اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت عمان - ناجح حسن |
|
عرضت صالة (مكان) بجبل اللويبدة مساء امس فيلم «المرآة» لمخرجه الروسي اندريه تاركوفسكي والذي رحل عن الدنيا العام 1986 بعد مسيرة حافلة في السينما السوفياتية سابقا، والسينما العالمية وعرفه النقد السينمائي بفيلمه الهام «طفولة ايفان» الذي حققه العام 1962 وحصل عنه على جائزة لجنة تحكيم مهرجان البندقية السينمائي الدولي. اثبت تاركوفسكي (المولود العام 1934) في سائر اعماله السينمائية التي لم تتجاوز السبعة اعمال روائية طويلة مهارة وفنية عالية المستوى وجرأة غير مسبوقة عن اعمال جيله من المخرجين في الحقبة السوفياتية، وهو الذي نال تعليمه السينمائي تحت رعاية المخرج المعروف ميخائيل روم في معهد موسكو للسينما الذي كان قد التحق به العام 1955، واظهر موهبة ناضجة في مشروع تخرجه، واستمر في البحث والتساؤل عن قضايا وهموم مغرقة بالفلسفة والوجودية والتيارات الفكرية السائدة بالعالم، مما قاده الى اختيار موضوع مغاير لما درج عليه زملاؤه في السينما السوفياتية كموضوع تحفته السينمائية النادرة «آندريه رويلوف» والذي يتناول مسيرة فنان لرسومات الايقونات الكنسية ومعايشته لمحيطه الاجتماعي والسياسي في حقبة زمنية غابرة من روسيا القيصرية، فقد وضع روبلوف بعمله هذا الكثير من خبرته وتصوراته الشخصية للاوضاع التي يعيشها المبدع ببلده ومليئة بالشاعرية والاشارات والايحاءات القوية، وفيها توظيف متين لمفردات اللغة السينمائية وبعيدا عن الاجواء السائدة في السينما السوفياتية. ظل فيلم «اندريه روبلوف» مغيبا لفترة طويلة عن شاشات السينما العالمية لسنوات بحكم الرقابة والحذر اللذين استقبلاه في بلده الاتحاد السوفياتي السابق قبل ان ينجح بالانفلات من قيوده ويعرض بحماس شديد في اكثر من مناسبة سينمائية عالمية وباحتفاءات خاصة وكلها تحكي باعجاب ودهشة عن مثل هذه المشهدية السينمائية المكتنزة بالرؤى والافكار والتي فجر فيها صانعها الالوان في حلول درامية تجيء بآخر مشاهد العمل الذي صوره باللونين الاسود والابيض. بعد نجاح تاركوفسكي المدوي في «اندريه روبلوف» واصل جهوده الابداعية بأفلام لاحقة كانت تتفاوت بمعدل فيلم كل عامين وفي احيان كثيرة انتظر لخمسة اعوام ليتمكن من تحقيق عمله التالي، ولم تخل قائمة افلام تاركوفسكي سواء تلك التي حققها داخل موطنه روسيا او خارجه بالسويد وبالانتاج المشترك مع فرنسا وايطاليا من لقياته الابداعية وتنويعاته المدروسة ما بين المنحى التجريبي والخيال العلمي. ففي فيلمه «المرآة» الذي حققه العام 1974 يبدو مخرجه اسير افكاره الاولى التي تأسس عليها والتي تحوي على قدر اكبر من الاحاسيس والمشاعر الذاتية الخاصة والعميقة المضامين من الصعوبة بمكان على المشاهد العادي ان يتفاعل معها نظرا لأسلوبية صنعها والمختلفة مع سواها، ولكن هذا لا يعني بتاتا انها موجهة اساسا للنخبة. فالفيلم «المرآة» الذي يعد ثيمة ثابتة لأعماله اللاحقة مثل «سولاريس» 1979 والذي اعادت السينما الاميركية قبل عامين انتاجه بالعنوان ذاته واخرجه ستيفن سوديبرغ اعتبر كتحية خاصة للمخرج الراحل ولكن عجز الفيلم الاميركي عن بلوغ موهبة صاحبه الاصلي. في فيلم «المرآة» كما في سائر افلامه الاخرى ينهل تاركوفسكي من تفاصيل حياتية وشخصيات وازمنة وامكنة باشتغال كثيف على العناصر الدرامية والبصرية، ويلتقط ما هو مهمل في افلام الآخرين ويركز عليه ويتواصل معها بما يحيط بها هناك ثمة صمت ولحظات من الضجر والقتامة وتبدل العواطف وتحولات مصائر لشخوصها الاساسيين، فهو على سبيل المثال يتتبع بفيلمه «المرآة» سيرة بطله الاربعيني داخل عائلته ويستعيد معه سنواته السابقة في اكثر من مرحلة حياتية، متكئا على تفاصيل بسيطة من البيئة البعيدة عن مركز المدن الكبيرة، يغوص المخرج بأطرافها ومفسحا للكاميرا التجوال المريح في عالم الطبيعة الفسيح. مع بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي لم يتحمل اندريه تاركوفسكي الضغوطات النفسية والعصبية والتدخلات التي احاطت بعمله الابداعي مما جعله في النهاية يقرر الخروج من بلده روسيا والاتجاه الى اوروبا دون ان يعني ذلك انشقاقه كما فعل مواطنه اندريه كونشالونسكي، فقد ظل طوال اقامته بالسويد على تماس مع بلده الاصلي وتجاذب خاص وفي مقر اقامته الجديد اسعفه القدر ان يحقق فيلمين من ابرز اعماله في مشواره السينمائي رغم حالة المرض العضال التي عانى منها في سنواته الاخيرة، فقد انطلق بفيلميه الأخيرين: «حنين» او (نوستالجيا) و«تضحية» على بث خلاصة رؤيته واسلوبيته المميزة بالتساؤل بالبحث عن حقائق الحياة، والموت والكون والعديد من المفردات الفلسفية المغرقة في الوان من الشعر والحيرة والقلق بعضها مستمد من ابعاد صوفية دينية والآخر من تضاريس طبيعية، سهول وهضاب وجبال وغابات ومياه من حبات مطر متساقطة ومشاهد بديعة التكوين مفعمة بالاسئلة عن تناقضات الحياة وماهية الكون. الرأي الأردنية في 3 فبراير 2005 |