بعد تعيينه رئيسا للدورة المقبلة لمهرجان كان:
باريس ـ عبد الاله الصالحي |
|
الدورة الثامنة والخمسون من مهرجان كان السينمائي الدولي التي ستنعقد من 11 الي 22 ايار (مايو) المقبل ستعود رئاسة لجنتها التحكيمية هذا العام للمخرج الصربي أمير كوستوريكا كما قرر ذلك المنظمون. كوستوريكا يحب كان و كان مغرمة فيه وهذه رابع التفاتة من المهرجان اتجاه كوستوريكا بعد حصده لسعفتين ذهبيتين. الأولي عن فيلمه أبي في رحلة عمل عام 1985 وعمره لم يتجاوز آنذاك الثلاثين عاما و آندرغروند عام 1995. ثم كرمته لجنة التحكيم عام 1989 بمنحه جائزة الاخراج عن فيلمه زمن الغجر . وعدا ذلك فهناك فيض من المبررات يكفي قليله لتعميد امير أميرا علي أشهر مهرجان سينمائي في العالم: ثمانية أفلام وموهبة متجددة لا غبار عليها. سمعة فضائحية عاصفة والتزام سياسي مثير للجدل بالاضافة الي نزوع غريزي الي التجارب السينمائية الشابة. ونستطيع أن نضيف الي كل هذا أن كوستوريكا ظاهرة سينمائية وحياتية فالرجل البالغ من العمر خمسين عاما يعيش حياة بوهيمية يطبعها القلق الفني والشغب الوجودي والترحال الدائم بين بلغراد وباريس والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن كوستوريكا يُدَرِس تاريخ السينما في كولومبيا احدي أعرق الجامعات الأمريكية. غير أن السينما ليست نشاطه الفني الوحيد فهو يغني ويعزف، بموهبة حسب البعض، ضمن فرقة موسيقية محترفة اسمها No Smoking Orchestra تمزج موسيقي الروك آند رول بالغناء الشعبي البلقاني وتتمتع بشعبية كبيرة. وفور الاعلان الرسمي عن تعيينه رئيسا للدورة المقبلة من المهرجان وَعَدَ كوستوريكا بأن يعمل ما في جهده كي يحتل البعدان الجمالي والفني الصدارة في الدورة المقبلة واعتبر ذلك مهمته الأساسية كرئيس للجنة التحكيم. والمتابع لدورات مهرجان كان لا يحتاج كثيرا من الحصافة لفهم مغزي هذا التصريح الذي يلمح لنتائج دورة العام الماضية التي ترأس لجنتها التحكيمية المخرج الأمريكي كونتين تارونتينو والتي تمخضت عن منح السعفة الذهبية للمخرج الأمريكي الملتزم مايكل مور عن فيلمه الوثائقي فهرنهايت 11/9 وهو اختيار سياسي بالأساس لا يستند علي مبرر فني أو جمالي بالرغم من نبل الموقف السياسي المناهض للهيمنة الأمريكية وغطرستها التوسعية. ورغم أن كوستوريكا كان دائما في معترك الجدل السياسي فمن الواضح أن اختياره رئيسا لدورة هذا العام، هو المغرم بالرؤي السينمائية الفريدة ينبئ عن احتمال عودة قوية للاعتبارات السينمائية والجمالية في منح جوائز الدورة المقبلة. وما يزيد من قوة هذا الاحتمال تعيين المخرج الايراني عباس كياروستامي، صاحب سعفة المهرجان الذهبية عام 1997، رئيسا للجنة الكاميرا الذهبية التي تخصص جوائزها لتشجيع الأفلام الأولي. رحلة الأمير المثير للجدل من أزقة سراييفو الي أضواء مهرجان كان ولد كوستوريكا بمدينة سراييفو في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954. درس فن السينما في أكاديمية السينما في مدينة براغ حيث دشن مشواره السينمائي بفيلمين قصيرين لفتا الانتباه مبكرا الي موهبته وأسلوبه السينمائي الخاص. عند عودته الي سراييفو منتصف السبعينيات من القرن الماضي اشتغل في اخراج وأداء أدوار في الأفلام التلفزيونية. ولم يلبث أن فجر ضجة كبيرة في الأوساط الاعلامية عندما أخرج عام 1979 أول أفلامه الطويلة وصول العريسين تناول فيه موضوع زنا المحارم ما أدي الي منعه من صالات العرض. لكن الفيلم الذي سيكرسه لأول مرة في يوغوسلافيا السابقة ويقدمه للساحة السينمائية العالمية كان هو هل تتذكر دولي بيل؟ عام 1980 ويحكي قصة عائلة صربية في سراييفو الستينيات بأسلوب يمزج فيه الكوميديا السوداء والسخرية السياسية. وقد انتزع عبر هذا الفيلم جائزة النقاد في مهرجان سان باولو الدولي ثم جائزة الأسد الذهبي العمل في مهرجان البندقية السينمائي. هكذا بسرعة انتقل كوستوريكا من مخرج شاب مغمور الي مصاف المخرجين العالميين وصار اسمه مقترنا بسينما شابة عالمية واعدة اكتسحت المهرجانات العالمية مع بدء الثمانينات واستقبلت مجمل أفلامه اللاحقة بحفاوة الجمهور والنقاد علي السواء في مختلف أرجاء العالم. وعام 1985 سيرسخ كوستوريكا اسمه بصفة نهائية كأحد أهم سينمائيي نهاية القرن الماضي عندما فاز فيلمه أبي في رحلة عمل بالسعفة الذهبية في مهرجان كان باجماع لجنة التحكيم التي كافأته علي حسه التهكمي اللاذع ودفقه العاطفي عبر فيلم انسيابي يحكي من وجهة نظر طفل التحولات المجتمعية في يوغسلافيا الماريشال الراحل تيتو والمصير المنكسر لأب مغضوب عليه من طرف النظام الاشتراكي يقضي بقية حياته في احدي معسكرات اعادة التربية وأم تسعي جاهدة لتربية أبناء عاقين. عام 1988 سيقوم كوستوريكا باخراج فيلمه زمن الغجر وهي تحفة سينمائية رائعة وضربة معلم فنان علي شكل قصيدة سينمائية غنائية فيها خليط مبدع يجمع بين الصور السوريالية والعوالم الغرائبية والموسيقي الغجرية والمواقف المبكية والمضحكة. وقد اعتبره النقاد آنذاك النموذج الأعلي لما يمكن أن يقدمه كوستوريكا للسينما. ومرة أخري لم يملك النقاد الا أن يكافئوه علي أسلوبه الرائع ومنحوه جائزة الاخراج في مهرجان كان . وفي الوقت الذي كان فيه البعض يتساءل عما يمكن لكوستوريكا اضافته بعد رائعة زمن الغجر فاجأ المشاغب البوسني عشاق الفن السابع عام 1993 بفيلم آخر لا يقل روعة وشعرية حلم أريزونا شاركت في أدائه نخبة من النجوم الأمريكيين الموهوبين مثل فاي دانواي وجوني ديب وليلي تايلور وفانسون غالو اضافة الي كوستاريكا نفسه. ورغم أن هذا الفيلم لم يحقق النجاح المعقود عليه في الولايات المتحدة الامريكية فقد تمكن من انتزاع جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي الدولي. عام 1995 سيكون عام كوستوريكا ليس فقط لأسباب سينمائية بل لأسباب سياسية. فقد حضر الي مهرجان كان بفيلم طموح آندرغراوند أو تحت الأرض حاول فيه أن يتناول فيه بأسلوب تطبعه الكوميديا السوداء والنفس السوريالي العبثي خمسين عاما من تاريخ يوغسلافيا الحديث والحرب الأهلية التي مزقتها وحولتها الي كيانات طائفية. وفجر الفيلم ضجة كبيرة في أوساط المثقفين الفرنسيين الذين لم يستسيغوا رؤيته الخاصة لما يجري في يوغسلافيا السابقة. بل أن بعضهم وعلي رأسهم آلان فينكيلكروت وهو مثقف فرنسي معروف بتعصبه للفكر الصهيوني هاجم الفيلم بعنف علي صفحات الجرائد حتي قبل أن يشاهده واتهم امير بانحياز أعمي لطروحات ضرب البوسنة ودعمه لعمليات الابادة التي طالت مسلمي البوسنة. لكن الذي هاجموه استندوا في اتهامهم علي تأويل مجحف لحنين كوستوريكا علي زمن الوحدة اليوغسلافية لأن الفيلم هو بالأساس مرثية كئيبة ليوغسلافيا ما قبل الحرب التي رغم أجوائها الستالينية والقمعية تبدو للمخرج أكثر عدلا وجمالا من الكيانات العرقية المتناثرة التي تكون الآن منطقة البلقان. لكن المثير للأسف هو أن كوستوريكا صار مهووسا بقصة بلاده وأن هذا الهوس يشوش علي عبقريته السينمائية ويحجب فرادتها الابداعية. ورغم أن لجنة تحكيم المهرجان منحت الفيلم السعفة الذهبية فتلك الضجة وتداعياتها آلمت كثيرا كوستوريكا حد أنه أعلن وقتها عزمه علي هجر العمل السينمائي. وذلك ما فعله مؤقتا قبل أن يعود عام 1999 بفيلم كوميدي ساخر قط أسود قط أبيض . والعام الماضي برهن كوستوريكا مرة أخري علي فرادته بفيلم الحياة معجزة وهو فيلم طويل من ساعتين ونصف يحكي قصة لوكا وهو مهندس متخصص في صناعة السكك الحديدية يعيش مع زوجته وابنه المهووس بكرة القدم في احدي القري الصربية بالبوسنة. وعندما تندلع الحرب تهجره زوجته ويتعرض ابنه للأسر من طرف القوات البوسنية. ويأتي أحد الضباط الصرب ليقدم للوكا فتاة بوسنية مسلمة تم أسرها ويعرض عليه الاحتفاظ بها كرهينة لمقايضة ابنه. هذا عن القصة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال هذا الفيلم المتشظي الذي تتخلله مشاهد مذهلة يتساءل المشاهد عن الكيفية التي تم اخراجها: حمارة عاشقة تفكر في الانتحار! أو مباراة سوريالية في كرة القدم تبدأ في غبش الضباب وتنتهي بمعركة دامية! أو ضابط كبير في موقع حربي متقدم ينشغل في محادثة اباحية عبر هاتف عسكري يشتغل عبر الأقمار الاصطناعية... كوستوريكا رئيسا للجنة التحكيم اذن في هذه الدورة من مهرجان كان وهذا في حد ذاته حدث سينمائي يعد بالكثير وهذا ما نستشفه من التحية التي وجهها كوستوريكا الي المهرجان بقوله أغتنم هذه المناسبة لأحيي المهرجان وطريقته في احتضان سينما العالم أجمع بألوانها واتجاهاتها المختلفة. انني أقتسم مع هذا المهرجان خطه السياسي الصارم والوحيد أي خط الاحتفال بالسينما وبالخيال . القدس العربي في 28 يناير 2005 |