الثقافة في سورية دمرت والسينما حالة بيروقراطية ميتة أنور بدر / دمشق |
ربما يعادل رصيد نبيل المالح، منفرداً، رصيد المؤسسة العامة للسينما في سورية بكل مخرجيها، وهذه علامة فارقة في تاريخ السينما السورية، فهو أخرج ما يفوق الـ150 فيلماً ما بين روائي طويل أو قصير، وما بين أفلام تسجيلية وأخري تجريبية، وقد حصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية عن أفلامه: الفهد، النابالم، بقايا صور، الكومبارس، النافذة...وغيرها. كما عمل نبيل المالح في سينما القطاع الخاص، وعمل لصالح المؤسسة العامة للسينما، وقدم أيضاً أعمالاً هامة للتلفزيون، دون أن يقدم في كل ذلك أية تنازلات في السوية الفنية لأعماله، حتي أنه يكتب سيناريو كل الأفلام التي يقوم بإخراجها.
درس المالح السينما علي حسابه الخاص في تشيكوسلوفاكيا، كما درّس الإخراج
السينمائي وكتابة السيناريو في جامعات تكساس ولوس أنجلوس وغيرهما، وقد بدأ
مؤخراً يتجه إلي السينما العالمية، كأحد المخرجين المتميزين في هذا الحقل.
· كيف حقق نبيل المالح معادلة الإنتاج الكثيف دون أن يخسر شيئاً من مستوي أعماله الفني؟ حقيقة لم أفكر في هذا السؤال سابقاً، ولكن يبدو أن السبب الرئيسي ينبع من كوني إنسانا حرا، ليس فقط من الناحية الروحية، ولكن أيضاً من الناحية العملية، فأنا الوحيد الذي درس السينما علي حسابه الخاص، لم أذهب بالصدفة في بعثة، وليس لأحد الفضل بأني دارس للسينما، كنت أشتغل كي أدرس، وهذا ما صنع مني الإنسان المقاتل، كما ساهم في إعطائي الكثير من الحرية في حركتي أكثر من الآخرين، وعزز إحساسي باستقلاليتي عن أي إطار يمسك بي، أو عن أحد له فضل عليّ، إن كان في بعثة أو وظيفة أو عمل. النقطة الثانية: أنني لم أكن أبداً جالســــاً بانتــظار فرصة تأتــــيني، بل أنا أقاتل من أجل أن أصنع الفرص التي أريد. النقطة الثالثة: أنه تصادف لأسباب (الحظ، الظروف، الاجتهاد، الموهبة) أني عرفت في وقت مبكر طعم النجاح، وحتي قبل أن أتخرج، وعندما يتذوق إنسان ما طعم النجاح لمرة واحدة فإنه سيقاتل لاستمرار النجاح، واستمرار الارتقاء.
بعيداً عن ذلك نستطيع التأكيد أن لكل إنسان في عمله أهداف، البعض يراها
مادية والبعض يعتبرها ثقافية، وآخرون يؤكدون علي القيمة الإبداعية، أو
تحقيق الذات، أو... عشرات التسميات، بالنسبة لي حقيقة لم يكن لي أي هدف في
الثراء، فمنذ طفولتي وأنا أحاول أن أكون ذاتي، وأعتبر أن أهم ثروة أملكها
بهذا الصدد هو أن لدي ما أقوله. · نبيل المالح الذي كتب الشعر ورسم وألف وأخرج، هل ما يزال لديه وقت للشعر؟ وهل ما زال يمتلك وقتاً للرسم؟ في الحقيقة أن السينما تكاد تمتص كل وقتي، كل جهدي، ومع ذلك لا أتوقف عن إقامة معرض من وقت لآخر، أما الشعر بالنسبة لي فهو حالة بوح ذاتية تفرض نفسها عليّ بين الفينة والأخري، المهم أنني لا أستطيع أن أتخلي عن أي من هذه الجزئيات التي شكلت بمجملها مشروع حياتي. · ولكن ما الذي طرأ علي هذا المشروع؟ منذ أيام اتصلت بي إحدي معدات البرامج، وقالت لي: نبيل المالح أريد منك لقاء عشر دقائق . · تأملت نفسي للحظات: من هو نبيل المالح؟ وهل نبيل المالح اليوم هو نبيل المالح قبل عشر سنوات، أو عشرين أو حتي أربعين سنة مضت؟ في الخمسينات مثلاً، كان كل شاب صغير يخرج في مظاهرة، وهو قد لا يدري لماذا تقوم هذه المظاهرة، ولا يدري مع أي طرف هو، فقط يعرف أنه يشارك في فعل سيغير العالم، وكانت الأهداف والشعارات والأحلام دائماً كبيرة، كنا نسقط الولايات المتحدة والصهيونية، ونطالب بالوحدة العربية والتحرر، كلمات كبيرة جداً، شكلت ملامح وعي لأجيال في المنطقة. الآن، وفي محاولة لإعادة قراءة ما جري في المنطقة، نكتشف أن كل هؤلاء الأطفال الصغار ـ الكبار جداً في الحلم وفي التحدي وفي رؤية ما يريدون أن يحققوه ـ كلهم قد صغروا كثيراً، وذلك الإنسان الذي كان يستطيع أن يجابه العالم، قد مرت الأيام لتصنع منه إنساناً صغيراً، خائفاً ومرعوباً، يخاف من بيروقراطي صغير، ومن مُخبر تافه، ومن موظف أبله، ومن صعاليك يجعلونه يخاف، ولذلك أنا أخرجت في الستينات فيلم الفهد عن إنسان يثور ضد السلطة، بينما أتحدث في الكومبارس في الثمانينات عن إنسان كل طموحه هو أن يُنقذ روحه الصغيرة، هو لا يريد أن يُنقذ العالم، يريد فقط أن يُنقذ ذاته، أن يفر بجلده. هذا التطور المرعب الذي جري علينا، تتحمل مسؤوليته سلطات قزمت البشر وقزمت العلاقات، وقزمت الحلم، وجعلت منا أناساً صغاراً، بمدارك صغيرة، وأحلام صغيرة، ومطالب صغيرة. لذلك أنا أحمد الله أنني في عملي الفني لم أخضع مع الآخرين، ربما لكوني قضيت معظم عمري خارج سورية، استطعت إنقاذ روحي إلي حد ٍ كبير، فأنا ما زلت ملكاً علي نفسي، لا زلت أحمل نفس الأحلام، واملك أيضاً الأدوات للتعبير عنها. وبالرغم من الحروب التي تقام ضدّي بشكل دائم، إذ لم يكن أي نظام راضيا ٍ عني في أي وقت، ولم تكن أي إدارة راضية عني في أي وقت من الأوقات، إلا أنني أفتخر بذلك، فأنت تشعر بالمهانة إذا رأيت صعلوكاً راضياً عنك، وأشعر أكثر من ذلك أنّ مشروعي لم يتغيّر، وهنا تكمن حريتي، وتكمن حياتي، وتكمن أيضاً أحلامي الكبيرة بالمستقبل، وأحلامي بقول ما لم أقلّه حتي الآن. · كان هذا واضحاً في أفلامك التسجيلية الأخيرة شيخ الشباب و حادثة اغتيال إذ ما زلت قادراً علي تصوير بشاعات الواقع، حتي لو مُنِعَ الفيلم؟ الوطن بالنسبة للكثيرين قد يكون مزرعة، قد يكون منطقة لعب، قد يكون مشروع خاسر، لكن بالنسبة لأمثالي، فنحن لا نملك سوي الوطن، وأنا حقاً لا أملك سوي الوطن، وقد قلت ذلك في فيلم شيخ الشباب عن الزعيم الوطني فخري البارودي، قلت: إنني قد لا أكون وصلت إلي ما وصله الآخرون من العطاء للوطن، لكنني أتبني وأنتمي لهذه الحالة. حالة من أعطي للوطن كل ما لديه، ولم يأخذ من الوطن سوي شرف الانتماء إليه. · دعنا نعود إلي أعمالك، لماذا يُصر نبيل المالح علي كتابة سيناريو أعماله؟ أنا حقاً لا أعرف ولا أجيد إخراج نص كتبه غيري كسيناريو، قد أتبني قصة كما حصل في بقايا صور أو الفهد أو في السيد التقدمي ، أتبني حكاية ولكنني لا أستطيع أن أخرج سيناريو لم أكتبه، لماذا؟ لأنني عندما اقترب من الفيلم حقاً ـ وهذا شيء من سر المهنة ـ فأنا لا أبدع فيلماً، لأنني أكون قد أبدعت الفيلم قبل إخراجه بزمن طويل، أنا أغمض عيني وأشاهد الفيلم، أراه في لقطاته وألوانه وزواياه، أري حركة الممثل وتعابير وجهه وحركة عينيه، أري المكان كله، أسمع الموسيقي، أشم رائحة الأشياء، وأغمض عيني وأستعرض الفيلم بالكامل في رأسي، وحين ذلك اكتبه، وعندما أذهب لإخراج الفيلم، فإنني أنفذ وأصور ما سبق لي ورأيته. الناحية الثانية إنني لا أحب تكرار ذاتي، فأنا لست حكواتياً، أنا سينمائي، والسينما أسلوب، والفن كله أسلوب، وبالتالي يجب أن اكتب النص كي اكتشف لهذا الموضوع، أو لهذه الفكرة أسلوب التعبير الخاص بها، وفي كثير من الأحيان يحدث العكس، يحدث أن يسبق الأسلوب الموضوع، يعني أن أكتشف الأسلوب قبل أن أكتشف الموضوع، وهذا يجري في حالات كثيرة، فيلم نادي ، فيلم نابالم وفيلم الصخر أفلام كثيرة سبق الأسلوب فيها الفكرة، وهنا تأتي حالة التكامل. بصراحة أنا أنفذ أعمالاً أشاهدها في مخيلتي. · رغم نجاحات نبيل المالح في السينما الروائية، إلا أنّه ما زال قادراً علي صناعة أفلام قصيرة أو تسجيلية بحرفية عالية؟ أستطيع القول أنّ مدرستي في السبعينيات كانت الفيلم القصير، وكانت أفلامي القصيرة ذات لون خاص، لم تُصنع سابقاً. البعض تغره الأعمال الكبيرة، والبعض يبحث عن الأدوار الكبيرة، بينما أعتقد انّه في الفن لا يوجد شيء اسمه أعمال كبيرة، كما لا يوجد شيء اسمه ادوار كبيرة، يوجد شيء تصنعه بشكل جيد، وبمقاربة إبداعية، سواء كان صغيراً أو كبيراً، فأنت تستطيع أن تختزل في لحظة من المشاعر والأحاسيس والأحلام ما يُمكن أن يعيشه المرء في شهور طويلة، الفيلم القصير هو ومضة عالية الكثافة. المسألة بالنسبة لي هي في اختيار أداة التعبير المناسبة للحالة أو الفكرة المطروحة، فعندما أكون في حالة عشق أو حالة روحية معينة، قد يخطر ببالي أن أقولها شعراً فاكتب الشعر، أو أن أراها صورة فارسم لوحة، ولكن بعض الأفكار أراها صالحة لتكون فيلماً قصيراً، بعض الأفكار أشعر بضرورة أن تمتد علي مساحة أوسع فتكون فيلما طويلا. وأنا لدي حريّة الاختيار بين أدواتي، المهم في الفن يكمن في طريقة مقاربة أي موضوع، علماً بأنّ كل موضوع يُمكن رؤيته من زوايا مختلفة، ومن عشرات الوجوه. · بدأ نبيل المالح يتجه إلي السينما العالمية، ما هي مبررات الإنتاج المشترك وما هي طموحاته؟ هناك نوعان من الأعمال التي تُعمل عادة مع دول أوروبية تحت اسم الإنتاج المشترك، هناك نوع يُسمي صناديق الدعم وهي موجودة أولاً في فرنسا ثم في ألمانيا.... وقد استفاد منها عدد من المخرجين العرب، وأنا لأسباب عديدة ـ أعرفها ـ لم أتقدم إلي أيّة واحدة منها، بقناعتي أنّ هنالك نوعا من التوجه الذي يختفي وراءها، وهذا التوجه يحاول تكريس فكرة التخلّف ـ تخلفنا ـ ويؤسفني القول أنّ الكثير من مخرجي أفريقيا وشمال أفريقيا بشكل خاص دخلوا في عملية بيع التخلف أو بيع الفقر باعتباره فلكلوراً، وأنا مُضاد لهذه العملية. نحن حتماً مُتخلفون، وأنا مُستعد أن أتحدّث عن تخلفنا، بل كل ما فعلته بشكل أو بآخر يتحدث عن تخلفنا، ولكنني صنعته من داخل سورية، وبتوجه مُستقل، لكي أكاشف البشر المحيطين بي، ولأتحدث عن عالم يعنيهم ويعنيني، ولم أقدمه كوسيلة للتشهير بنا كالآخرين، لأنني أرفض هذه الزاوية نهائياً. هذا لا ينفي أنّ هنالك مخرجين جيديين يحترمون أنفسهم، وعملوا أعمالاً ذات إنتاج مشترك، كانت قيّمة بلا شك، لكنني اعرف السياسات التي تقف وراء صناديق الدعم بشكل عام. هناك شيء آخر، وهو الذي أعمل به، انطلاقاً من كوني مخرجا، فإما أنني مخرج مقبول ومطلوب وامتلك أدواتي الفنية التي تجعلني لا أتخفي وراء مشروع دعم أو سواه، وإما انني لا أرقي إلي ذلك. إذا كنت مخرجاً كأي مخرج آخر في العالم، فإنني أستطيع أن أقدّم نفسي لشركات الإنتاج كما يتم في كرة القدم، فالشخص الناجح مطلوب لأنه يحقق أهدافاً للفريق، أي أنّ المسالة حرفية بحتة. في هذا الإطار لدي الآن مجموعة من السيناريوهات التي تتداولها شركات إنتاج كبري في العالم، وأنا أتقدم إليها ككاتب سيناريو وكمخرج، سيناريوهات تبدو مطلوبة جداً، رغم أنها قد لا تكون علي علاقة بالمنطقة البتة. كالفيلم البريطاني الذي انتهيت منه مؤخراً حفلة صيد فهو عبارة عن مقولة سياسية أريد أنا أن أقولها، وكان من المفروض أن يقولها السوريون أو ينتجوها، ولكن تصادفت أن التقت أفكاري مع الجهة البريطانية المنتجة، فنُفِذ العمل لصالحها، وبإمكانيات تقنية عالية، لكن مقولته السياسية لم تتغير، ولم أخضع العمل لأي مساومات أو تغييرات. والآن لدي أعمال أخري مثل حروب الزهرة أو الشلال أو القتل الوردي تدور بين كبريات شركات الإنتاج في العالم، لدي الآن مشروع إنتاج استرالي ـ سويدي كبير جداً، قد لا يكون له علاقة بمنطقة الشرق الأوسط، هو فيلم كأي فيلم يُنتج عالمياً، ولكن شروط إنتاجه قد تكون أفضل بكثير من شروط إنتاجه المحلية، وشروط عرضه كذلك، فالمخرج يُقتل عندما لا يستطيع أن يُري عمله للناس. · بالنسبة لفيلم حفلة صيد فقد انتهي التصوير، وانتهت الأعمال الفنية منه، متي يُعرض، وهل ستتم دبلجته بنسخة عربية أم سنكتفي بالترجمة؟ المفروض أنّ أبطال هذا الفيلم عرباً، رغم أنّ الممثلين بريطانيين، وما يُسمي باللغة الماستر هي اللغة الإنكليزية للفيلم، ولهذا كانت تصورات أو استراتيجية الجهة المنتجة للفيلم، أن يبقي علي حالة فيلماً بريطانياً، خاصة وأنّ سوق توزيعه بالنسبة لهم هي السوق الأوروبية والامريكية ثمّ سوق الشرق الأقصي بدرجة ثانية، بينما العالم العربي كله كقيمة شرائية للفيلم أو كتسويق لا يعادل حارة في لندن، ولذلك يسقط حسابياً، خاصة وأنّ عمليات الدبلجة مُكلفة كثيراً. وبالنسبة لأي فيلم هناك مرحلتين، قبل أن يُصبح في العلب يكون الفيلم ضمن مسؤوليتي بالكامل كعمل فني، ومتي أصبح في العلب، يُصبح كأي سلعة تتحكم بها منظورات التسويق، وأعتقد أنّه أصبح جاهز للعرض قريباً، لذلك لن أتحدث عن تفاصيله، سأكتفي باختصار مقولته التي كانت ولا تزال هاجساً لي هل سيأتي يوم يحاكم فيه الضحايا جلاديهم؟ وقد حاولت الإجابة عبر سيناريو محبوك إلي ابعد الحدود. · أين أصبحت مشاريع حروب الزهرة و القتل الوردي ؟ حروب الزهرة؟ هو منظور ساخر لعالمنا المعاصر اليوم، وما يُسمي بالعولمة، منظور مُبتكر وجديد، وفيه استهزاء كبير من القوي الكبري، بطريقة مبتكرة وجديدة لم تعرفها السينما من قبل، في هذا الفيلم تجري الأحداث بين دولة من الشرق المتوسط ودولة عظمي، وكان السيناريو قد انتقل من اليونان إلي بريطانيا ثمّ هوليوود، إذ صادف أن اهتمت به شركة فوكس في هوليوود، ووقعت معها عقداً أوليّاً قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وكانت الأمور تسير بشكل جيد، المهم في الموضوع أنّ الشركة بعد 11 أيلول (سبتمبر) أوقفت الإنتاج، لأنّه بعد هذا التاريخ لم يعد مسموحاً السخرية من الولايات المتحدة، باعتبارها ستتقدم لتحارب كل ما هو تحت خانة الإرهاب، فغاب المشروع لمدة ثلاث سنوات، والآن تعود الحركة إلي السيناريو، هناك جهات إيطالية وهولندية وألمانية مهتمة به. أما القتل الوردي فهو عمل مختلف، أوروبي محض، كتبته ليُصنع في أوروبا، وسأسافر خلال أيام لجلسة نقاش إنتاجي في إيطاليا حول هذا العمل. · بالعودة إلي السينما في سورية، نجد أنّ عدة إجراءات اتخذت، لكنها لم تفلح في إقامة السينما السورية من عثراتها؟ المسالة أنك تتحدث الآن عن أرض محروقة ومدمرة، فأولاً تنبع قيمة السينما من مواجهة التلفزيون، إنّ هذا الأخير دائماً صوت السلطة، سواء كانت سلطة المال أو السلطة السياسية، أو سلطة الشركات...إلخ. بينما السينما تبقي علي حد كبير هي صوت البشر، ولذلك كانت مساحاتها أوسع، وهذا يعني أولاً أن يكون لديك جمهور، ونحن خلال الأربعين سنة الماضية نجحنا في تدمير هذا الجمهور، فليس لدينا الآن جمهور، وليس هناك صالات، وغاب الطقس السينمائي عن عاداتنا وثقافتنا، فأنا عندما أذهب إلي السينما فلأنني أرغب بالتواجد مع الآخرين، هذا الحس بالتواصل الاجتماعي وتبادل النظرات والوجود مع الآخرين، هذا الطقس الاجتماعي الهائل انتفي، ليس فقط من السينما، وإنما من كل حياتنا الثقافية، فعندما أذهب إلي معارض الرسم الآن أجد ذات الوجوه تتكرر أمامي، وعندما اذهب إلي مؤتمر ألقي نفس الناس. طقس التعامل مع الآخر والتواجد مع الآخر، والنقاش والحوار مع الآخر، واستنباط الأفكار من تواجدنا معاً انتهي، وبالتالي أنت تنفخ في قربة مثقوبة. السينما من جهـة ثانية هي أعلي تعبير عن مُجمل الحريات الموجــودة في بلد ما، وهي لا يمكــن أن تخرج من رأس واحد فقــط، بينــما سيـــاسات المؤسسة العامة للسيــــنما كلــها تخرج من رأس المديـــــر العام، تصعد وتهبط علي حسب مديرها العام، ولـم تكن هناك حالة ما يُسمي بـ أنــــا الإنتاجي، إلا في نهاية الستيـنات وبداية السبــعينات، وبعد ذلك انتهت الأمور، لم يعد لدينا سينما، إنما أداة تعبير عن السلطة، سواء مارست هذه السلطة ضغط عليها أم لا، لأنها أصبحت في يدها بطريقة ما، والآن أي محاولة لاحياء السينما يجب أن تبدأ من إحياء الطقس السينمائي أولاً، يجب أن أُحيي حرية التعبير، يجب أن أحيي علاقة المثقف بالوطن. والسينما السورية وفق قناعتي تمر الآن بحالة بيروقراطية ميتة، وتبدو محاولات التعامل معها بائسة فعلياً، كمحاولة بث الحياة في جثة، لأنّ من لا يملك الشيء لا يمكن أن يعطيه، وبقناعتي لا يوجد الآن مشروع ثقافي بعدما دُمِرَت الثقافة خلال عقود. · وماذا عن مسلسل أسمهان الذي يمكن أن يشكل محطة هامة في الدراما السورية، لأهمية الشخصية ولأهمية الموضوع، وأهمية المرحلة التي يتحدث عنها، ودعني أقول أيضاً لأهمية المخرج الذي يقف وراءه؟ لاشك أنني منغمس في هذا الموضوع، لأن أسمهان شخصية استثنائية علي المستوي الكوني، فمثل هذه المرأة أسميها أنا الكريستال متعدد الوجوه ، المرأة الطاغية، الضعيفة، المشردة، القوية، الغنية، الأميرة، الجاسوسة، اللاعبة بالمصــائر، إنها تمثل مختلــف وجوه المرأة، وهذا النموذج الاستثنائي يأخذ بالألباب ويسحر، لأنه يتيح لي كمخرج أن أتعامل مع شخصية غير عادية، فأسمهان كان فيها كليوباترا، وكان فيها نصف شخصيات شكسبير وشخصيات نجيب محفوظ وشخصيات فرلين الشاعر وسواه، كثير من الشخصيات كانت داخل هذه المرأة. وهي أيضا كحبل الغسيل الذي يحمل دراميا أحداثا غيرت تاريخ المنطقة، وهي لم تكن مجرد متفرج بل كانت دائما بين اللاعبين المهمين في كل حركة التاريخ، لنقل منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتي وفاتها. وهي فترة دينامية في تاريخ المنطقة، فخلال الحربين العالميتين وما بينهما هو تاريخ تقسيم المنطقة واستعمارها، تاريخ البدء بتشكيل الدولة الصهيونية، كل هذه الأحداث كانت أسمهان منها وفيها وأحد لاعبيها، وأنا أقف الآن بحذر أمام الموضوع لثرائه وللأبعاد التي يمكن أن يحملها علي العديد من الصعد والمستويات. فهذا العمل يمكن أن يأخذ ـ لهذه الأسباب ـ اهتماما عالميا، ليس علي أساس 30 حلقة، بل يمكن أن يكون علي أساس التيلورمان ـ التيلوفرت، يمكن أن يكون ست حلقات كثيفة، يمكن أن يخرج منه فيلم روائي طويل، شرط أن يعمل بشكل متقن وجيد، وبعين قوية لا تقبل الحلول الوسط التلفزيونية، بل تصر علي عين محض سينمائية. وفي هذا المستوي فإن العمل مثير ليس داخليا فقط، بل عالميا، فلو أخذنا شخصية ماتا هاري الجاسوسة الفرنسية التي اعتقلها الألمان وأعدموها، كشخصية حقيقية مرت في التاريخ، نجد أنه أنتج عنها أكثر من فيلم،مع أننا لو قارناها بأسمهان فسوف تبدو شخصية قزمة أو صغيرة كثيرا. لذلك مازلت أقارب هذا العمل بحذر، وأدرس كل المناخات التي يمكن العمل فيها، لأن هذا المسلسل يحوي تنوعا كبيرا، وفيه ثراء مشهدي كبير أيضا، ولا أدري إذا كان يمكن إنتاجيا أن يكون جاهزا للعرض في الدورة القادمة. القدس العربي في 11 أبريل 2005 |
شعرية الخطاب في الفيلم السينمائي طاهر عبد مسلم في البدء.. لابد من القول بأن استقصاء الخطاب كقيمة مجردة تشكل دعامة مهمة ورئيسية في المنظور ما بعد الحداثي المعاصر، ذلك ان الانشغال بالكيفية التي تنتظم بها الكلمات او الصور لتكون او تولد المعنى هي المدخل المعرفي الأساسي في اية قراءة. ولأن (الفيلم) قد اوجد صلة عميقة بين انساق متعددة، عندما نقل الرواية والقصة والمسرحية والملحمة والاسطورة من اطرها المعرفية التعبيرية الخاصة الى مكونات وادوات اللغة السينمائية ـ كما سماها مارسيل مارتن. من هنا تبدو شعرية السرد السينمائي، اسكانية تتصل بالنوع الابداعي وبالأسلوب وبالمدى الذي بلغه المبدع في التعبير السمعبصري، انطلاقاً من القراءة الادبية ـ السينمائية ممثلة بقراءة كاتب السيناريو وانتهاء بالتكامل السمعبصري ممثلاً في قراءة المخرج. فهو اطار يتسع للتعبير عن النوع الفيلمي من جهة ويرتقي بالتفاصيل والمعطيات من سكونيتها ووجودها المجرد المباشر والأقرب الى الواقعية الى مديات الانساق التعبيرية المتصلة بالرموز والدلالات والاحالات التفسيرية المرتبطة باللون والشكل والهيئة والحركة. فالسينمائي هنا معني بتحميل المشهد الواحد (كوحدة مقترنة بالسيناريو) وباللقطة (كوحدة مرتبطة بالاخراج) باحالات لا تقدم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة، بل بما بعد الصورة وما بعد التعبير المباشر وربما تتسع الدائرة هذه لتفتح مديات اوسع للانتقال بالرمز والدلالة من الاطار الكتابي الى كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلاً من اشكال التعبير المبتكر. ولعل هذا الجانب يقودنا الى محصلات متعددة توصلت اليها التجربة السينمائية تحتم الخروج من النمط التقليدي والمألوف والمكرر الى خطاب فيلمي مهيأ للدخول في دائرة التأويل واستقصاء البنى الرمزية. وبموازاة ذلك نجد ان اشكال التعبير الفيلمي تستوجب قدراً كبيراً من التجريب في ايجاد المنحى الاسلوبي الذي يختص بهذا العمل وهذا المبدع دون غيره. في البنية الشعرية وانتاج المعنى ينشغل السينمائي كمنتج للخطاب باشكالية انتاج المعنى وتوظيف الوسائل التي بواسطتها تتوالد الاحالات الرمزية للنص وتوليد الانساق والعلامات والشيفرات الرمزية السمعبصرية، اي ان تكون هنالك بنية من الرموز الفيلمية تحملها مفردات اللون والحركة والشكل والبناء المكاني، رموز خاصة منها ما هو مباشر لدفع المعنى وفكرة العمل الى الامام ومنها ما يمكن استخلاصه معنوياً ويتعلق بالنسيج الفيلمي كنسق كلي. وعبر هذه المستويات وباتجاه انتاج المعنى لابد من توليد ما عرف بالرسائل بين منتج الخطاب ومستقبله وستحمل هذه الرسائل بمعطيات اشارية ودلالية ترتبط بخصوصية الفيلم كوسط (سمعبصري ـ حركي)، فالرسالة محملة بشيفرات سمعية عبر الموسيقى والحوار والمؤثرات الصوتية وشيفرات بصرية عبر دلالات الصورة وغزارتها التعبيرية وشيفرات حركية متنوعة وبهذا يمكن التوقف عند هذا المعطى لانتاج المعنى عبر تلك الشيفرات من خلال ما يأتي: 1- الدلالة السمعية: ثمة قراءة ترتبط بتباينات يقدمها الصوت من خلال انماط الحوار وما يحمله من بنى شعرية دالة تقترب من جمالية البناء الشعري عبر احالات رمزية ودلالات مباشرة وغير مباشرة وفي الوقت ذاته ثمة كثافة في التأثير بواسطة المؤثرات السمعية التي تسهم بقوة في الانتقال الى بيئة الحدث وبالتالي تقرب الرسالة من التكشف كسقوط شيء من مرتفع الى قاع وسماع صوت المؤثر، هو كشف خبري لكنه نوع من التباين بين الارتفاع والانخفاض، بين التجسيم والاقتراب من البعد المكاني كما يقول (الان كاستي) المنظر الجمالي السينمائي. الدلالة البصرية: باعتبار الصورة هي العنصر الاكثر غزارة لانتاج المعنى، وصنع اللغة الشعرية او المساهمة فيها على اساس ان السينما هي لغة صورة اساساً، وكذلك هي شاشة التلفاز وشاشة الكمبيوتر وبرامجه الصورية، وكذلك شاشة عرض الشرائح المصورة، من هنا وجدنا مساحات تتخلق على سطحها مستويات المعنى ويجري عبرها انتاج الرسائل فنحن هنا امام وسائط كثيفة ومتداخلة تبدأ بسطح الشاشة وتتسع للعمق الفراغي وعمق الميدان. الدلالة الحركية: لأن فن الصورة السينمائية هو فن الحركة، فنحن امام توليد للمعنى مقترن بتوليد الحركة وتتابعها وعبر هذا التتابع يتهيأ ذهن المشاهد لاستيلاد ما وراء الحركة وبحثاً عن صلة تصله بما هو معروض امامه، باستقبال الرسالة في شكلها المتحرك وتفكيك شيفراتها والتفاعل معها. ان الفيلم.. هو محصلة مرئية سريعة الزوال، فتتابع آلاف الصور تزيل معها المعنى المباشر وتنطلق من هذا المعنى الى معنى مضمر يجري خزنه في الذاكرة، ولذا لابد من تخليق قوى (التخييل بالمشاركة) المقصود هو بناء عالم خيالي مشترك بين الصورة ودلالاتها ونسقها الشعري الرمزي والاستعاري والجمالي وبين المتلقي المستعد لرسم الاشارات واستقبال الرسائل حسياً، وايجاد ترابطات ذهنية معنوية فيما بينها. توليد المعنى والاثر في النص الشعري كنت قد طرحت بكل تواضع رؤيتي الشخصية لقراءة (المعنى) و(الأثر) بين النص الشعري والشكل السينمائي عبر فرضية وصفتها بـ (الاثر الجمالي السمعبصري) واوردتها متكاملة في كتابي (عبقرية الصورة والمكان)، وبناء عليها اجد ان توليد المعنى والاثر هما المحركان الاقوى في انساق الشكل الشعري في تلازمه مع النسق السينمائي السمعبصري، فالشعرية لم تعد هنا منخرطة في فاعلية ادائية شرحية، بل انها معنية بصنع اثر ما لدى المتلقي والاندفاع بعيداً فيما بعد الاثر من اصداء وتفاعلات نفسية محركة للمخزون المعرفي والشعوري انها آلية ايجاد علاقات بين الاشياء والظواهر والارتقاء بالمظاهر المرئية المشوشة الى حيز الدلالة والرمز وتحريك الذاكرة المبدعة. وبهذا ستتشعب فاعلية الصورة في البناء الشعري الى آليات متعددة كالتجسيم والتشخيص والايحاء والحركة وتوليد الايقاع والمكونات الابداعية الاخرى وبذا يكون للصورة منطقها الداخلي في التعبير عن النسق الشعري، ونقل شعرية السرد، عبر علاقات بنائية كثيراً ما عبرت عنها تجربة (كوكتو) في سلسلته (دم الشاعر)، و(ثلاثية اورفيوس) وناقشها (كرستيان ميتز) فيما انشغل (رولان بارت) طويلاً بقراءة المعنى الثالث للصورة واحالاتها النسقية في تجربة الروسي المؤسس (ايزنشتاين). موقع "القصة العراقية" 10 أبريل 2005
|