الازدراء، والتوعد والتهديد المتواصل حتي إذا ما جاءت الفرصة المنتظرة عادت القسوة والضرب أشد من ذي قبل كأنما أصبح مرضا لا يقوي علي التخلص منه أو مخدراً لا تهدأ أعصابه حتي أشبع منه الرغبة الكامنة في نفسه حتي أصبح مجرد ندائه علي أو رؤيته أمامي يثير فزعي وخوفي. وسارت الحال علي هذا المنوال حتي أكتوبر 1903 وقد بلغت السادسة وأدخلت مدرسة الأقباط في السنة التحضيرية وكان شقيقي قد سبقني إليها بسنة، وكنا ونحن في هذا السن وهو سن الطفولة، نريد أن نلهو كغيرنا من الأطفال الذين أنعم الله عليهم بآباء في قلوبهم رحمة ولم يكونوا معقدين كما كان والدنا، ولكن اللهو كان من المحرمات علينا كما كان الأدب وحسن التربية في عرفه أن نلازم البيت، وأن نجلس في حضرته مربعين دون حركة ولا جلبة ولم يكن مصرحا لنا حتي بالكلام فكان هذا الكبت داعيا لأن نشبع حاجتنا إلي اللهو واللعب بكل شراهة وعنف ونحن في طريقنا إلي المدرسة ثم العودة إلي البيت وحتي في غياب والدي عن البيت لم نكن نتجاسر علي عمل ما يحدث أي جلبة حتي لا نلهي والدتنا عن عملها المتواصل الذي لا نهاية له طوال النهار من طهي وحياكة ونظافة المسكن ورعاية الدواجن التي كان سطح البيت يعج بها وإعداد الجبن وغسل الملابس ثم رعايتنا ونحن في سن الطفولة وأصغرنا رضيع كان هو لعبتنا الوحيدة وكانت والدتنا تقوم بكل هذه الأعمال المضنية بمساعدة خادمة صغيرة واحدة. ومن الطبيعي أن من كانت هذه حياتهم الطفولية أن يلجأوا إلي الوسائل التي يرفهون بها عن أنفسهم ويشبعون بها رغباتهم المكبوتة وهم خارج المنزل بعيدون عن أي رقابة، فكانت وسيلتنا إلي ذلك الهروب من المدرسة ومن تعسف المربين الذين لا يقلون قسوة عن والدنا فكنا في صبيحة كل يوم نغسل وجوهنا وأيدينا ونلبس ملابس نظيفة ونتناول الفطور ونأخذ مصروفنا مليما لي ومليمين لشقيقي، ثم نخرج لا لنذهب إلي المدرسة إنما إلي الحقول وصيد السمك والاستحمام في الجداول والتسكع في محطة السكة الحديد أو الجلوس علي المقاعد بها نراقب وصول القطارات وقيامها حتي إذا شعرنا بالجوع في موعد الغداء أخرج كل منا طعامه الذي أعدته والدتنا لنا من حقائبنا التي بها أدواتنا المدرسية وأكلنا ثم عدنا إلي ما كنا فيه من لهو حتي يحين موعد الانصراف فنعود إلي البيت بوجوه مغبرة وملابس وأحذية ملوثة قذرة يحمل كل منا حقيبته وهي كيس كبير من القماش له علاقة ترتكز علي الكتف وتحوي اللوح الأردواز والقلم وقطع الطباشير فما نكاد ندخل البيت حتي نرتمي في أحضان أمنا منهكين وتكون متلهفة علينا فتشبعنا ضما وتقبيلا ثم تغير لنا ملابسنا بعد أن تغسل لنا وجوهنا وأيدينا وأرجلنا وهي تتوعدنا وتهددنا بالشكوي إلي الوالد إذا عدنا لذلك مرة أخري وذلك في لهجة ملؤها الحنان والشفقة، وبعد تناول العشاء حيث نكون في شدة الجوع يتملكنا النعاس فننام كالأموات حتي الصباح فلا نري وجه والدنا إلا وقت الفطور وعند استلام المصروف. ومضت سنة دراسية أي تسعة أشهر علي هذا الحال لم نذهب إلي المدرسة أكثر من أسبوع كل شهر، وكذلك في مواعيد الامتحانات والثلاثة أشهر التي لا نصيب فيها للأطفال أمثالي من السنة التحضيرية، أما أخي فكان يستلم شهادته بيده ومعها خطاب يطلب المصروفات التي كانت تدفع كل ثلاثة أشهر فكان يخفي الشهادة ويسلم الوالد خطاب إخطار بدفع القسط وبذلك لم يكن والدي يعلم شيئا عن انقطاعنا وكنا بذلك في غاية السعادة ولم ندر ما تخفيه لنا الأيام حتي حل الصيف وانتهت السنة الدراسية وانصرفنا لإجازة الصيف وهي ثلاثة أشهر، وكان المفروض أن نلزم البيت طوال هذه المدة ولكن رحمة بوالدتي أدخلنا كتابا يديره شيخ متخرج من الجامع الأحمدي هو عبارة عن غرفتين في بيت عتيق وكان أشبه بروضة أطفال متواضعة يحتل الذكور غرفة والإناث الغرفة الأخري تقوم علي رعايتهم وتعليمهم إحدي أقارب الشيخ الناظر فواضبنا علي الذهاب لهذا الكتاب لأن رقابة الشيخ كانت شديدة حرصا علي ما يتقاضاه بواقع الأسبوع حيث يذهب الأولاد في أيام الخميس ومع كل منهم خميسة وهو الأجر المطلوب عن الأسبوع وهو إما عشرة مليمات أو خمسة أرغفة من الخبز البيتي وهناك من الأثرياء من يدفع عشرين مليما. ولم يمض علي وجودنا بهذا الكتاب عشرة أيام حتي وصلت الشهادات مع فراش المدرسة إلي والدي وعرف منها أن أمله فينا قد خاب وأننا قد انقطعنا عن المدرسة ما يقرب من ثلاثة أرباع المدة فطار صوابه وجاء لتوه إلي الكتاب وطلب من الشيخ أن يضع أرجلنا في الفلقة ويتولي هو ضربنا علي أقدامنا بجريدة الشيخ حتي أدماها وذلك علي مرأي من باقي الأولاد، والفلقة في نظرنا كانت كالمشنقة غير أن الأولي تعلق الضحية من أرجلها حتي يصير باطن القدم إلي أعلي والجسم إلي أسفل وهي مكونة من عود من خشب الشوم المتين بطول متر وربع المتر وفي وسطها ثقبان يبعد الواحد منها عن الآخر بمقدار ثلاثين سنتيمترا ونافد من الثقبين طرفا حبل متين ملتف عليه شرائط من القماش حتي لا يقسوا علي قصبة الساق حين يبرم الفرد لكي يلتف عليه الحبل من الطرفين فيطبق علي أرجل الضحية. تاقت نفسي في إحدي أيام الجمعة للاستحمام في الترعة مع بعض الصبية، ولما أشبعت رغبتي من اللعب في الماء والعوم وخرجت من الماء لألبس ملابسي ولم أجد الحذاء وبحثت عنه عبثا واضطررت للذهاب إلي البيت حافي القدمين أفكر في النهاية الكئيبة التي تنتظرني، وقلت في نفسي وقد اعتدت علي تحمل الأذي:«علقة وتفوت وما حد يموت» وقد كان، وأخذت العلقة وبقيت حيا أرزق ولم يكلفني الأمر إلا عبارات الاستغاثة والدموع التي زرفتها وأنا أتلوي تحت العصا ما لبث الألم أن راح، وقد دخل أخي المدرسة الأميرية وانتظم فيها دون انقطاع، وأدخلت في مبدأ العام الدراسي 1902 ـ 1903 المدرسة الأميرية بطنطا وكنت قد تعلمت مبادئ القراءة والكتابة في كتاب أرقي من الأول أطلق عليه اسم مدرسة السيدين مديره ناظر استبدل الجبة والقفطان والعمامة ولبس الكوة الإفرنجية والطربوش. وأول ما ألحقت بالسنة الأولي وكان الهروب من هذه المدرسة مستحيلا وكانت هناك في فترات الفسحة فرصة للحرية وللعب مع الأولاد، وأما في البيت فإن السياسة لم تتغير فلا لعب ولا حرية بل كبت وقسوة وعبوس من الوالد يقابله تهاون وتسامح من الوالدة أثناء غيابه في عمله، أما الطلبات المدرسية من أدوات كتابية ومصروف إضافي للرحلات أو الاشتراك في الحفلات التي تقيمها المدرسة للترفيه عن الطلاب أو شراء ملابس للألعاب الرياضية وأحذية من المطاط فكان كل ذلك يقابل بالاشمئزاز والرفض ولا أجرؤ علي مناقشة أبي أو الإلحاح عليه فلم يكن يبعدني من هذا الموقف إلا حنان أمي التي كثيرا ما كانت تعجز عن إجابة طلباتي لأنها لم تكن تحتفظ بشيء من النقود إلا نادرا لعدم حاجتها شخصيا إلي نقود. ويقابل هذا البخل إسراف من ناحية أخري هي طلبات البطون من ألوان الطعام الشهية من لحوم وطيور وفواكه وفطائر مما يصلح الأجسام ويفسد الافهام. ولما كان والدي شيخا معمما فإنه كان يجهل القيافة الإفرنجية وكان يعهد إلي الخياط العربي الذي يصنع له ملابسه بصنع ملابسنا الإفرنجية وكان المهم عنده أن تكون من أجود الأقمشة حتي تعمر ولا تبلي بسرعة فكانت ملابسنا والحالة هذه أشبه بالبيجامة في شكلها وبمرور السنين يصبح البنطلون قصيرا وكذلك أكمام الجاكتة ولا بأس بذلك مادامت تؤدي عملها الأصلي وهو وقاية الجسم مادامت متينة لم يطلها التلف بعد. واستمر الحال علي هذا المنوال أربعة أعوام طوال بلغت فيها سن الحادية عشر وقفز مصروفي إلي ثلاثة مليمات بدل مليمين وأما حالة الكبت فلم تتغير وكذلك الضرب والقسوة وكنت أتمتع بأكبر قسط من اللهو والشيطنة قبل أن يعود والدي من عمله، فإذا تأخرت عن البيت مع الأولاد في الشارع ولمحته عند وصوله لا أسلم من عصاه ونقلت إلي السنة الثالثة بعد رسوبي مرة في السنة الثانية. ولما صرت في السنة الثالثة وكان هذا هو العام الرابع بالمدرسة الأميرية، بدأت ألبس ملابس أخي التي ضاقت عليه وفرحت بها لأنها كانت من الملابس الجاهزة وشكلها مناسب، وقد بلغت الثانية عشرة في يناير 1906 لم أعد ألتحق بالمدارس الأهلية في إجازة الصيف وبقيت في البيت لمساعدة والدتي في بعض المهام المنزلية كالذهاب إلي السوق والعناية بالدواجن وكنت أتردد علي محل ساعاتي بما أنه والد صديق لي، ويقوم بالعمل الفني فيه شقيق صديقي وكثيرا ما كنا نساعده في تنظيف قطع المنبهات وتدرجت بعد ذلك إلي حلها وتركيبها وأمكنني في مدة قصيرة أن أتفهم كل شيء فيها وأن أصلحها بنفسي وبدأت في تركيب الساعات وتنظيفها بالبنزين، والفرشة وكنت بطبيعتي ميالا للأشغال اليدوية والحرف. وجاء العام الدراسي 1906 ـ 1907 وكنت راسبا في السنة الثالثة لأنني لم أكن ميالا إلي الاستذكار وموجها كل أفكاري واهتمامي إلي الصناعة والرسم النظري وأصلح ساعات التلاميذ قدر استطاعتي وما يستعصي علي أعطيه إلي معلمي الذي كنت أساعده في أيام الخميس والجمعة نظير أجر بسيط أستقطع منه جزءاً لنفسي وذاع صيتي بين التلاميذ وزاد دخلي فاشتريت ما ينقصني من الآلات الضرورية وأمكنني إصلاح الخلل البسيط وضبط التقديم والتأخير بغاية الدقة. وداهمني والدي وأنا منهمك في إصلاح ساعة فضية لأحد التلاميذ قبل أن أتمكن من إخفاء الأدوات المبعثرة علي الطاولة التي أجلس إليها للاستذكار وجمع كل ما وجده أمامي من الآلات والساعات وألقي بها في دورة المياه ونالني منه كفان علي وجهي ثم توعدني بالضرب مرة أخري لأنه مشغول، ثم تركني حائرا لا أدري ماذا أصنع وماذا أقول لأصحاب الساعات وخسرت الأدوات التي اشتريتها وضاع كل مجهودي معها نتيجة جهل والدي وتسرعه، ولكنه اضطر أن يدفع الثمن صاغرا بعد أن وصل الأمر مسامع الناظر وأولياء أمور وأصحاب الساعات المفقودة وهكذا حرمت من هوايتي ومن المكاسب التي كنت أحصل عليها ورسبت في السنة الثالثة للمرة الثانية فقد كانت أفكاري متجهة لغير الدراسة نتيجة لعقد نفسية أورثني إياها الكبت والقسوة وسوء المعاملة مما كان له أسوأ الأثر في نفسي، وفي نهاية السنة الدراسية 1907 ـ 1908 نجحت في امتحان النقل إلي السنة الرابعة وكنت قد نسيت معطفي في المدرسة عند حلول الصيف وابتداء الحرارة واستولي عليه صاحب النصيب من الفراشين ولم أتذكره إطلاقا، ومضي العام الدراسي وجاءت الإجازة الصيفية ورسبت في امتحان الشهادة الابتدائية للمرة الأولي واستولي علي الخوف ففكرت في الهروب واستقر رأيي علي ترك طنطا والسفر إلي القاهرة، وكنت محتفظا بمبلغ مما كنت أربحه فلما وصلت القاهرة قصدت فورا عم محمد الشتاوي وأطلعته علي حقيقة أمري وأنني لم أجد لدي الشجاعة الكافية لمواجهة والدي فقام لفوره واتصل بوالدي تليفونيا وأبلغه سبب التجائي إليه وقلت لعم محمد أن يفهم والدي أنه أساء معاملتي فليس أمامي إلا الانتحار، وحضر والدي واصطحبني معه لطنطا بعد أن فهم عزمي علي التخلص من الحياة إذا هو ضربني أو أساء معاملتي. ومضت العطلة بسلام وقد ربحت من الهريسة والبائدسبانيا مبلغا لا يستهان به اشتريت به آلة تصوير فوتوغرافي كالصندوق كانت الأخري مورداً آخر من موارد الكسب، وابتدأت الدراسة وبدأت هواية جمع طوابع البريد وكنت أجني من ورائها بعض الربح وكذلك من تجليد الكتب والتصوير الفوتوغرافي وسارت الحال من احسن إلي أحسن. ولما حل الشتاء بحث والدي عن المعاطف فلم يجد غير معطف شقيقي وللحال تبادر إلي فهمه أنني لابد أن أكون بعته للحصول علي نفقات السفر للقاهرة في أول عطلة الصيف، فلم يكن منه إلا أن توجه لمقابلة ناظر المدرسة وأبلغه أنني بعت معطفي وهربت إلي القاهرة في الإجازة، وحلفت بأغلظ الإيمان لأبرئ نفسي ولكن أحداً لم يصدقني ونلت من الضرب والإهانة ما هو فوق الطاقة وبذلك هدأ البركان الذي كان مهيأ للانفجار في صدر أبي ثم علق في فناء المدرسة إعلاناً ذكر فيه أنني بعت معطفي وهربت وأن علي التلاميذ أن يمتنعوا عن مصاحبتي والإمضاء ناظر المدرسة. ولما اطلعت علي الإعلان ووجدت إعراض التلاميذ عني ونظرة الاحتقار التي كانوا يوجهونها إلي عزمت علي مغادرة المدرسة والبيت إلي الأبد، فسافرت هذه المرة إلي الإسكندرية أحمل آلة التصوير التي كانت أثمن شيء عندي وكنت أمني نفسي بالاشتغال في البواخر التي تسافر للخارج لكي أرحل عن الوطن كله سعيا وراء الحرية التي حرمتها والتمتع بالحياة التي أحبو إليها وأشبع هواياتي وآمالي بتعلم حرفة أو صناعة، ولكني حين وصلت الإسكندرية أحسست برهبة مؤقتة ولم أجرؤ أن أفاتح أحداً برغبتي ولا أن أتقدم بطلبي إلي أصحاب الأعمال بحثا عن عمل وتملكني الجبن والخجل لقد كان والدي يفضل أن أخلق أبكم علي أن أتكلم بحرية أمامه أو أمام زائر في حضرته، ولقد لازمني هذا الخجل والحياء في المجتمعات فمن الصعب أن أردد بفمي ما يجول في خاطري واضطررت للعودة في نفس اليوم بعد أن عقدت النية علي الدفاع عن نفسي بقدر الاستطاعة وليكن ما يكون، ولن أسمح بعد اليوم ليد تمتد علي بالضرب وإن كان والدي وصادفت حملة من الازدراء والتعنيف والإهانة ولكني لم أكترث لذلك فقد كانت أخف علي نفسي من أن أضرب وأنا في هذه السن، كما لم أبال باستقطاع المصروف فقد كان ربحي من تجليد الكتب والبيع بالوفرة من الأفلام وأسنان الريش والمساحات وطوابع البريد وتجليد الكتب والتصوير الفوتوغرافي وأضعاف أضعاف ما كنت أحصل عليه من مليمات تافهة، وكان لي أصدقاء لم يبالوا بما قرره الناظر من مقاطعة التلاميذ وامتناعهم عن الاختلاط بي وأصبحت بهذا الإعلان فارس الميدان ينظر إلي الكل نظرة الإعجاب كأني بطل من أبطال الروايات، وتفننت في صنع الهريسة بمربة جوز الهند في إجازة الصيف ولم أعد أعبأ بمصروفي بعد أن أعيد صرفه إلي وهو لم يتعد الخمسة مليمات، ورسبت للمرة الثانية في شهادة الدراسة الابتدائية ولم أبال وبقليل من الاستذكار نجحت في المرة الثالثة والتحقت بالمدرسة المحبية الثانوية بطنطا في أكتوبر 1911 وتوفيت والدتي الحبيبة في هذا الوقت فحزنت عليها حزنا عظيما ولم يعد لي ميل للدراسة وانقطعت عن المدرسة وأصبح والدي بعد موت والدتي كسير القلب ولانت طباعه بعض الشيء فطلبت منه أن يدخلني مدرسة المساعي المشكورة في القسم الداخلي فأجابني إلي طلبي، وسافرت شبين الكوم في يناير 1912 وتزوج والدي في هذه الأثناء ليملأ الفراغ الذي تركته والدتي لكي يتفرغ إلي عمله وتقوم زوجته برعاية أختي وأخي الصغيرين، وقد تزوج بابنة خالي التي فاتها القطار وتزوج شقيقي الأكبر باختها الصغيرة وكان يقيم في القاهرة ويعمل ضابطاً بالبوليس. والتحقت بالمدرسة الحربية في أكتوبر 1912وهنا تبدأ المرحلة الثانية من تاريخ حياتي مرحلة الشباب والانطلاق نحو الحرية الشخصية والحياة النظيفة الخاضعة لتعليمات وقوانين ثابتة وأوامر محددة لا يجد الإنسان أية صعوبة في تنفيذها مادامت سارية علي الجميع دون تمييز، وكان من الصعب علي شخصيا أن أستمر في المدرسة الحربية حتي تخرجت برتبة ملازم في الجيش وذلك لأن الحياة فيها ليست كما كنت أتوقع، وقد كنت في السنة التي تلت بعدها شهادة الدراسة الابتدائية من شباب الحزب الوطني وذلك أثناء التحاقي بالمدرسة الثانوية، وكنت أقرأ لمصطفي كامل في حياته وكل ما كتب عنه بعد وفاته، وحضرت حفلات التأبين التي أقامها أعضاء الحزب في طنطا وقام فيها مدرس اللغة العربية الأستاذ الرافعي بإلقاء كلمة رثاء وقرأت كل ما كان ينشر عنها في الصحف، وكنت متشبعا بالمبادئ الوطنية ناقما علي الإنجليز والاستعمار وظهر ذلك جليا فيما سيأتي الكلام عنه أثناء الدراسة وبعد التخرج في السودان وفي فلسطين أثناء الحرب العظمي التي بدأت في 1914 قبل تخرجي ببضعة أشهر. تقدمت بطلب للالتحاق بالمدرسة الحربية في أثناء عطلة الصيف في أغسطس 1911 دون علم والدي، وكان سني يزيد علي السن المحدد للقبول فاستخرجت شهادة طبية أرفقتها بالشهادات المطلوبة ثم تقدمت للكشف الطبي وكشف الهيئة. القاهرة المصرية في 12 أبريل 2005 |
«الصبي» لشابلن: للضحك أو للصراخ ضد المجتمع؟ ابراهيم العريس اذا كان عنوان الافتتاح لفيلم «الصبي» الذي كان أول فيلم طويل حققه تشارلي شابلن يقول: «فيلم فيه ابتسامات، وربما فيه دموع أيضاً»، فإن أول النقاد الذين تحدثوا عن هذا الفيلم يوم عرضه، وافقوا تماماً على تلك العبارة، لكنهم استطردوا يقولون: يجب على أية حال محو كلمة «ربما» من هذا العنوان. فالحقيقة ان الدموع ماثلة في الفيلم من دون أي التباس، الى جانب الابتسامات التي تصل أحياناً الى حدود القهقهة. ولا بد من الاشارة هنا منذ الآن الى أن واحدة من السمات الأساسية لهذا الفيلم، الذي أسس في طريقه لنوع سينمائي لم يتوقف الفن السابع عن محاكاته على مدى تاريخه، تكمن في أن شابلن قد عرف كيف يمحي فيه جزئياً أمام «بطل» آخر في الفيلم، هو الصبي نفسه الذي يتحدث عنه العنوان. والحقيقة ان هذا الصبي أثار كل أنواع التعاطف والعواطف، بخاصة ان الطفل الذي لعب دوره، جاكي كوغان، كان من البراعة والشيطنة في الأداء، الى درجة انه سرعان ما صارت له شهرة شابلن نفسه... وهنا نفتح هلالين لنذكر ان تلك الشهرة لم تعد بالخير على الطفل، لاحقاً، اذ انه سرعان ما غرق في المآسي ثم في الفشل بعد الآخر، اذ اعتقد ان في امكانه ان يحلق بجناحيه بعد النجاح الذي أمنه له شابلن، فاختفى كحاضر ليظل حياً كماض... وهكذا، حتى وان ظل يمثل حتى آخر أيام حياته، فإن أحداً لم يعد للتنبه اليه... وحتى حين لعب دور العجوز الشرير، انكل فستر في «عائلة آدامز»... المهم أيضاً ان شابلن، بعدما رجحت كفة الطفل عليه في «الصبي»، عاد لاحقاً وعدّل الأمور متجنباً خوض تجربة جديدة تجعل لأي فيلم من أفلامه بطلاً مستقلاً ينافسه... باستثناء النساء اللواتي ارتبط حضورهن لديه، بوجوده في الفيلم، وصار ذلك الوجود محور وجودهن واهتمامهن، في «الصبي» اذاً، كانت الأمور على غير ذلك: سخر شابلن فيلمه وطاقته، وكل نشاطه وابداعه لخدمة الموضوع. والموضوع كان، وفي كل بساطة، أن ذلك المتشرد الذي كان صاره، انطلاقاً من عشرات الأفلام الصغيرة والقصيرة التي حققها وكتبها ومثّل فيها خلال العقد السابق من السنين، يجد نفسه فجأة، ومن دون ارادته، مسؤولاً عن طفل وجده مرمياً في الطريق. في بداية الأمر، لم يشعر بأية رغبة في حمل تلك المسؤولية ويحاول التخلص من الطفل... لكن ذلك يبدو مستحيلاً، على رغم كل الحيل التي يقوم بها. وتكون النتيجة ان الطفل يلتصق به، الى درجة انه هو نفسه خلال المرحلة التالية، لا يعود – لا قادراً على ولا راغباً في – الافتراق عن الصبي... ولا سيما حين يبدأ المجتمع، متمثلاً بالسلطة وبالأهل، محاولات مستميتة لانتزاع الصبي من بين يدي المتشرد. والحال ان جزءاً كبيراً من زمن الفيلم، يتمحور حول المحاولات التي تهدف الى انتزاع الصبي، ومحاولات المتشرد – ثم الطفل معه – للافلات من تلك المحاولات. وفي الطريق الى ذلك يعيش المتشرد والطفل حياتهما – التي هي في الأصل حياة المتشرد – ويتشاركان في اكتساب الرزق بأغرب الطرق وأكثرها مدعاة للدهشة. يصبحان شخصاً واحداً في جسدين... ويبدو واضحاً في كل لحظة انه بمقدار ما كان شابلن، ككاتب ومخرج، يبدع في رسم شخصية الطفل مضفياً عليها أبعادها، بمقدار ما كان الطفل يمثل، حقاً، بتلقائية وبراعة مجتذباً أفئدة المتفرجين... ما شكل خطراً حقيقياً كما أشرنا، على شابلن نفسه. غير ان قيمة الفيلم الأساسية والتي جعلته حياً حتى اليوم، بل، ربما جعلت منه واحداً من أجمل أفلام تشارلي شابلن وأقواها، بعيداً من حكاية التمثيل والمنافسة على احتلال المكانة الأولى في الفيلم بين شابلن وبطله الصغير، تكمن في «الصبي» نفسه كعمل فني انساني رفيع المستوى، وتحديداً في ذلك الاجماع المبكر حول فكرة ان الفيلم عرف كيف يزاوج بين الضحك والبكاء... ما يعني، بكل بساطة، أنه عرف كيف يتعاطى مع العواطف، وكيف يخلق، بين الصالات العتمة، والشاشة، علاقات لم تكن السينما قد عرفت كيف تقيمها قبل ذلك... ولم يكن هذا، كل الفيلم على أية حال، ذلك ان شابلن عرف كيف يزرع في هذا الفيلم، كل أفكاره وآرائه في المجتمع والفن والصداقة، والانقسامات الطبقية... عرف كيف يشرح ويفسر ويدين، الى درجة ان أي باحث في التراتبية الطبقية، معكوسة حتماً في التصرفات والمسالك الأخلاقية يمكنه أن يستعين بما في هذا الفيلم لدعم نظريته، ولا سيما في مجال فكرة السلطة، ومن يقبض على هذه السلطة. وفي هذا الاطار، عرف شابلن كيف يرسم صورة ذكية وواضحة، حتى لأساليب مقاومة ممكنة في وجه ظلم المجتمع للمسحوقين فيه، كما للنفاق الاجتماعي. ولم يكن هذا جديداً على شابلن، اذ نعرف ان مثل تلك الأفكار كان عبر عنها في الكثير من شرائطه القصيرة، ولا سيما مثلاً في «حياة كلب» الذي يمكن اعتباره ارهاصاً بـ»الصبي»... اذ انه في هذا الأخير، ابدل كلب الفيلم السابق بالصبي، جاعلاً منه في شكل فيه رمزية الكلب نفسها في الفيلم السابق وثروته الوحيدة، وسلاحه في مقاومة المجتمع... وشابلن هنا، يصور لنا متشرده شارلو، وهو ينتفض أساساً ضد ذلك المجتمع، وتحديداً كأن المجتمع أفاق فجأة، ليحاول ان ينتزع منه الثروة الوحيدة والسلاح الوحيد، اللذين يساعدانه على تحمل العيش ومقاومة تراتبية اجتماعية لا تكتفي بأن تدفعه دائماً الى القاع، بائساً اعزل من كل سلاح، بل تريده ألا يقاوم. ومن هنا، فإن الفيلم يصبح فيلماً عن المقاومة: مقاومة المتشرد لرجال الشرطة، لقبضايات الحي، لموظفي الانعاش الاجتماعي، الذين على تفاوت أساليبهم و»وظيفتهم» في المجتمع، يتطلعون دائماً الى تبرير وجودهم من طريق ابقاء الضعيف ضعيفاً والقوي – الذي يمثلونه في شكل أو في آخر – قوياً. ومن هنا يصبح واضحاً لدى المتفرجين كيف ان «النضال الملحمي» – بحسب الناقد جان ميتري – الذي يخوضه تشارلي شابلن، عبر متشرده وبمشاركة حاسمة من الصبي، ضد المجتمع، بمكوناته الكثيرة، لا يعود نضالاً مضحكاً مثيراً للشفقة يطلب من المتفرجين التماهي مع خائضيه، بل بالعكس يصبح نضالاً اجتماعياً حقيقياً يخوضه البائسان، الكبير والصغير، باسم قطاعات عريضة من المتفرجين. ومن الواضح ان شابلن حدد في هذا الفيلم طريقه، التي ستصبح أكثر وضوحاً، فيلماً بعد فيلم، حتى وان كانت تلك الطريق ظلت معبّدة بالكوميديا و»القفشات» وما شابه. وكان من الواضح ان هذه الطريق، هي التي ستثير في وجه شابلن نقمة حراس المجتمع القويم، اذ تدخل في عمق الأمور وفي عمق ما هو سائد. ومن هنا انتفاض أولئك الحراس، «الصائبين سياسياً» بحسب تعبير سيسود لاحقاً طبعاً، ومضايقتهم لشابلن، متذرعين بما هو أقل خطورة مما في «الصبي»: بالمكشوف والمزعوم من مواقف سياسية هدامة، برزت مثلاً في «الأزمنة الحديثة». حقق تشارلي شابلن «الصبي» في العام 1921، فيلماً صامتاً – بالطبع -، لكنه أتى فيلماً صاخباً، صارخاً... وكان شابلن في ذلك الحين وصل الى ذروة مكانته كواحد من كبار مبدعي فن الهزل في السينما، بل فن السينما عموماً، ونعرف ان مسار شابلن (1889 – 1977) السينمائي قد تواصل أكثر من خمسين عاماً، ووسمته أفلام/ علامات، كان «الصبي» واحداً منها... ولكن أيضاً كان هناك: «اضواء المسرح» و»اضواء المدينة» و»مسيو فردو» و»الديكتاتور» و»الهجمة على الذهب» و»السيرك» و»ملك في نيويورك» وغيرها من روائع من الصعب تصور كيف كان لفن السينما أن يكون من دونها. الحياة اللبنانية 12 أبريل 2005
|