علا الشافعي |
مصر العالمية تقهر يسري نصرالله يسري نصر الله مخرج يستحق الاحتفاء به, خاصة أنه لن يأخذ حقه في دور العرض, ويتعرض لظلم شديد. المفارقة الدرامية التي نتحدث عنها هو أن شركة بحجم أفلام مصر العالمية ــ ويقع علي رأسها مخرج بقيمة يوسف شاهين, طالما قدم إنتاجات شديدة الخصوصية ــ تركن الفيلم وترفض عرضه منذ شهر يوليو الماضي, وتحت ضغوط صفقة تتم بين أمبير بلزان, المشارك الرئيسي الفرنسي, ليوسف شاهين في معظم أفلامه, والمدين لأفلام مصر العالمية, بمستحقات عن فيلم إسكندرية- نيويورك- بوصفه الشريك الفرنسي- فقد أعطاهم حق توزيع باب الشمس في مصر مقابل تخليص حقهم, وقبلت الشركة هذا العرض, لكنها تعاملت مع المسألة بمنطقها الخاص الذي لا نفهمه, فالدعاية قليلة جدا, أختارت توقيت عرض قبل نزول أفلام العيد بأسبوع واحد, ليس ذلك فقط, بل أكتفت بطبع ثلاث نسخ, واحدة ستعرض في جالاكسي, والأخري كوزوموس, تخيلوا سينما من سينمات وسط البلد في العيد, بالتأكيد لن يقبل مشاهدو وسط البلد علي هذه النوعية في العيد. وأخري ستعرض بمجمع ستي ستارز, والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك تعمد في تحجيم الفيلم؟ خاصة أن نفس الشركة هي التي أقامت أسبوعا للأفلام الأوروبية, ودعمتها بحملة إعلامية ضخمة وساندتها الصحافة, ونجح الأسبوع وقضي نجاحه علي حجج الموزعين في أن الجمهور يرفض الأفلام المختلفة, والتساؤل الملح لماذا لا يتم التعامل مع باب الشمس بنفس المنطق؟ وهذا يستدعي من الذاكرة ما حدث مع المخرج الراحل رضوان الكاشف في فيلمه عرق البلح الذي حصد أ كثر من20 جائزة عالمية, إلا أن الشركة وقفت منه نفس الموقف. ونفس الحال مع فيلم المدينة ليسري نصرالله, والأبواب المغلقة لعاطف حتاتة. الأهرام العربي 8 يناير 2005
|
يسري نصر الله حالة خاصة في تاريخ السينما العربية, لأنه من المخرجين القلائل الذين يرفضون الاستسلام لشروط السوق, لذلك فهو لا يقدم سوي السينما التي ترضيه فنيا وتعبر عن البشر, وطبيعي أن تتحول إبداعاته إلي علامات فارقة في تاريخ السينما العربية, لذلك علينا أن نحتفي به ونفخر بأن لدينا مخرجا بحجم موهبته, وطبيعي أن تختار مجلة الـ تايم فيلمه باب الشمس بجزئيه الرحيل والعودة من أفضل10 أفلام علي مستوي العالم وترتيبه الثامن في2004, وباب الشمس سيعرض الجزء الأول منه في دور العرض المصرية والعربية في الأسبوعين القادمين, ويتوقع له أن يثير الكثير من الجدل السياسي والسينمائي. بشر... نصر الله الذين لا يعرفون يسري نصر الله قد لا يصدقون أن هذا الشخص شديد الخجل والدماثة, هو نفسه المتمرد الذي تفور منه براكين الثورة والغضب تجاه الواقع العربي, والاجتماعي والسياسي, لا تعنيه المؤسسات كثيرا بقدر ما يهتم بأوجاع الفرد, يرفض النظم العقيمة, عندما وجد أن المعهد العالي للسينما يدرس هذا الفن بأسلوب متخلف, علي حد تعبيره وقف في المعهد وقال هذا صراحة, بل قام بتقديم طلب ليتم رفته, دراسته للعلوم السياسية وخوضه غمار السياسة شكلته ثقافيا وانتماؤه لأسرة برجوازية لم يمنعه من أن يصبح يساريا له دور في الحركة الطلابية, وعندما شعر بعجز المجتمع من حوله, وانهيار الكثير من أحلامه لم يتردد في السفر إلي لبنان في أوج الحرب الأهلية, وهو شاب مصري في مقتبل العمر, يرغب في أن يعيد صياغة المزيج من الخيبات والأحلام, وهناك بدأت علاقاته بالسينما, حيث عمل مساعدا للمخرج الألماني العظيم صاحب فيلم الطبلة شلوندورف, وبعده للسوري عمر أميرالاي, وبعد ذلك عاد إلي القاهرة ليبدأ مغامراته السينمائية بالعمل مع شاهين, لكن إخلاصه وذكاءه وموهبته وثقافته الواسعة, حيث يجيد أكثر من لغة الفرنسية, الإنجليزية, الألمانية, أهلته ليكون حالة متفردة في تاريخ السينما المصرية. يسري يملك عينا شديدة الحساسية, طوال الوقت هو في حالة مراقبة, يفرز وجوه البشر, يقيس التحولات التي تحدث لهم, فالبطل عنده هو الوجود الإنساني الشخصيات, بملامحها وتعرجاتها الإنسانية, لذلك عندما قرر أن يقدم فيلما عن القضية الفلسطينية, اختار أن يحمل الفرد والجسد تحديدا كل المعاني, لكن بشاعرية شديدة ورقة قد تدهش المشاهد, بعيدا عن الصورة النمطية من صراخ وعويل وآلات الحرب العتيدة التي تقهر وتدوس الأجساد, فالحب حاضر بقوة ومن خلال العشق الذي يصل إلي درجة الوجد بين الأبطال, يروي نصر الله مأساة الوجود الفلسطيني من خلال جدلية العلاقة بين الفرد والتاريخ, وهذا هو أسلوبه منذ فيلمه الأول سرقات صيفية ثم مرسيدس, وصبيان وبنات والمدينة فالموضوعات الكبري من وجهة نظره لا تلغي الفرد فهو دوما الأساس, ولا نستغرب إذا قلنا إن يسري بذكائه الشديد حول كل المظاهر الطبيعية الماء والهواء إلي أشياء ملموسة تستطيع أن تتحسسها وتشعر بها, تنفذ إلي أعماقك, فهناك حسية شديدة, تحيل ما هو غير مرئي إلي مرئي, ومثلا في المشهد الافتتاحي لباب الشمس- اسم مغارة- يقول أحد المحاربين إذا كانت فلسطين برتقالة دعونا نأكلها, قبل أن تأكلنا, بينما تظهر خلال الأسماء والعناوين كومة من البرتقال المقشر في لقطة شديدة الدلالة والتعبير, ونقصد من ذلك أن نصر الله تعامل في عمله الفني مع شخصيات بشرية لها أحلامها ونزواتها وأخطاؤها بعيدا عن الصراخ السياسي غير المبرر, فهو لم يتعامل مع فلسطين بمفهوم الضحية, بل البقاء والصراع من أجل الحياة, وهذا أعمق وأسمي. باب الشمس احتفي مهرجان كان الدولي في دورته السابعة والخمسين العام الماضي بفيلم نصرالله الذي عرض في قسم نظرة ما, وكذلك معهد العالم العربي في باريس, الفيلم مأخوذ عن رواية للبناني إلياس خوري, بنفس الاسم, وكتب له السيناريو والحوار كل من يسري نصر الله وإلياس خوري, والمخرج والناقد اللبناني محمد سويد, حينما قرأ نصر الله الرواية لم يتخيل أن هذا النص قد يتحول إلي عمل سينمائي نظرا لكثرة شخصياته, ولحجم الفترة الزمنية التي يتناولها, إلا أن هناك شيئا في داخله, كان يحرضه, لذلك أعاد قراءة النص أكثر من مرة, إلي أن وجد المفاتيح التي فكت له شفرة هذا العمل الأدبي, وكان الحب والإنسان هما الحل ليتحول النص إلي عمل سينمائي ملحمي, ونظرا للمساحة الزمنية التي تناولتها الرواية وصلت مدة الفيلم إلي4.39 ساعة, وقد عاد بنا المخرج ومؤلف النص إلي أوائل الأربعينات من القرن الماضي, وبالتحديد عام1943 ثم توقف عند حرب الـ48, مرورا بالوحدة المصرية- السورية عام1958 والحرب الأهلية اللبنانية, ومجازر صبرا وشاتيلا, وانتهاء بنزوح الفلسطينيين من بيروت عام1982, مع ضرورة لفت الانتباه إلي أن أحداث الفيلم تبدأ في شتاء1994, حيث يتزامن مع توقيع اتفاقية أوسلو, ومن خلال تقنية الفلاش باك, يستعيد الأحداث الدامية عبر نصف قرن, توزعت أماكن التصوير ما بين سوريا ولبنان في قلعة الحصن, ونهر طاحون ومعلولا السورية, ودوما وتل الزعتر وعين الحلوة, ومخيم ميه- ميه والجميزة, اشترك في هذا الفيلم أكثر من ثلاثين ممثلا معروفا من ست بلدان عربية: لبنان, سوريا, مصر, الأردن, تونس, فلسطين, ومنهم ريم تركي- تونسية- أروي نيرابية, هيام عباس, باسل خياط, هالة عمران, نادرة عمران, ماهر عصام وعصام محتسب, وباسم سمرة, وحنان الحاج علي, ودارينا الجندي, والفرنسية بياتريس دانيال. نضال الحب لفتنا النظر إلي أن نصر الله دوما ستجده معنيا أكثر بالذاكرة الفردية للفلسطينيين, أكثر من عنايته بالقضية, لذلك فالمصائر الفردية هي البطل, التحولات, النجاحات, الإخفاقات, الانكسارات, يختصر باب الشمس تاريخ الشعب الفلسطيني, ويجسد جانبا منه من منطلق أن الجزء يؤدي إلي الكل, وذلك من خلال قصتي حب معقدتين في آن واحد وفي أزمنة مختلفة, من قصة حب يونس, أروي نيرابيه المناضل, القديم في المقاومة الفلسطينية, والوالد الروحي للدكتور خليل باسل خياط, يونس, الذي يتزوج من سهيلة, ريم تركي, وقصة حب خليل, من شمس هالة عمران, وذلك من خلال الترابط القوي بين بطلينا, حيث يمارس خليل مهنته كطبيب ويقوم بدور الراوي الذي يبذل قصاري جهده لكي يحث يونس علي الاستفادة من غيبوبته, ويستعيد وعيه ويسترد ذاكرته المفقودة, وهو راقد علي السرير يتأرجح ما بين الحياة والموت, ومن خلال الفلاش باك يذكرنا الراوي بفترة شباب يونس وحبه لنهيلة, وهربه من الجليل إلي لبنان وتتداخل هذه القصة مع سيرة خليل الذاتية, وحبه الملتاع لشمس, وبالتأكيد تتفجر قصص وحكايات أخري تتناول المصائر الفردية للفلسطينيين الذين عانوا نكبة1948 والمجازر المأساوية التي تعرضوا لها في أكثر من بلد عربي. وينطوي فيلم باب الشمس علي مزايا إخراجية وفنية عالية أثبتها نصر الله في أفلامه الروائية والتسجيلية علي السواء, ويروي يسري نصر الله في باب الشمس الحكاية وأحداثه وامتداده وينجح في تفادي مآزق كثيرة كان يمكن أن يوقعه فيها الفيلم الحاشد بشخصياته وأحداثه وامتداده بعمر الوجع الفلسطيني. ويقدم باب الشمس البعد الفردي والعائلي في المعاناة الأساسية للفلسطينيين عبر قصة تراوح بين الواقع والحكاية. تأتي الحكاية علي لسان خليل, باسل خياط, الذي يعمل طبيبا في مستشفي مخيم شاتيلا الفلسطيني في بيروت, والذي يعالج يونس الواقع في غيبوبة طويلة. القسم الأول من الفيلم يروي حكاية يونس الفدائي الذي ولد وكأن البارودة في يده, كان يحارب الإنجليز وهو في السادسة عشرة, وفي هذه السن تزوج من نهيلة التي كانت في الثانية عشرة في قريتهم بالجليل, ويصور الفيلم لحظا ت الفرح لعائلات تأكل من رزق أرضها التي تعيلها وكيف تحول العرس إلي مأتم إثر هجوم اليهود علي القرية, مما أدي إلي خراب العرس وأقفل موسم الفرح الأول إلي الأبد. وتأتي مشاهد القسم الأول من الفيلم جميلة غائمة ومغبرة وتمثل زمن هجرة الفلسطينيين في الجليل في جو حكائي وثائقي. وكان الكاتب إلياس خوري استمع قبل كتابته للرواية لقصص الفلسطينيين في الجليل ممن عايشو ا تلك الحقبة. وتخرج الحكاية السيرة من عاديتها فتحيلها إلي زمن البدايات القاسية, لكن السعيدة لكأن تلك الأرض كانت الجنة تقام فيها الأفراح وتعمر بالليمون والزيتون وأشجار أخري زاهرة. في المستشفي يحكي خليل حكايات يونس البطل, يونس الذي اتخذه خليل أبا روحيا له بغياب أهله في فلسطين ثم يحكي ليونس في القسم الثاني من الفيلم حكايته هو لتتقاطع الحكايتان في قالب يؤطر شكل الفيلم. يقول الطبيب خليل ليونس في أحد المشاهد: أنت لم تحب نهيلة إلا حين افترقت عنها, لقد قلت لي بنفسك إنك لم تدرك معني كلمة وطن تماما مثل معني كلمة حب, إلا عندما سقط الجليل. وينتقد الجيلان اتفاقات السلام وتحديدا اتفاق أوسلو الذي قضي علي وجود أولئك الذين صمدوا في أرضهم التي باتت تسمي إسرائيل والمنفيين الذين أهملتهم اتفاقات السلام بتناسيها حق العودة. غير أن القضية العامة عند يونس تتحول إلي قضية شخصية, قضية الرجل الذي يحاول تحرير بلده ويذهب رغم كل الصعاب لرؤية زوجته متحديا الحدود والعدو. في القسم الثاني من الفيلم تبرز شخصية خليل كنوع من بطل نقيض من جيل جديد, جيل الخيبة والقطيعة مع الآباء, خليل الذي يتحول إلي راو للحكاية بمجملها في ماضيها وحاضرها يروي عن نفسه وعن يونس يقارن نفسه بيونس القابع في المستشفي. إنها سيرة الشخص الفرد في حياته التي تطغي علي التاريخ. مقاربة يسري نصر الله تتراوح بين المعالجة الحميمة وبين المعالجة التاريخية لقصة عائلة تتشابك بقصة بلد هو فلسطين. غير أن الحكاية حين تتوقف تنتهي الحياة حين يغيب خليل ليلة عن يونس, وهو في غيبوبته تغيب عنه الحياة ولا يعود. أما خليل فيدفعه حضور الفرنسية بياتريس دانيال التي تأتي إلي المخيم المغلق لتشهد علي المجازر التي ارتكبت فيه عام1982 لاكتساب وعي جديد ويقرر العودة إلي أرضه الجليل, سيان عنده إذا كانت تدعي إسرائيل أم فلسطين. شاعرية وعبثية الجزء الأول قدمته بأسلوب شديد الشاعرية, في حين جاء الجزء الثاني في إطار يحاكي عبثية الواقع, الجزآن مشروع واحد, لكنني أحببت أن أقدم فلسطين التي سمعنا عنها في الحواديت, ومما زاد العبء بالنسبة لي هو أن رواية إلياس خوري كانت مليئة بالقصص وحواديت أهل المخيمات, لكن المسألة بالنسبة لي كانت هي كيفية تحويل ذلك إلي صورة ذات تفاصيل لها خصوصياتها, فمثلا كما ذكرت فالطبيعة حاضرة بقوة, لذلك حرصت علي أن تصور في فصول معينة, مثلا بدأنا في الشتاء, ذلك الجو الضبابي بثلوجه وريحه وأمطاره, بالتأكيد انعكس علي الصورة, تلك المغامرة التي جمعت بطلينا أيضا شعرنا أنها تحاكي ليالي ألف ليلة وليلة, الزهور التي تملأ المكان, شكل الأواني المستخدمة, الإضاءة, الفرش, كل هذه الشاعرية جعلت المشاهد يشعر بأن الجزء الأول أكثر إنسانية, وعمق وينفذ إلي المسام.. يضحك يسري معلقا: هناك قصدية, لقد أردت أن تكون الحكاية دافئة يغوص فيها المشاهد, وساعدني في ذلك جماليات الصورة العالية, وقد تكون هذه أيضا طبيعة الفترة الزمنية, في حين جاء الجزءالثاني واقعي ويحاكي عبثية الأحداث كما ذكرت. دقة الديكورات والملابس, تظهر حجم الجهد المبذول فعلا, بنينا قرية عين الزيتون كلها, كذلك الكيبوتزات اليهودية بنيت كديكورات, أما الملابس فالاختيار كان لناهد نصر الله, التي ركزت علي ضرورة اختلاف ملابس المجاميع والكومبارس, حتي يكون لكل منهم فردانيته. عادة في الأفلام التي تعالج القضية الفلسطينية نري الشخصيات الإسرائيلية وما تمارسه عن قرب.. عندك حق إلا أنني تعمدت أن أصورهم في لقطات بعيدة وأحيانا كنت أجعل قوة النور تحجب ملامحهم, وذلك لأنني لم أرغب في تقديم صورة نمطية للجنود, مثلا عندما أكون في مظاهرة فأنا لا أري وجه الجندي الذي يضربني, بل العصا هي البطل, كما قلت وناقشتني أنا أعمل طوال الوقت من وجهة نظر شخصياتي, ناهيك عن أنني لا أري الإسرائيليين ببساطة كجسد, يضحك, هو تغييب جسدي, وليس أيديولوجيا. باب الشمس إنتاج سينمائي شديد الخصوصية, يستحق أن يحتفي به, خاصة أن مخرجه أخذنا بعيدا عن الميلودراما الفاقعة, واستطاع أن يمسك بميزان شديد الحساسية, حتي لا نقع في الندب, وشاهدنا لحظات الفرح, الانسكار, الدعاية المرة, وأخذنا إلي فلسطين ولبنان وهو قابض علي جمر الحب والحكاية باب الشمس مغامرة فنية لحكايات تتوالد ولا تنتهي* تحية خاصة عندما تشاهد فيلما بحجم باب الشمس عليك أن تلتفت إلي الجنود المجهولين الذين يقفون خلف الكاميرا:
الأهرام العربي في 8 يناير 2005 |