شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

د. مدكور ثابت يفتح الملفات المفقودة (6/7)

أضرحة ومجاذيب وأولياء ومتطرفون علي شاشة السينما

 

 

 

 

 

 

من السهل علي الذاكرة أن تسترجع كثيرًا من التجارب التي تعاملت فيها أفلام السينما المصرية مع الإيمان الديني لدي جماهيرها، ليتأكد المرء أن لنجاحات السينما المصرية تجربة راسخة في هذا الصدد، بل إن باعها الطويل في هذا، لم يعد مصدر خبرة ثابتة وحسب؛ وإنما قد بات نمطيا في هذا التعامل مع إيمان الجماهير، حيث قد انعكس علي "تنميط" كثير من ظواهر هذه السينما وكذلك تنميط شرائح اتجاهها الأساسي، من قبيل تلك التنويعات النمطية علي الدور الذي يلعبه "القدر" في المنحي "الميلودرامي" الجياش الذي طبع اتجاها بأكمله علي وجه السينما المصرية عبر كل تاريخها، ذلك الاتجاه الذي بات يجد صداه السريع والسهل في عمق الإيمان القائم دوما لدي جماهير الفيلم المصري، والذي كان نتاجه الدائم نجاحا جماهيريا تجسد في الإقبال المتعاظم علي أفلام هذا الاتجاه، إلي الدرجة التي راحت فيها الأفلام تحمل العناوين الموحية بالميل الديني مثل "وبالوالدين إحسانا" و"يمهل ولا يهمل".. إلخ، بل ما أكثرها تلك المواقف النمطية التي باتت ثابتة في المعالجات الفنية للفيلم المصري، مثل تكرار الموقف الشهير للتوبة عن فعل الجريمة لحظة سماع صوت التكبير بالآذان، خاصة عند الفجر. لكن الدرس القوي المستخلص من هذه التجربة، هو أن استهداف النجاح الجماهيري لم يعد وقفا علي الموضوعات الدينية المباشرة في الأفلام، وإنما أصبح هذا النجاح قائما ومضمونا بإمكانية الوصول إلي مكنون هذا "الإيمان" الراسخ سلفا في أعماق هذا الجمهور، حتي لو كان موضوع الفيلم غير متعلق بمناقشة قضية دينية مباشرة، إذ يكفي معالجة المواقف الروائية باستثمار تلك النظرة المؤمنة بقيمها ومثلها داخل هذا المتفرج، مهما كان الموضوع، بل يكفي التأثير فيه بإبراز دور ما للقدر في مجري الأحداث التي تندفع ـ وفقا لذلك ـ في مجري ميلودرامي مؤثر، حتي لو تعلق الأمر بقصة حب أو زواج، أو بواحدة من قصص البطولة أو الجاسوسية.. إلخ.

هذا ولا نبالغ القول بأن كلاسيكيات النجاح الجماهيري في تاريخ السينما المصرية قد بنيت بالملامح النمطية ذاتها التي رسختها هذه الميلودرامية القائمة علي تلك " القدرية " الكامنة في أعماق الجمهور "المؤمن"، حتي لو كان هذا الجمهور قد جاء إلي دار السينما منساقا وراء إغراء عناصر أخري جاذبة ومنافية لأصول هذا الإيمان، بدليل أنه في أثناء المشاهدة سوف يتعامل مع الأحداث الجارية علي الشاشة بالتعاطف مع الأبطال عبر منظار القيم والمثل التي تفرضها طبيعة إيمانه، ومن ثم فهو ينتصر للبطل الخير ضد خصمه الشرير، ويأسي للمظلومين، وتنهمر دموعه لمآسيهم، ويكره ظالميهم.. حتي لو كان هذا المتفرج ظالما في ممارسات حياته الفعلية، أو شريرا مجرما محترفا قبل أن يدلف إلي تلك الصالة المظلمة للفرجة علي شاشة أضوائها، حيث تبرز _ وتظل _ مكونات إيمانه القابع في الداخل من قيم ومثل عليا إنسانية باعتبارها الساحة الرحبة التي ترتع في أرجائها المعالجات السينمائية الميلودرامية، وغيرها من التنويعات الفنية الموازية، لتحقق نجاحها الجماهيري.

وخلاصة الفرضية أن المعالجة الدرامية للفيلم السينمائي في مصر إنما تتخذ طبيعة مسلكها من جوهر تعاليم العقيدة الدينية، حتي وإن لم تتعرض لموضوع ديني.. وتتجسد مظاهر ذلك في ثلاثة أركان لهذه المعالجة الدرامية:

1 ـ تبني القيم والمثل الإنسانية العليا في الحكاية الفيلمية.

2 ـ النمطية الحرفية في صياغة عنصر التعاطف والمشاركة الوجدانية مع الأبطال في الفيلم.

3 ـ الاعتماد علي القدريــة في مســار ميلودرامي للأحداث السينمائية. ويمكن اكتشاف وحدة الأركان الثلاثة بما يبرز ظواهر الإيمان واقترانه بالقيم والمثل العليا الإنسانية، عبر النجاح في تحقيق عنصر التعاطف مع البطل، ما دامت شروط تحقيق هذا التعاطف تتمثل حرفيا في تحقيق صفة واحدة أو أكثر من الصفات التالية في شخصية البطل:

1 ـ أن يكون البطل ممثلا للقيم الأخلاقية والمثل العليا الإنسانية ومدافعا عنها.

2 ـ أن يكون البطل مظلوما يبحث عن العدل.

3 ـ أن يكون البطل قادرا علي الإتيان بأفعال أسطورية خارقة للطبيعة في سبيل دفاعه عن المثل والقيم الإنسانية والعدل.

فإذا ما أمعنا النظر لاكتشفنا في هذه الشروط الحرفية تجسيدًا لما تتضمنه روح العقيدة الدينية، وبما من شأنه أن يوضح الخطوة لطرح فرضيتنا هذه فيما يتعلق باستكشاف خصوصية السينما المصرية عبر المدخل الديني في فهم معالجاتها الفنية.

ومن ثم تغدو فكرتنا هذه واحدة من مجموعة الفرضيات التي تعودت ـ شخصيا ـ طرح مقولاتها لتكون متاحة علي مائدة البحث في اتجاه إثباتها أو رفضها فيما يتعلق باتجاهات الفيلم المصري وأنواعه وشرائحه خلال تاريخ إبداعه وصناعته، بل وقياسا علي طرحنا لهذه الفرضية يمكن أن نوضح دعوتنا إلي الاستمرار في طرح كثير من الفرضيات الأخري عن السينما المصرية، علي أن تنصب كل منها علي زاوية مختلفة رغم استهداف منطوقها علي صفة شمولية حول هذه السينما، فكل منها سوف تنصب علي زاوية جديدة لا بد وأن تتكامل مع الأخريات.

ويمكننا أن نتذكر الآن تكامل هذه الفرضية مع فرضية/ زاوية أخري سبق أن طرحناها حول شريحة "أفلام الحركة" في السينما المصرية، عندما ذهبنا إلي أنها الشريحة المدخل إلي دراسة بقية شرائح السينما المصرية، إذ إنها ـ فيما أري شخصيا ـ تُعد النموذج الأكثر تركيزا لنوع إطار المعالجة الدرامية الذي تتحرك داخله معظم شرائح الفيلم المصري الكلاسيكية الأخري، حتي لو كانت شريحة الفيلم الرومانسي، فهو الإطار المبني دائما علي التلاعب الإبداعي لكل من المؤلف والمخرج السينمائي بوسائل التأثير الدرامي التي تشمل: التشويق، المفارقة، المفاجأة، والتي تدخل جميعها في نطاق "اللعبة في الفن"، وإن كان منظورنا إلي اللعبة في الفن ينطلق من المفهوم الذي يعلي من قيمة اللعب _ وليس العكس _ وفقا لما يذهب إليه بالتفصيل أحد ابحاثي في فن الفيلم (ينْظَر كتاب "النظرية والإبداع، في سيناريو وإخراج الفيلم السينمائي"، تأليف: د. مدكور ثابت، القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992) حيث يتأكد خلاله موقفي الخاص من ربط الفن باللعب ضمن مقولة: "في كل الفن لعب لكن، ليس كل الفن لعبا".

وهكذا كنا قد أوردنا تلك الفرضية من زاوية أفلام الحركة بما يبرز العلاقة بين خصوصيات الزوايا المتنوعة المطلوب طرح وإبداع فرضيات بشأنها، وبين عمومية المستهدف استكشافه في طبيعة الفيلم المصري وتاريخه، أي دون أن يلغي زاوية الطرح التي انصبت عليها فرضيتنا الحالية عن الأديان والسينما المصرية، بل علي العكس، فإنهما تتكاملان وتثري كل منهما الأخري في إيضاح الإطار الأشمل.

وهنا فإن ثمة ملحوظة حول عنوان ملف "صورة الأديان في السينما المصرية"، إذ كان المفترض وفقاً لاقتراحي هذا العنوان لمؤلفه الأستاذ محمود قاسم، أن يكون العنوان إشارة إلي فرضيتنا التي نطرحها كما نوهنا لها، إذ كنت أقصد بصورة الأديان علي الشاشة: كل الظواهر، وكل الأنماط والأعراف وكل الطرق التي تتمظهر بها التفاصيل المتعلقة بدين من الأديان _ وعلي قمتها ديننا الإسلامي _ عندما تكون هذه التفاصيل واردة ضمن السرد الروائي للفيلم، أي فيلم، سواء أكان هذا التمظهر عبر الصورة والصوت أم عبر كليهما، أو كان نتاج ما تشير إليه العلاقات الروائية والدرامية وما إلي ذلك. وبهذا المعني قد يتضمن رصد هذه الصورة أشكال الانعكاس الفني للإيمان الديني نفسه وكذلك قيمه ومفاهيمه بما يؤثر في طبيعة المعالجة الدرامية للفيلم السينمائي.

لكننا لا نزعم أن الملف قد جاء طرحا لفرضيتنا، بل ليمثل ما اعتبرناه بداية مرجعية لاغني عن ضرورة توفيرها، إذ إن الأستاذ محمود قاسم قد آثر _ في المحصلة النهائية _ أن يكون بحثه محدداً بشريحة واضحة ومباشرة في تصنيفها، وهي التي يمكن تسميتها "الفيلم الديني"، الأمر الذي جعله يقدم نوعاً من الحصر لأفلام هذه الشريحة، بعد أن أسبقه بطرح مفهومه تحت عناوين: الدين في السينما العالمية، ملامح السينما الدينية، الأضرحة والمجاذيب، نداء الله، أهل التقوي، عقلانيون.. أم ملاحدة، حملة القرآن وآيات الله، غطاء الرأس أو الحجاب السينمائي، الدجالون والشعوذة، متطرفون ومؤمنون، العنف باسم الدين (الارهاب)، الحج، شهر رمضان، الاحتفالات الدينية، المسلمون والأقباط في السينما المصرية، ثم يأتي الحصر الذي قدمه محمود قاسم في فصول الباب الثاني متضمناً أفلام: ظهور الإسلام، انتصار الإسلام، بلال مؤذن الرسول، السيد البدوي، بيت الله الحرام، خالد بن الوليد، الله أكبر، رابعة العدوية، هجرة الرسول، فجر الإسلام، الشيماء شادية الإسلام، عظماء الإسلام، بالإضافة إلي فيلمين آخرين يضمهما في قائمة هذه الأفلام هما: مولد الرسول، وشهيدة الحب الإلهي.

لكن في مقابل هذا، فإننا لا نزال نؤكد أن أي كتاب ريادي في المجال الذي تقتحمه ملفات السينما فيما يتعلق باستكشاف السينما المصرية وتاريخها، لن يعدو كونه البحث/ المدخل، ولا يمكننا أن ندافع عنه باعتباره نهاية المطاف، ولكننا بالتأكيد نتحمس له باعتباره بداية، ومن هنا تنبع أهميته.

الفرضية الثالثة: (محور هيكل/ كريم وتيار فيلم زينب)

وجاءت فرضيتنا الثالثة حول ما اعتبرته الريادة والسيادة الكبري لتيار "زينب" (الفيلم) وأسميته "محور هيكل/ كريم، ومحلاها عيشة الفلاح علي الشاشة المصرية" من حيث ريادته التأثيرية علي التيار الأساسي للسينما المصرية منذ نشأتها، وهو تيار يبدأ أصلا من الأديب محمد حسين هيكل، مثلما يبدأ تجسيده السينمائي عبر صنوه المخرج محمد كريم، فمنذ أن ظهرت زينب هيكل صامتة علي شاشة محمد كريم، مرَّ أكثر من عقدين من الزمن علي نوع السينما المصرية التي تشربت بروحها التي يمكن أن توجزها باللحن والكلمات أغنية عبد الوهاب "محلاها عيشة الفلاح"، والتي تعادل كل أغاني السينما المصرية واستعراضاتها حتي لحظة ظهور "العزيمة"، الذي يرسم مجرد بادرة لصورة سينمائية مصنوعة وفقا لتفاصيل الواقع، دون أن تنفي تواصل تيار هيكل/ كريم، حتي عبر كمال سليم نفسه. ورغم وجود ربع قرن يفصل بين إنجاز كريم لزينب الصامت وبين إخراجه له ناطقا، إلا أن نظرته في الصامت إلي الحياة عامة، وإلي صورة الفلاح والريف خاصة، لن تفترق في الجوهر عن نظرته في الناطق، إلي درجة أننا نذهب في فرضيتنا إلي تطابقهما في "الغنائية"!! رغم صمت الأول، ولا عجب في مثل هذا التوصيف، لأن الغنائية كانت متحققة هناك عبر غنائية النظرة إلي الحياة، وبما لا يختلف عن غنائية النظرة/ الناطقة في زينب الثاني.. بل فيما بعد ذلك سنجد أن كل ما يبدو أنه مغاير لتيار هيكل وكريم، إنما لا يعدو كونه مجرد تنويعات في داخل الإطار نفسه.

دون أي تغيير في الجوهر، مثلما كان _ وظل _ هذا التيار يجد ترديده إبداعا في سينما بدرخان مثلا، عبر تنويعات علي ذات المحور، بل إنه هو نفسه المتحقق نظريا في الكتاب الشهير لأحمد بدرخان، والذي جاء وكأنه يجسد بدوره أنغام "محلاها عيشة الفلاح" لمحمد عبد الوهاب. إن ما تذهب إليه سطور تلك الفرضية، ربما يكون علي عكس ما اعتاده من يكتبون عن الفرق بين المتحقق في فيلم سينمائي وبين أصله الأدبي، إذ نجد أنفسنا هنا إزاء نموذج فريد في حالة توافق بين النصين (الأدبي والفيلمي) من ناحية، وفي تحققه وتحقيقه لتيار لا يتوقف من ناحية أخري، ذلك أن زينب الأديب هيكل هي النبع الأصيل لكل ما وصفت به السينما المصرية في التقييمات النقدية، سواء حول سنواتها الأولي، أو فيما يتعلق بالتيار الأساسي المتواصل إنتاجه فيما أسماه بعضهم بسينما التليفون الأبيض (تشبها بالاصطلاح الذي وصفت به السينما الإيطالية السابقة علي مرحلة الواقعية الجديدة).. فمنذ أن ظهرت زينب الأديب هيكل صامتة علي الشاشة، مر أكثر من عقدين من الزمن علي نوع السينما المصرية التي تشربت بروحها، أي روح تلك القصة التي جاءت علي الشاشة فيلما حقق _ بفضل كريم _ أروع نموذج للترجمة السينمائية الأمينة للتوجه الرؤيوي للحياة الذي تضمنته هذه القصة الأدبية.

ونحن عندما نختزل التيار في نموذج عبد الوهاب القائل بمحلاها عيشة الفلاح إنما نؤكد ما نذهب إليه من توصيف المتحقق لهذا التيار عندما يصبح عبد الوهاب نفسه طرفا أساسيا في الثنائي الشهير القائم عليه مع كريم، بل الأصح أن يصبح رأسا للمثلث ؛ لأنه يتحتم إبقاء محمد حسين هيكل قاعدة لهذا المثلث طوال الوقت، حتي رغم عدم حضوره الأدبي بعد زينب، أما عبد الوهاب فلن يبتعد عن ترددات التيار، فهو نفسه الذي يغني "حب الوطن فرض عليا" بأنغام تري الوطن بنفس رؤيته الغنائية لعيشة الفلاح، دون أن يكون امتدادا أو تطويرا _ من قريب أو بعيد ـ لبلادي سيد درويش مثلا، والقائمة - في أقل تقدير ـ علي حماسية إيقاع المارش.
أما في السينما، وعندما يحدث ما يبدو أنه التطور، من قبيل ما تظهر عليه سينما عز الدين ذو الفقار، إنما لا يخرج في حقيقته عن الترددات ذاتها، إذ حتي معاناة "الجنايني" في رد قلبي (والذي هو ليس فلاحا) تستدعيها هي أيضا إلي لب "محلاها عيشة الفلاح" أي إلي محور هيكل/ كريم ذاته الذي تعودناه يري جمال الريف دون أن يستغرقه تعقد حياة الفلاح الحقيقية، بل لا يراها في الغالب الأعم إلا كجزء من مكونات "الكارت بوستال" لهذا الريف/ المكان.

هذا.. إلا أننا عندما نعود إلي دعوتنا إلي طرح الفرضيات عن السينما المصرية خلال مختلف زواياها، ستتأكد لنا أهمية تلك الفرضية عن تيار هيكل وكريم لدي تكاملها مع زوايا الفرضيات الأخري، إذ هنا يمكننا أن نجد المدخل الذي طرحنا فرضيته عبر شريحة أفلام الحركة، كما سيبرز المدخل الذي طرحنا فرضيته حول التصور الفيلمي النابع من تعاليم العقيدة الدينية في المعالجات الدرامية، حيث لم يعد ثمة انفصال فيما تطرحه مختلف هذه الفرضيات، أو حتي ما سوف ينضم إليها منا أو من آخرين.. وحيث يمكن أن تتأكد وتتضح لنا الفرضية التي نطرحها في استكمال تقديمنا للمجلدين الجزأين: " الكوميديا "و" الغناء ".

الفرضية الرابعة: (سينما الفودفيل/ الكوميديا والغناء)

إن فرضيتنا الجديدة حول كل من الكوميديا والغناء، تستلزم التنويه بما عنيناه في تيار زينب/ هيكل/ كريم من حيث مفهوم " الغنائية " الذي نشير به إلي أحد معنيين:

ـ إما غنائية النظرة الفنية إلي الحياة، حتي لو لم يتضمن العمل الفني غناءً ملحونا، وهو ما أشرنا إليه في فرضية التيار المسمي محور هيكل/ كريم.

ـ وإما غنائية الأداء الملحن، والذي يتضمن الأغاني المصحوبة بالموسيقي، وهو ما تشير إليه فرضيتنا الرابعة حول قيام السينما المصرية علي أكتاف مسرح الفودفيل وتنويعاته التي نجد شروحها لدي مؤرخي المسرح المصري ونقاده، وحيث نجد أنفسنا أمام فرضية جديدة للبحث في الفيلم المصري، والتي أوردنا صياغتها قياسا علي سابقاتها الثلاث، بنص ما نتصورها به فيما يلي: "إن الفودفيل بعناصره هو الذي يشكل "عالم العمل الفني" في السواد الأعظم من الأفلام المصرية وفقا للعقد العرفي السائد بين السينما المصرية وجماهيرها العربية".

ومن الطبيعي أن نفهم المقصود "بعالم العمل الفني" باعتباره العالم المصنوع بالأداة السينمائية داخل الصورة وبأصواتها، وهو ما يدخل في إطار "اللعبة" المتفق سلفا علي لعبها مع الجمهور، خلال ما أسميته في أبحاثي "الافتراض الفني" الذي يتحقق بما نعتبره "العقد العرفي المسبق" بين هذا الجمهور والشاشة.

ولكي تتضح فرضيتنا الجديدة، يجب أن نتعرف الآن علي هذه المصطلحات الثلاثة التي تكون صياغة مفهومها:

1 ـ الفودفيل Vaudeville

وتبدأ لدينا أولي مفردات هذه الفرضية وأهمها متمثلة في مسرح "الفودفيل" الوارد هنا لتوصيف الشريحة الأوسع في حقبة كبيرة من تاريخ الفيلم المصري.

فإذا تجاوزنا الترجمة اللفظية، وما قد تثيره من التباس أو غموض، ثم انتقلنا إلي التعريف ذاته، فسنجد أن الفودفيل تعبير يطلق علي ملهاة الترفيه والتسلية، وهي مزيج من الرقص والغناء والحوار الفكاهي والحركات المضحكة التافهة الموضوع المحكمة التعقيد، الهزلية الأسلوب، وهي لا تتحرج من إرسال النكتة المقذعة، وقد نشأت في أواخر القرن الثامن عشر، في السنين التالية للثورة الفرنسية مباشرة، ثم انتشرت في المسارح في بداية القرن العشرين، وهي أشبه ما تكون بالمنوعات الراقصة والغنائية، التي تظهر عادة بين الصخب والتهريج في الملاهي الليلية، كما ظهرت في السينما الناطقة، في مرحلة الثلاثينيات، كما هي الحال في معظم الأفلام الاستعراضية الراقصة.

ولعل هذا هو ما شجعنا علي اللجوء إلي مصطلح "فودفيل" ذاته عند تعرضنا للشريحة الغالبة علي الفيلم المصري في حقبة كبيرة من تاريخه، وهي الشريحة التي تنطبق عليها مكونات هذا الفودفيل من كوميديا ورقص وغناء وموسيقي واستعراضات ومونولوجات وأكروبات.. إلخ. لقد ظلت السينما المصرية منذ نشأتها تطبق أنماط النجاح المضمون والمجرب في المسرح المصري السائد من قبلها، فاستلهمت منه عناصر "الفودفيل" (كوميديا/ رقص/ غناء/ مونولوج/ أكروبات/ تهريج) الذي سهل بدوره الطريق لمبدعي الأفلام في اتجاه التمصير والتعريب للمقابل نفسه في هذا النوع من الأفلام الأجنبية عامة والأمريكية خاصة، بل عبر جميع العناصر، سواء أكانت في الغناء أم الرقص أم الكوميديا أم الموسيقي.

ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، إذ إن من المعروف أن السينما عندما تنشأ في بلد ما، إنما تنشأ علي أكتاف السائد من فنون مرحلة هذه النشأة، وعلي رأسها المسرح باعتباره أقرب فنون العرض والفرجة إلي حالة العرض والتلقي السينمائي، وهو ما يفسر لنا اتساع تلك الشريحة الكوميدية والغنائية في إنتاج السينما المصرية منذ ترعرع حالتها التجارية، ومواصلة انتعاشها الجماهيري، حيث كانت الكوميديا والغناء والرقص تلعب الدور الكبير في ساحة المسرح المصري (يمكن الرجوع في ذلك إلي كتاب "الكوميديا المرتجلة" للدكتور علي الراعي)، وتلتقي فرضيتنا هنا _ جزئيا _ مع فرضية عبد الحميد حواس القائلة "إن الثقافة الشعبية في مصر هي التي أقام عليها الفيلم المصري بناءه الفني وأساليبه الخاصة"، وبدليل أن هذه السينما وصناعتها الناشئة قد اعتمدت منذ بدايتها اعتمادا كاملا علي النجوم الذين ارتبطت أسماؤهم بالمسرح أصلا، إضافة إلي أنه التيار المؤثر ذاته من حيث نوع السينما الأجنبية التي كانت تعرض في مصر، والتي أصبحت هدفا لما يعتبر تعريبا وتمصيرا. 2- الافتراض الفني _ و _ عالم الفن عالم افتراضي

عندما تقودنا صياغة الفرضية الرابعة عن الفيلم المصري إلي جزئية في صياغتها تشير إلي ما يسمي "عالم العمل الفني" باعتباره المتشكل في حالتنا هذه_ أي حالة الفيلم المصري _ عن طريق ما تعرفنا عليه باسم "الفودفيل" فإننا يجب أن نتعرف أولا علي كل من المفهوم والمصطلح اللذين تحددا في بحث سابق لي حول العمل الفني السينمائي عامة، دون أن يكون المقصود به تخصيصا لفيلم مصري أو أجنبي، بل هو العمل الفني أساسا علي إطلاقه، حيث نقف عند حقيقة مهمة مؤداها أن "العالم الافتراضي" هو عالم العمل الفني في مقابل "عالم الواقع"، أي بما يميزه عنه تمييزا كاملا، وبما يعبر عن استحالة أن يكون عالم العمل الفني واقعيا، ومن ثم فهو "عالم افتراضي" لا يمكن البحث فيه عن "واقعية" ما مهما بلغت النيات والقصديات إلي ذلك، حيث لا تعدو كونها فرضا قسريا.

تلك في الأصل هي حقيقة التعامل في التلقي إزاء كل فنون العرض، ومن ثم فهي الحقيقة التي تسمح بمساحة لا نهائية من "التلاعب الإبداعي" في إطار منطق اللعبة/ الفن/ الفيلم، وعبر كثير من المستويات الفنية، بصرف النظر عن التقييم الجمالي والنقدي النهائي لأي منها.. إنها فقط حقيقة، ومن ثم يستثمرها الفيلم المصري وفقا لمناحيه الخاصة، والمحددة في هذه الفرضية بفودفيل الغناء والرقص والاستعراض والمنولوجات.. إلخ، ومن ثم فهو اتفاق عرفي يتوجب فهمه. وبتعرفنا علي المفردات التي تنهض علي أساسها صياغتنا للفرضية الجديدة حول الكوميديا والغناء، يمكننا أن نري هذا الفودفيل وقد شكل "عالم العمل الفني" للفيلم المصري، باعتباره العالم الذي اعتادت الجماهير استقبال منطقه بالافتراض الفني، عبر عقد عرفي أصبح سائدا بين السينما المصرية وجماهيرها العربية.

وبهذا المفهوم سوف يتحقق تكامل الفرضيات الأربع، مكونا المغزي الأساسي، فيما يمكن أن يعتبر فرضية واحدة تضم شقي الإبداع في الفيلم المصري: أي نوع المعالجة الفنية، وشق النظرة إلي الحياة. (نلتقي العدد القادم).

القاهرة المصرية في 29 مارس 2005