سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران ابراهيم العريس |
للوهلة الأولى، قد يبدو فيلم «الطيار» لمارتن سكورسيزي، منخرطاً في ذلك الانبعاث الجديد الذي نشهده خلال السنوات الأخيرة لنوع سينمائي معروف منذ زمن بعيد باسم «بايوبيك» (اي سينما السيرة). فـ«الطيار» يأتي وسط زحام من افلام لا تكف عن الحديث عن كبار نجوم الغناء والسينما والسياسة والفن والحرب الذين عرفهم القرن العشرون، بل عرفتهم قرون سابقة. غير ان ثمة امرين على الأقل يحولان بيننا وبين اعتبار فيلم سكورسيزي الجديد، فيلماً «على الموضة»، اولهما ان صاحب «عصابات نيويورك» كان يحلم - كما كانت هوليوود كلها تحلم منذ زمن بعيد - بتحقيق فيلم عن هوارد هيوز، الملياردير الأميركي الذي تأرجحت حياته بين السينما والطيران فنيّ العصور الحديثة بامتياز، من قبل ان تتحول السير الى موضة مضمون اجتذابها للجمهور. وثانيهما، وهذا الأمر اهم بكثير، هو ان «الطيار» - وفي سياق ميز معظم سينما سكورسيزي حتى اليوم - يكاد يتحدث عن سكورسيزي بمقدار ما يتحدث عن هوارد هيوز. وفي هذا المجال لن يكون من قبيل الهرطقة، المقاربة بين «اسكندر» اوليفرستون و«طيار» سكورسيزي. إذ ان في وسعنا، في نهاية الأمر، ان نعزو فاتح العصور القديمة كما قدم في «الاسكندر» الى هموم اوليفرستون، وعلاقته الخاصة بالبطولة والسلطة والتاريخ، تماماً كما ان في إمكاننا ان نعزو الصورة التي يقدمها سكورسيزي لهوارد هيوز، الى هموم سكورسيزي والأسئلة التي ما برح يطرحها على نفسه، منذ «سائق التاكسي» وصولاً الى «عصابات نيويورك» مروراً بـ«كازينو» و«الثور الهائج» وحتى «آخر اغواء للمسيح» و«لون المال» و«بعد الدوام»... جزء من حياة طويلة من هنا يبدو لافتاً ان يختار سكورسيزي تقديم مرحلة محددة من مسيرة هوارد هيوز الحياتية والمهنية، بدلاً من ان يتابع سيرة حياته كلها. فأحداث «الطيار» تدور بين العام 1927، الذي انخرط خلاله في فن السينما بشكل حقيقي ونهائي، والعام 1947، الذي شهد ولادة طائرته العملاقة «هرقل» ومصاعبه مع الإدارة الأميركية. اما البقية فقد سكت عنها سكورسيزي، حتى وإن كان أطّر الفيلم بمشهد واحد - رمزي بالأحرى - هو ذاك الذي يرينا هيوز طفلاً تغسله امه بأناقة وقوة وجمال محذرة إياه من الأوساخ والناس والجراثيم، اي من كل ما يمت الى الحياة بصلة. ان من الواضح هنا ان سكورسيزي إذ اختار مشهد الغسيل الطقوسي، مركزاً فيه على فكرة «الحجر الصحي» كمبدأ اساسي، انما اعطي ذلك كله بعداً دينياً (كالعمادة مثلاً)، جاعلاً من مبدأ النظافة المطلق، صنواً لعربة التزلج «روزباد» التي هيمنت على حياة المواطن كين كلها وحتى موته في فيلم اورسون ويلز الشهير. وفي يقيننا ان اورسون ويلز حاضر بقوة في هذا الفيلم، الذي من المؤكد ان سكورسيزي شاء له ان يكون «المواطن كين» الخاص به. وفي يقيننا ايضاً ان سكورسيزي نجح في رهانه، وليس فقط لأن القوم الذين يختارون الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار لهذا العام، اعطوه 11 ترشيحاً، ناهيك بأن ثلاثاً من جوائز «غولدن غلوب» الرئيسية ذهبت إليه، وليس فقط لأن الجمهور يقبل بكثافة على فيلم يثير اعجاب معظم النقاد الجادين في العالم، بل بخاصة لأن «الطيار» لا يخرج ابداً عن اطار سينما سكورسيزي، لا يبدو شهاباً عابراً في حياته الفنية... كما يبدو حاملاً إجابات عن أسئلة لطالما طرحها سكورسيزي على نفسه (وهنا يكمن جوهر العلاقة مع الجزء الذي اختاره من سيرة هيوز). ففي اللقطة الأخيرة من «لون المال»، مثلاً، يخبط بول نيومان عصا البلياردو على الكرات بانتصار، صارخاً: «ها أنذا قد عدت» ويأتي ذلك بعد عبوره وهدة الفشل والخيبة والسقوط. ان تلك الضربة انما كانت انبعاثه الجديد. وشيء مثل هذا يحدث في «الثور الهائج» حيث، بعدما يمر جاك لاموتا (روبرت دي نيرو في دور الملاكم الشهير) مرحلة الإخفاق والعذاب في حياته، يعود قوياً وقد تطهر دينياً في توبة يسوعية خالصة (نسبة الى طهارة السيد المسيح)... وهذا النوع من الأمثلة يمكننا ان نواصل استقاءه من معظم افلام سكورسيزي حيث لا بد لـ«البطل» من ان يُهزم، وتهزم احلامه الكبيرة على مذبح جبروته وأخطائه، لكي يمر في مرحلة تطهر، روحي او جسدي او الاثنين معاً، تبعثه من جديد قوياً معافى، مستعداً لاستئناف حلم جبروته وقد تَطَهَّر من ماضيه. وهو ما يجد معادله، بالطبع، في ذلك المقطع من «الطيار» الذي يصور لنا هيوز، بعد حادث سقوط الطائرة الذي يكاد يقضي عليه، ينزوي في غرفة عرض الأفلام فترة طويلة من الزمن بعيداً من اي احتكاك بالآخرين، مكتفياً بالحليب غذاء له، مطولاً لحيته عازفاً عن الاستحمام، متأملاً زجاجات عبأ فيها بوله، صارفاً وقته في مشاهدة الأفلام متحدثاً الى نفسه. فهو اذ يخرج من هذا كله في النهاية، يخرج نظيفاً حليقاً مقبلاً على الحياة مستعداً لمعركته الكبرى مع الإدارة الأميركية. ان من يقرأ سيرة هوارد هيوز، الحقيقية غالباً، يعرف بالطبع، ان «الطيار»، من بعد إنجازه لطائرته العملاقة «هرقل» التي شاءها «اكبر وأقوى طائرة في العالم» (وهي اللحظة التي يتوقف عندها الفيلم)، عاد وأخفق في حياته وعمله ثانية. خسر امواله وخسر شركته للطيران وخسرت شركة «ار كي او» السينمائية التي أنفق عليها ملايين الدولارات... ثم عاش وحيداً منزوياً مرعوباً من الموت والجراثيم، عشرين سنة بالكاد يعرف احد عن حياته خلالها شيئاً. اين «المافيا» و«السي آي اي» ومن يقرأ سيرة هيوز، يعرف انه كانت له زوجة شرعية هي الممثلة جين بيترز، التي ظلت تتهمه لاحقاً بأنه نسف مهنتها وأخفاها عن عيون الناس، في الوقت الذي امضى حياته كلها يخترع نجمات من لا شيء (جين هارلو، «بطلة»، فيلمه الأول «ملائكة الجحيم»، وجين راسل «بطلة» فيلمه اللاحق «الخارج على القانون»). ومن يقرأ السيرة يعرف ايضاً ان ثمة علاقات غامضة، إنما مؤكدة، ربطت بين هيوز - على رغم ليبراليته ذات النزعة اليسارية - وبين «المافيا» و«السي آي اي»، ويـعـرف ايـضاً انه لم يـكن المخرج الحقيقي لأي من الأفلام - القليلة على اي حال - التي تحمل اسمه كمخرج بما فيها «ملائكة الجحيم». ومن يقرأ يعرف ان طائرة «هرقل» نفسها التي ينتهي الفيلم على طيرانها وانتصارها، لم تطر اكثر من مئة متر، ثم حولت الى متحف النسيان ومزبلة التاريخ في الأسابيع القليلة التالية مباشرة لنهاية الفيلم. بيد ان هذا كله يبدو مسكوتاً عنه في فيلم سكورسيزي. ولكن ليس ثمة في الأمر غشاً ولا من يحزنون. إذ من الواضح هنا ان هذا كله لا يشكل جزءاً من اهتمام مارتن سكورسيزي بحياة هوارد هيوز. وقد يجيب سائله عن هذا، بأن الفيلم ليس دوره ان يقدم ترجمة امينة وكاملة لحياة اي شخص كان. الفيلم ليس كتاب تاريخ، بل هو عمل فني، ينتمي الى مبدعه، ثم الى متفرجه، فيعيد كل منهما بدوره، قراءة التاريخ على النحو الذي يريد. ولعل ما يمكن ذكره في هذا الإطار هو ان «الطيار» لا يعدنا ابداً بتكملة له، تتحدث، مثلاً، عما هو اكثر درامية - وغموضاً - في سيرة هوارد هيوز: سنوات اعتكافه مرعوباً من الموت بعيداً من الناس، الى درجة خيل معها الى كثر ان الرجل مات قبل سنوات عدة من موته. «الطيار» كما صوره سكورسيزي هو فيلم مكتمل عن رجل ينتمي الى القرن العشرين، يحمل احلام ذلك القرن وبؤسه، جبروته وضعفه، انفتاحه على العالم وخوفه على جسده ذلك الخوف الذي هو بدوره سمة من سمات القرن العشرين الأساسية، والذي يشكل احد اهم محاور الفيلم وأقواها، إذ يصور لنا سكورسيزي بكل قوة خوف هيوز من الطعام، ومن مصافحة الناس، من اي شيء يعيد الى نفسه كلمات امه حين كانت تغسله - بعد هذا، يصبح كل ما تبقى من الفيلم تفصيلاً: الأفلام التي مولها وصورها. الطائرات التي اخترعها، النساء اللواتي ارتبط بهن (وعددهن في الفيلم قليل: 3 او 4 مع ان اسطورة حياة هيوز تتحدث عن عشرات النساء) وأهمهن كاترين هيبورن، ابنة العائلة الأرستقراطية اليسارية التي حاول افرادها اشعاره بضعة شأنه ثقافياً، ثم آفا غاردنر، التي رفضته دائماً كحبيب. غير ان ما لا يقدمه لنا سكورسيزي كتفصيل، إنما هو الصراع الكبير الذي عاشه هيوز مع الإدارة الأميركية، من حول الصفقات والطائرات، ومجابهته - في واحد من اروع مشاهد الفيلم - لتلك الإدارة ممثلة في عدد من اعضاء الكونغرس. هنا ايضاً قد يكون المسكوت عنه في فيلم سكورسيزي، اهم مما يصوره الرجل. وقد تبدو صورة هيوز الحقيقية، من خلاله اقل بهاء وإثارة للإعجاب، غير ان سكورسيزي، حدد اختياره واختياراته الفكرية هنا، وقال ما كان يريد قوله من خلال بطله. وبهذا ترك لنا، في نهاية الأمر، مهمة ان نفترض ان هوارد هيوز (الذي ادى دوره بروعة ليوناردو دي كابريو في الفيلم) لم يعد في نهاية الأمر، صورة لذاته التاريخية الحقيقية، بقدر ما صار صورة لمارتن سكورسيزي، ما يؤكد لنا مرة ثانية، بعد «عصابات نيويورك» ان سكورسيزي وجد في ليوناردو دي كابريو أنا - آخر له يعوضه عن أناه - الآخر القديم الذي كانه روبرت دي نيرو ذات يوم. وأخيراً اذا كان الكاتب الفرنسي آلان - روب غرييه قال مرة انه بعد كل شيء، لم يكتب إلا عن نفسه في كل رواياته، مهما كان بعدها الموضوعي، هلا يمكننا ان نقول ان المتفرج، الذي يتابع سينما مارتن سكورسيزي، منذ زمن طويل، ليس في إمكانه، حين يشاهد «الطيار» ان يلمح احداً آخر سوى مارتن سكورسيزي خلف ليوناردو دي كابريو، وخلف هوارد هيوز مجتمعين؟ الحياة اللبنانية في 28 يناير 2005 |
بعد كل شيء من كان هوارد هيوز الحقيقي؟ في بداية سنوات السبعين، حينما كانت هوليوود بدأت تتبدل بالفعل وتنتقل السيطرة منها، وإن جزئياً وفنياً على الأقل من المنتجين الى جيل جديد من المخرجين (هم الذين سيعرفون بأصحاب اللحى) لم يكن هوارد هيوز مات بعد، لكنه في منعزله الرهيب كان أضحى طي النسيان. أما الإتيان على ذكره بين الحين والآخر، ولا سيما لمناسبة تحقيق اورسون ويلز فيلماً يتضمن مقطعاً عنه (ف. فورفيك)، فلم يكن يتضمن كل ذلك القدر من الأساطير، التي راحت تسري منذ رحيله في العام 1976، وصارت سيرته ككرة الثلج، كلما تقدم الزمن بها، كلما تعاظمت حجماً. على هذا النحو راحت سيرته تتبدل وتزداد تضخماً بازدياد عدد الكتب المتحدثة عنه. ولكن، في الحقيقة، كان ثمة أساس حقيقي لكل هذا. فهوارد هيوز كان، حقاً، غريب الأطوار. وحكايات ذهانه ورهابه كانت الى حد كبير حقيقية، كما كان حقيقياً ولعه بالطيران والسينما، وبالمجازفة المالية والاختراعات. في المقابل، من الصعب اليوم اعتباره مخرجاً، حتى ولو حاول سكورسيزي في «الطيار» اقناعنا بهذا. ذلك ان ليس ثمة فيلم كامل يمكن القول ان هيوز كان مخرجه الحقيقي... فهو كان، في أحسن الاحوال، وحتى في «ملائكة الجحيم» و«الخارج على القانون» (وهما الفيلمان الاكثر ارتباطاً، اخراجياً باسمه) مجرد مشارك في الاخراج، وربما في كتابة السيناريو ايضاً. وكذلك حاله في اختراعات الطيران. ولربما كمنت عقدة حياته كلها، في ذلك الاخصاء التنظيفي الذي مارسته أمه عليه باكراً (في لعبة اتخذت شكلاً طقوسياً لدى سكورسيزي)، مما جعله غير قادر على ان يحرر عقله ويحرر جسده لكي يبدع. ومهما يكن من الامر، فإن ثمة - في سيرته - ما هو واقعي وحقيقي يمكن استشفافه من خلال السير الاسطورية المتراكمة. ومن هذا انه ولد حقاً في تكساس من أب ملياردير يعمل في استخراج النفط من آبار كان والده يملكها. وهو منذ الثامنة عشرة من عمره، ورث ثروة أسرته الطائلة... كما انفتح على حب الطيران، وأولع بمشاهدة الافلام السينمائية. وهكذا راح بالتدريج يخوض هوايتيه معاً، حتى وإن كان دخوله عالم الانتاج و«الاخراج» السينمائي قد تباطأ وكان عليه ان ينتظر بلوغه الحادية والعشرين من عمره (في العام 1926)... ففي تلك السن، واذ اولع، اولاً، بالشقراء جين هارلو، و«اكتشف» من خلال «اختراعه» لها كنجمة ان في امكانه اختراع اشياء اخرى، قرر ان ينفق جزءاً من ثروته على فن السينما، وان يصبح مخرجاً. ومن هنا ولد «فيلمه» الاول «ملائكة الجحيم» الذي كان فيلماً سينمائياً عن الطيران واعطى دوراً بارزاً لجين هارلو. ولقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، على رغم ان هيوز لم يكن مخرجه الحقيقي، وانه انفق عليه ثروة طائلة (4 ملايين دولار) تبخرت في شراء الطائرات (نحو 200 طائرة سقط بعضها) وفي التعويض على ممثلين / طيارين قتلوا خلال تصوير المشاهد. سينما نساء وطائرات بالنسبة الى هيوز، كانت النتيجة مبهرة، ورفعته في الوقت نفسه الى ممارسة هواياته الثلاث: السينما، حينما راح ينفق على افلام ويفرض في بطولاتها صديقاته المتتاليات، بمن فيهن كاترين هيبورن، (التي ستروي لاحقاً في مذكراتها كيف تعاملت معه دائماً كطفل صغير دائم الجوع والجهل وكيف اصيب بصدمة حينما اخبرته اخيراً انها ستتزوج سبنسر تراسي)، وآفا غاردنر التي ابداً لم تنظر اليه بجدية وجين راسل وغيرهن. والطيران حيث راح يخترع طائرات جديدة سيؤدي سقوط احداها الى اصابته بجراح، اما فشل الباقيات فسيؤدي الى مشكلات مع الدولة. وهو حين سيزداد تعلقه بالطيران «سيؤسس» شركة «ترانس وورلد» ليخوض معركة هائلة ضد احتكار «بان أميركان» للخطوط الدولية. وفي مجال الطيران ايضاً سينافس لندنبرغ في الدوران حول العالم في مباراة ناجحة ستجعله أحد أبطال الشعب الأميركي في الثلاثينات. اما هوايته الثالثة فكانت... انفاق المال، والهرب في ذلك دائماً الى الامام، حيث كلما سبب لنفسه خسارة في مشروع، قفز الى مشروع أبهظ كلفة وأكثر خسارة. ولقد عاش هيوز هذا كله وسط عقده النفسية وولعه المرضي بالنظافة وخوفه من الآخرين ان يلوثوا يديه، كما عاش وسط احلام وقراءات لا تنتهي. وهذا العيش هو الذي حول ذلك كله الى اسطورة من أغرب اساطير القرن العشرين، علماً بأن هيوز أمضى آخر عقدين من حياته بين فشل مشروع «هرقل» افلاس شركته السينمائية، من جهة، وموته في العام 1976 من جهة ثانية في الطائرة التي كانت تقله من معتكفه البائس، الى المستشفى في هيوستن حيث كان يفترض ان يعالج بعدما تفاقمت حاله وبعد ان ظل حتى ساعاته الأخيرة معتكفاً لا يغتسل ويكاد لا يأكل. لا يرى احداً، ولا يريد لأحد ان يراه، من دون ان يعرف احد كيف ولماذا كان يعيش حقاً... الحياة اللبنانية في 28 يناير 2005 |
المنتج... ذلك النجم الغامض المجهول ابراهيم العريس يذكر هواة أفلام الأخوين كون، من دون ريب، ذلك المشهد الغريب في فيلمهما العائد الى أوائل سنوات التسعين من القرن الفائت «بارتون فنك» حينما ينحني، بالقرب من حوض دارته الفخمة، رجل طيب السريرة ماكر النظرات ضخم الجثة، على قدمي كاتب السيناريو، بطل الفيلم، مقبلاً اياهما راجياً منه ان يواصل العمل لحسابه. هذا الرجل الضخم، في الفيلم، مهنته منتج... ومنتج افلام هوليوودية بالتحديد. والمشهد كله هزلي، يغالي على طريقته في رسم صورة للمنتج وقوته كما كانا في اربعينات ذلك القرن وخمسيناته. في فيلم «آخر العمالقة» الذي كان واحداً من آخر أفلام ايليا كازان أواسط سبعينات القرن نفسه، والمأخوذ عن رواية لسكوت فيتز جيرالد، هناك ايضاً منتج، هو الشخصية الرئيسة في الفيلم (يقوم بالدور روبرت دي نيرو)، غير ان المنتج هنا أقل هزلية بكثير وأكثر رومنطيقية... كما انه مقتبس عن شخصية منتج حقيقي عرفته هوليوود في عزها، هو تالبرغ - تحت اسم آخر - هو رجل كلي السيطرة في الفيلم، يلعب لعبته من دون هوادة، يتحكم في مصائر البشر، لكن الحب يتحكم به: فهو انسان من لحم ودم. مشكلته الاساس انه لا يعرف ماذا يريد حقاً... وبالتالي نعجز نحن، معشر المتفرجين عن معرفة ماذا يريد. لكننا، في الاحوال كافة، نتعاطف معه لأنه، بالتحديد، ينسف لنا الصورة المعهودة للمنتج: انه شيء آخر تماماً عبر المنتج الذي سيصوره فيم فندز في فيلمه «حال الامور» على صورة محتال يورط فريق الفيلم في التصوير ثم يعود الى هوليوود ليطارده المخرج محاولاً قتله. في المقابل، ثمة ايضاً منتج، هو ايضاً شخصية اساسية في فيلم هوليوودي، لكنه يحمل توقيع واحد من اكبر المنشقين على السائد في هوليوود: روبرت آلتمان... والفيلم عنوانه «اللاعب...» واللاعب هنا هو المنتج (يقوم بالدور، ببراعة استثنائية تيم روبنز)... وهو في الوقت نفسه مجرم، بالمواربة ومباشرة... اذ انه يقوم - وعلى طريقة روبرت ألتمان الزمزية - بسلسلة جرائم تشكل بالنسبة اليه لعبة وثأراً في آن معاً. كل هذه الشخصيات، في هذه الافلام المميزة، انما هي تنويعات على شخصية واحدة: شخصية المنتج، التي كان اورسون ويلز من اعظم الذين رسموها - ومواربة ايضاً - في فيلمه «المواطن كين». صحيح ان هذا «المواطن» ليس هنا منتجاً سينمائياً مباشراً، لكن هذا لم يخدع احداً. اذ من خلال كين، الذي هو صورة لهيرست، ملك الصحافة الاميركية الذي لم يكف عن فرض عشيقته ماريون دايفيز، على افلام مولها او ساعدها، قدم ويلز صورة جانبية لذلك اللاعب الماهر، والذي هو جلاد وضحية في الوقت نفسه. وويلز سيعود الى المنتج مرة اخرى في واحد من آخر افلامه «ف. فورفاك» (اي حرف فاء كبداية لكلمة تزوير)... وذلك حينما ينحو في مقطع من الفيلم الى التساؤل، من خلال كاتب سيرة المنتج (الطيار) هوارد هيوز، كليفورد ايرفنغ، عما اذا لم تكن حياة هيوز كلها ملفقة تلفيقاً. من هذا كله قد يمكننا ان تستخلص كيف ان عدداً من كبار مبدعي السينما، قديماً وحديثاً، افتتنوا بطريقة أو بأخرى بشخصية المنتج. ولكن ليس منتج ايامنا هذه بالتحديد. بل المنتج بالمعنى القديم للكلمة. المنتج كنجم غامض لم يعد جائزاً ان يبقى مجهولاً وهو المتحكم اصلاً بمعاني الفن السابع. والمنتج الذي كان في زمنه - اي في الزمن الهوليوودي الذهبي - مسؤولاً عن الفيلم وصاحب الشأن الاول والاخير فيه. طبعاً في ذلك الحين لم يكن المنتج مخرجاً للفيلم، لكنه في معظم الاحيان كان أهم من المخرج. فسينما المؤلف لم تكن عرفت بعد. ولأن السينما في معظم حالاتها كانت صناعة وتجارة... اي اموال تصرف وأموال تعود، كان من الواضح ان القادر على تدبير الاموال، والمجازف مرتجفاً قبل ان تعود تلك الاموال الى الصناديق، هو السيد الآمر المطاع المتحكم في السينما وأهلها. ولأن الحال كذلك، آثر المنتجون، في ما يشبه الميثاق غير الموقّع في ما بينهم ان يبقوا جزءاً من «تابو» غامض. وكان لهم ذلك حتى الثورة الهوليوودية الأولى، حينما صار المخرجون اصحاب «اسماء توضع فوق العنوان» - بحسب تعبير المخرج فرانك كابرا - وصار موضوع المنتج وحياته موضوعاً يخاض، لا محظورات من حوله. ومن الامور ذات الدلالة ان يكون هذا التبدل تواكب مع انحسار الطابع المؤدي لعملية الانتاج لحساب شركات كبرى ذات اسهم في البورصة اصبحت بسرعة جزءاً من عولمة طحن الافراد - بمن فيهم المنتجون - على مذبحها. ومع هذا كله، على رغم ذلك الانفلات، وعلى عكس ما كان يمكن ان نتوقع، لم تكن الافلام التي برزت لتخوض في حياة المنتجين، كثيرة. ذلك انه كل مرة يفتح فيها مخرج كبير (من طينة ويلز أو كازان أو فندرز أو آلتمان، وصولاً اليوم الى مارتن سكورسيزي في فيلمه الجديد) باباً لولوج عالم الحلم والقوة، الألم وزهو الحياة، الجبروت والمجازفة، الذي هو عالم المنتجين، كان الباب سرعان ما يغلق. والغريب في الأمر ان كل تلك الافلام ومهما كان كنه الصورة التي ترسمها للمنتج، كانت أفلاماً ساحرة فاتنة تلقى اقبالاً من الجمهور... خصوصاً وانها - اكثر من اي نوع آخر من الافلام التي تتحدث في مواضيعها عن فن السينما - كانت، ولا تزال، تكشف من خلال حياة اولئك المغامرين الذهبيين، خلفيات الحياة الغامضة المبهرة التي كانت تموج في ظل الصورة الزاهية للسينما كما كانت تصل الى الجمهور العريض... حتى ولو كانت هذه الخلفيات تقدم بكثير من الخفر والحياء. بل إن في إمكاننا، هنا، ان نقول، ان الافلام التي جعلت من المنتجين وحياتهم موضوعاً لها، كانت ولا تزال تبدو، وعلى رغم كل شيء، وبعد كل شيء، أشبه بتحية لهم. وأشبه بتحية لذلك الاندفاع الذي عاشوه وهم يخلقون فن القرن العشرين غائصين فيه حتى درجة الجنون والوله، متأرجحين بين شرائط السيليلويد، والفسق والنساء والفن وحب الناس ومتابعة اذواق هؤلاء ثم العمل على تبديلها وقولبتها مدخلين مئات الملايين من البشر، رواق العصور الحديثة، مكتفين بعد ذلك بأن يبقوا في الظل محققين مكاسبهم، ممارسين سلطاتهم المطلقة في ذلك الظل... إلا حينما يقوم واحد منهم (زانوك... مثلاً) بالاشراف الكلي على فيلم سرعان ما يصبح «أكبر فيلم في تاريخ السينما»، ونعني به طبعاً «ذهب مع الريح» الذي سيظل مرتبطاً باسم منتجه في وقت بالكاد يذكر فيه احد اسم مخرجه: فيكتور فليمنغ. ويقيناً هنا، ان هذا «السحر الخفي» للمنتج ولحياته ولمهنته، كان واحداً من الاسباب التي جعلت بعض اكبر اقطاب الثورة الهوليوودية الثانية (من أمثال كوبولا وسبيلبرغ ولوكاس) يجمعون، حينما كبرت اسماءهم، بين الاخراج والانتاج، ولكن طبعاً بطرق أقل سراً من تلك التي أُثرت عن تالبرغ وزانوك، عن هوارد هيوز او هيرست، على ان يظلوا أقل ارتباطاً بالمفاسد والمغامرات النسائية من هؤلاء. فالواقع ان ما عاشه هؤلاء، وقالت لنا بعض الافلام جزءاً يسيراً منه، كان مرتبطاً بزمن فاتن ساحر، شكل أساطيره بنفسه معلناً منها ما يريد اعلانه (نجوم السينما ونجماتها كأساطير حية) مخفياً منها ما لا يود اظهاره (المنتجون). واليوم، اذ يعود مارتن سكورسيزي، في «الطيار» الى هذا الموضوع، أو ليس في امكاننا ان نتوقع من السينما كلها ان تعود الى أولئك النجوم الغامضين المجهولين لتخوض في حياتهم، التي هي - كما يخيل الينا - الحياة الحقيقية للسينما، لا صورتها الخارجية المبهرة... وأوليس في امكاننا ايضاً ان نعتبر هذا كله تحية الى أولئك «اللصوص الذهبيين» - كما سماهم فنشنتي مينيللي ذات مرة - الذين لولاهم لما كان فن السينما على ما هو عليه. وليس في هوليوود وحدها، اذ حيثما قلبنا انظارنا في عالم السينما سنجدهم دائماً هناك بنظراتهم النبيهة ورغباتهم الغامضة وتوقعاتهم المهلكة (ونقول هذا ونتذكر في سينمانا العربية، طبعاً، رمسيس نجيب الذي كان اسمه وحده، كمنتج لفيلم ما، كافياً لاعطاء ذلك الفيلم صك جودته، في الخمسينات والستينات، كما نتذكر من هو احدث منه: حسين القلا، الفلسطيني المقيم في مصر، والذي يعود اليه الفضل في نهضة عاشتها السينما المصرية في ثمانينات القرن العشرين (على يد المخرجين محمد خان وعلي بدرخان وخيري بشارة وغيرهم)... وسنجدهم ايضاً وسط غموض فاتن آن له ان ينكشف. او على الأقل آن له ان ينتقل اكثر واكثر الى الشاشات الكبيرة التي لطالما اغدقوا عليها من اعصابهم ودمهم ومالهم وحياتهم. الحياة اللبنانية في 28 يناير 2005 |