شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

كوميديا سوداء ومواقف طريفة وبصيص أمل في نهاية النفق المظلم

هادي ماهود في فيلمه التسجيلي الجديد العراق وطني

عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

 

قبل خمس وعشرين سنة علي وجه التحديد، فاز هادي ماهود بجائزة أفضل مخرج في المهرجان الأول لأفلام الشباب عن فيلمه الموسوم بائع الطيور ، وتنبأ له في حينه المخرج الكبير محمد شكري جميل بأنه سوف يكون واحداً من أهمّ مخرجي السينما العراقية في المستقبل، غير أن العمل الإبداعي في عراق الدكتاتورية سابقاً كان مقروناً بشروط مسبقة تقيّد دائماً من مساحة الحرية المتاحة، وتنشّط بالمقابل من دور الرقيب. ومع ذلك فقد جازف هادي ماهود وأخرج فيلم الساعة 1800 الذي يتحدث عن سقوط طائرة سمتية عراقية في الأراضي الإيرانية، وإصرار قائدها علي الوصول إلي الأراضي العراقية للالتحاق بالجيش العراقي واستئناف القتال من جديد، غير أن قناعات هذا الطيّار تتبدل، ويكتشف أن هذه الحرب ليست أكثر من لعبة قذرة تحرّكها الأصابع الخفيّة. وحسناً فعل النقاد السينمائيون حينما رفضوا الكتابة عن هذا الفيلم، وتجاهلوه تماماً، لأن أية قراءة نقدية فاحصة كانت ستسلط الضوء علي تبدّل قناعات هذا الطيار بمفهوم الحرب التي يخوضها ضد الإيرانيين، وعدم استعداده للموت من أجلها، الأمر الذي سيفضي بالنتيجة إلي ما لا تُحمد عقباه. ولو لم يكن هذا المخرج جريئاً، ومجازفاً لما أقدم علي إخراج فيلم الغريق مدته 45 دقيقة، وهو فيلم روائي استشفه من ملفات الشرطة العراقية التي لم تكن تتيح لأحد أن ينقّب في أدراجها السرّية، ثم يكتشف التفاصيل الدقيقة لجريمة القتل المروّعة التي حدثت في المدينة، ويصنع منها فيلماً ناجحاً علي الصعيدين الفني والأخلاقي في ظل ظرف سياسي مرتبك. وحينما غادر العراق مضطراً إلي السعودية بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وضعناه في قائمة المخرجين المنفيين قسراً، والذين ستتحدد حركتهم بسبب اقتلاعهم من الجذور، ونأيهم عن الوطن الذي يشكّل الفضاء الحقيقي الذي لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للسينمائيين تحديداً. وفي المنفي الأسترالي البعيد أخرج فيلم عاشوراء المبني بناء محكماً علي الواقعة الكربلائية الشهيرة، ثم أخرج فيلم جنون ونال عنه عام 2004 جائزة أفضل فيلم تلفازي يتحدث عن العنف العائلي لكن هادي ماهود لم يكن سعيداً بهذا الفيلم القائم علي قصة أسترالية، وممثلين أستراليين، وبيئة أسترالية. كان هادي يريد أن ينغمس في صناعة أفلام عراقية، ولا بأس أن تكون عن العراقيين في منافيهم المتعددة، لذلك فقد أخرج، علي رغم ضيق ذات اليد، أفلاماً روائية وتسجيلية شديدة الأهمية، سأتوقف عندها تباعاً في دراسات نقدية قادمة، ومن بينها تراتيل سومرية الذي تمحور حول تجربة الشاعر العبثي غيلان ، كما رصد علاقة أبناء اللاجئين العراقيين بالثقافة الأسترالية الجديدة بالنسبة لهم. ولأن هادياً معنّي بكل أطياف الشعب العراقي فقد سلّط الضوء علي الطقوس الصابئية المندائية العراقية التي تعيش في أستراليا من خلال فيلم عرس مندائي ، وربما يكون الفيلم الأكثر إثارة هو سندباديون الذي كرّسه لبعض الناجين من كارثة غرق المركب الذي راح ضحيته أكثر من 350 عراقياً من مختلف الأعمار في مياه المحيط الهندي المحصورة بين أندونيسيا وأستراليا ولم يحرّك خفر السواحل لكلا البلدين ساكناً لإنقاذ هؤلاء الغرقي وإنما تركتهم يواجهون مصيرهم المحتوم بين جبال من الأمواج المتلاطمة.

حبكة الأحداث بين فن الاستهلال ودلالة الخاتمة

بعد سنة من سقوط النظام في بغداد حمل هادي ماهود كاميرته واتجه صوب العراق علي أمل العودة ثانية إلي منفاه الأسترالي، وقد شرع في التصوير منذ خروجه من شقته الأسترالية، مروراً بطريبيل الخاوية، وببغداد ممزقة الأحشاء، وانتهاءً بالسماوة، المدينة التي ستلعب دور البطولة في فيلمه التسجيلي الجديد العراق وطني موضوع بحثنا ودراستنا النقدية. لا بد من الإشارة إلي أن هذا الفيلم الذي اشترك في مهرجان لاهاي الثاني للفترة من 18 ولغاية 20 اذار (مارس) 2005 كان من أهم الأفلام التسجيلية التي كشفت الواقع العراقي وعرّته تماماً في ظل الاحتلال الانكلو ـ أمريكي للعراق. ومن بين العناصر الفنية ساعدت علي إنجاح هذا الفيلم هو حبكة القصة السينمائية بالرغم من أن المخرج لم يكتب سيناريو الفيلم حتي بعد التصوير، إذ اعتمد علي حدوسه الداخلية في صياغة هذه القصة التي أقنعت المشاهد، ووفرت له عنصر المتعة، والمعلومة، والإدهاش. وعلي رغم وجود عنصر المصادفة في صياغة الملامح الأولية للفيلم، إلا أن هادي ماهود أمسك بهذه المصادفة وجيّرها لمصلحته الفنية. فبائع الرصاص، الطفل الذي لم يجتز عامه الثاني عشر، ويمتهن مهنة غريبة لا تتناسب مع سنه الصغير هو الذي يقود المخرج إلي عوالم لم تكن معروفة، ومكتشّفة بالنسبة إليه. وأن هذه الرحلة التي تبدأ من بائع الرصاص إلي سوق الأسلحة، ثم إلي معمل الإسمنت، ومنه إلي القطعات الأمريكية، ثم إلي مركز الشرطة العراقية، ومنه إلي سجن مديرية الأمن في المحافظة، وبعد ذلك إلي أحد تكتلات الصدر وأسلوبها العنيف في مهاجمة مقر حركة الوفاق الوطني ثم تسليط الضوء علي عدد من التجمعات الريفية والمدينية، وانتقاد أداء المحافظ الذي عيّن أفراد عشيرته آل حسان في الوظائف الرسمية، وأهمل أبناء المدينة قاطبة معيداً إلي الأذهان هيمنة أبناء قرية العوجة علي مختلف الوظائف الحساسة في الدولة العراقية، غير أن العوجة قد انتقلت هذه المرة إلي محافظة السماوة، وهي إشارة واضحة إلي الفساد الإداري في المحافظات العراقية كلها من دون استثناء. كما لاحقت كاميرا هادي ماهود المظاهرات التي اندلعت منددة بسياسة المحافظ، ومطالبة بحياة أفضل علي الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وقد تأطرت هذه الوقائع والأحداث بين بداية موفقة، وهي مجلس الفاتحة، وطقوس المأتم الجنوبي الذي تهيمن عليه لعلعة الرصاص، وبين النهاية الأكثر نجاحاً ودلالة وهي مشهد الزفاف. فهذا المخرج الذي عاد إلي العراق في ظل هذا الظرف الاستثنائي من أجل أن يصور أحداث فيلمه، ويعود ليمنتجه في أستراليا قد قرر البقاء في مدينة ومسقط قلبه مؤكداً لنا بأن بصيص الضوء لا بد أن يكون موجوداً في نهاية النفق . هذا البناء المحكم هو الذي أمدّ الفيلم بعنصر قوة إضافية، فضلاً عن عناصر النجاح التي كانت موجودة في الفيلم، وتميزت بحبكتها القوية المقنعة، وتسلسلها المنطقي المدروس الذي ينفي عفوية هذا التصوير وعشوائيته كما حاول المخرج أن يؤكد ذلك غير مرة.

البناء الفني للشخصية السينمائية غير المحترفة

حينما يقرر المخرج أن ينتقي شخصية محددة لم تحترف التمثيل السينمائي من قبل لا بد أن يضع في ذهنه بعض التصورات التي ستثري هذه الشخصية التي تنتمي إلي شريحة اجتماعية محددة. والذين يعرفون المخرج هادي ماهود عن كثب يدركون تماماً أنه ميّال إلي الرصد والتحليل، فهو لا يصور لحظات عابرة لا تنفع سياق الفيلم، وإذا ما صوّر هذه اللحظات العابرة فإنه يعرف كيف يلتقط منها المواقف المعبرة، والطريفة، والدالة. صحيح أنه يميل إلي تصوير الناس البسطاء، ولكنه يصطاد لحظات التوهج النادرة، مثلما يقتنص لحظات الصدق الإنسانية العظيمة، ولا يهم أن يكون الإنسان بسيطاً أو ساذجاً أو غير متعلم، فلحظات البراءة، والصدق الإنساني النبيل قد تتوفر في الإنسان البسيط أكثر من توفرها في إنسان مثقف لعوب. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه يسأل المخرج مواطناً بسيطاً عن رأيه بالحكومة الجديدة وإن كان يريد تهنتئها أم لا: فيجيب بسرعة وعفوية: نهنئ الحكومة الجديدة ورئيسها الجديد.. ثم يتوقف مستفسراً من أحد المتظاهرين أكلك شمسه الريس الجديد؟ وهو يعني ما اسم الرئيس الجديد؟ . وإذا ما دققنا في تفاصيل الفيلم الذي يحتاج إلي أكثر من دراسة فسنجده مزداناً بشخصيات عميقة، وثرية، ومن المفيد أن نتوقف عند شخصية مجيد المجنون، هذه الشخصية التي يعرفها أهالي مدينة السماوة أكثر من غيرهم، ويعزون سبب جنونه إلي فشله في الزواج من الفتاة التي أحبها في ستينات القرن الماضي، فاختلت قواه العقلية جراء هذه الواقعة التي ذهبت بعقله، وصار ضحية لموجات من الجنون التي تنتابه بين أوان وآخر. قد تكون هذه المعلومة مفيدة، لكن الشيء الأكثر فائدة هو أن المتلقي كان يشاهد شخصاً مجنوناً يتحدث بأسلوب مليء بالحكمة، ومرصع بالأقوال المأثورة. هذه الأحاديث المعبرة، والساخرة التي ترقي إلي مستوي الكوميديا السوداء أحياناً ناجمة عن وعي معرفي شديد. وحينما سألت المخرج عن هذا المجنون قال إنه كان يقرأ كثيراً في أويقات صحوه وهدوئه النفسي، وذات مرة صوّره المخرج وهو يتلو عن ظهر قلب معلقة عمرو بن كلثوم التي تنوف علي المئة بيت من الشعر، ويتحدث في الشأن السياسي والاجتماعي للعراق وبعض الدول المهمة في العالم. فالإنسان بالنسبة لهادي ماهود ليس المثقف فقط أو الذي يعقد ربطة العنق، أو الثري الغارق في عالمه الأثيري، بل أن حصة الإنسان العامل، والفلاح، والموظف البسيط، أو حتي المهمّش أو المعتوه، أو المقصي عنوة من المجتمع العراقي هي أكثر من حصة الإنسان المثقف، أو المترف، أو الوجيه، فلا غرابة حينما نسمع أن هادي ماهود كان قد قرر سابقاً أن ينجز فيلماً كاملاً عن هذا المجنون مجيد كما أنجز فيلما كاملاً عن الشاعر العبثي الجميل غيلان لكنه اكتشف أن هذا المجنون هو أحد شخصيات مدينة السماوة، وطالما أن السماوة هي البطلة في هذا الفيلم فلا بأس أن يكون مجيد أحد الشخصيات التي تدور في فلك المدينة التي قوضتها الحرب، وأربك حياتها اللصوص وقطاع الطرق الذي نهبوا كل شيء بما فيها معدات معمل الإسمنت الثقيلة. في مفتتح الفيلم أراد هادي أن يقول لنا أن هناك عزاءً كبيراً في العراق، وأن المحن قد امتدت لتشمل أغلب البيوت العراقية، لكنه من جانب آخر أراد أن يكشف لنا طبيعة هذا الشعب المدجج بالسلاح، وما يمكن أن تفضي إليه من نتائج خطيرة. طفل ما يشهر مسدسه في محطة الوقود علي العامل فيلقي عليه القبض من قبل أفراد الشرطة، وأخ يردي أخيه قتيلاً، ومسلسل الدم يبدو لا نهاية قريبة له. من الغريب أن الناس الذين لا مأوي لهم باتوا يقيمون في سجون المحافظة، بل في غرف التعذيب التي كانت جدرانها الصماء شاهداً علي حجم الألم العراقي المسكوت عنه. أناس يسكنون المدارس والدوائر الحكومية، وأطفال يبيعون الرصاص ويتاجرون بالأسلحة، وشبح دكتاتوريات جديدة تهيمن علي الأفق، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد في بلاد الرافدين. ومع كل هذه الأوضاع السلبية، والظواهر المستهجنة إلا أن كاميرا المخرج هادي ماهود كانت ترسم طريقها إلي الأمل، وربما يكون مشهد زواج المخرج نفسه، والذي قرر العودة النهائية للعراق، هو بصيص الأمل الذي نرنو إليه جميعاً، عسي أن تكبر كوّة الخلاص لتضم العراق من أقصاه إلي أدناه، وتحيطه بالعناية الفائقة التي تحرّك الدماء في شرايينه المتصلبة.  

ناقد من العراق يقيم في امستردام

القدس العربي في 28 مارس 2005

تيار السينما الجديدة في تونس

عدنان حسين أحمد 

هذه دراسة لثلاثة أفلام روائية طويلة وهي (رقصة الريح) للطيب لوحيشي, و(باب العرش) لمختار العجيمي, و(الأمير) لمحمد الزرن, وفيلم روائي قصير هو (الفيزا) لإبراهيم اللطيف الذي انتزع التانيت الذهبي للأفلام الروائية القصيرة عن جدارة, وهي نموذج لتيار السينما الجديدة التي تعيشها السينما التونسية هذه الأيام.

تقترن تجربة المخرج التونسي الطيب لوحيشي بالمغامرة دائما, فهو لا يطمئن إلى النَفَس السائد, ولا يميل إلى تقليد التجارب المكرورة أو اجترارها لأنها لا تنطوي على شيء جديد, فالكشوفات لا يمكن أن تتجلى في الأشياء المطروقة أو المُنجزة أو التي سبق إنتاجها. والمبدع, في أغلب الأحوال, شخص مجازف لا يجد راحته إلا في ارتياد المناطق الخطرة حيث ينصب فخاخه لكي يصطاد الدهشة. والطيب لوحيشي هو نموذج مجازف راهنَ منذ بدايته الفنية على الخطاب الجمالي البصري الذي يوفّر متعة الصورة, وما تشتمل عليه من مضامين فكرية تأخذ طابعا سرديا يحكي قصة, أو رواية, أو ربما (حدوتة) ما. لم يضع لوحيشي في ذهنه قط (شبّاك التذاكر) بالرغم من أن السينما هي (فن, وصناعة, وتجارة في كثير من الأحيان)! لأنه لم يستجب للتوصيف الفج القائل إن (الجمهور عاوز كده). هذا النمط من الجمهور لم يفكر به لوحيشي قط لأن معادلته الفنية قائمة على التجريب, والتجديد, والتحدي, وركوب الأهوال, ويمكن للمعنيين ومحبي الشأن السينمائي أن يتأكدوا من هذا النزوع من خلال متابعة تجربته السينمائية التي تحقق بعضها, بينما ظل الجزء الأكبر أسير المخيلة, أو حبيس الأوراق. ففي عام 1972 أخرج فيلم (قريتي, قرية بين القرى) وهو شريط قصير نال التانيت الذهبي للأفلام القصيرة في أيام قرطاج السينمائية للعام ذاته. ثم أردفه بـ (ظل الأرض) عام 1982 وهو شريط طويل فاز بالعديد من الجوائز. ثم أنجز فيلم (غوري, جزيرة الجد) عام 1987 ونال جائزة التحكيم الخاصة في الجزائر. كما نال فيلم (مجنون ليلى) ش. ط عام 1989 جوائز مهمة في ميلانو وأجادوجو, ونال شريطه الطويل (عرس القمر) عام 1998 جوائز عالمية في كل من باري ومونتريال وجوهانسبورغ. أما فيلمه الأخير (رقصة الريح) الذي أنجزه عام 2003 فقد أثار انتباه النقاد والمعنيين بالسينما الجادة. فهّم لوحيشي لا يكمن في تسلية المشاهد لأن تجربته السينمائية تبحث (عن رؤى مختلفة تثير أسئلة عميقة) على حد قوله.

تخيّل بعض النقاد أن تيمة فيلم (رقصة الريح) تنطوي على الحوشية والتغريب غير أن حقيقة الأمر ليست كذلك, فالغرابة تكمن في المعالجة أو طريقة التعاطي مع الفكرة الأساسية التي كانت تدور في ذهن كاتب النص ومخرجه, وهو الذي تمكّن من ليّ عنق التيمة, وروّضها لمصلحته الفنية والإبداعية, فالمخرج يتحوّل في هذا الفيلم مُضطرا إلى تأدية دور الشخصية الرئيسية في الفيلم بعد أن تاه في مضارب الصحراء التونسية مترامية الأطراف. ولكي نحيط القارئ علما بتفاصيل اللعبة الفنية لابد أن نعرّج قليلا على مضمون هذه الفكرة التي تتعلق بالجانب الإبداعي, بطل الفيلم هو مخرج يُدعى (يوسف) أدى الدور المخرج الجزائري المعروف محمد شويخ, في الخمسين من عمره يقوم باستكشاف ومعاينة منطقة صحراوية في الجنوب التونسي من أجل تصوير فيلمه الجديد. وخلال الطريق إلى المنطقة الصحراوية يلتقط صورا عديدة لأناس مجهولين يلتقيهم مصادفة. ولعل أجمل الصور تلك التي التقطها للراعية الحسناء (جازية) التي جسدتها الفنانة هيفاء بوزويتة, وستلعب جازية دورا مهما في ثنائية (التجلي والاختفاء). في منطقة مجهولة من الصحراء تتعطل سيارة المخرج فيجد نفسه ضائعا في اللامكان, ثم ينهمك في البحث عن سبيل للخلاص فلا يرى حوله سوى متاهات من كثبان الرمل, يتحرك مسعورا صوب الجهات الأربع, لكنه يكتشف أن سيارته قد أصبحت نقطة الاستدلال الوحيدة لديه, وبين لحظات الاهتياج والسكينة يكشف لنا (مخرج الفيلم وبطله الفعلي) عن بيوت دارسة, ومشاهد صحراوية عذراء, شديدة الجمال, لا علاقة لها بالتوثيق أو تحفيز الهاجس السياحي, لأن هدف المخرج هو تقديم صور فنية بحق تستنطق الواقع الشعري الذي يشتمل على كم هائل من اللوحات التشكيلية التي كانت مخفيّة عن النظر, لكن عين الكاميرا (الديجيتال, وليست الكاميرا السينمائية) التي تنكبها لوحيشي, هي التي فضّت أسرار الصحراء في الجنوب التونسي الذي يعرفه عن كثب. ولم يهمل التيمة أو الفكرة الرئيسية التي تحتوي على مناحٍ متعددة واقعية, وشاعرية, وصوفية من خلال التفنن في اللعب على ثنائية الحلم والحقيقة. تتحول سيارته المعطوبة إلى ملاذ آمن, وملجأ للمقاومة والصمود. ففي جوف هذه السيارة ثمة قناني ماء, وعلب بسكويت مبعثرة هنا وهناك, ورزم كثيرة من أوراق السيناريو, وصور, ومستلزمات الكتابة. لابد لهذه الزوّادة من أن تنفد بعد أن فشل مساعده وكاتبته في العثور عليه, وإمعانا في الشد والتشويق نراه في خاتمة المطاف يمتص مضطرا ماء (الراديتر) العكر لكي يظل على قيد الحياة! بين آونة وأخرى تقوده قدماه إلى بنايات خربة, موحشة فيتخذ منها ملاذا للتأمل والتفكير في محاولة مستميتة للخروج من مأزقه أو التأمل في فيلمه الذي أفضى به إلى هذه المتاهة. وفي الوقت ذاته ينطلق مساعده وكاتبة النص للبحث عنه, فيتيح لنا من خلال ذهابهما وإيابهما في اتجاهات متعددة مشاهد آسرة الجمال يراها المخرج أو يتخيلها, كما يرسم هو في الوقت ذاته ملامح شخصيات تظهر أمام ناظريه, أو يتوه فيها شيئا فشيئا حتى يدرك في النهاية من خلال شطحاته, ومخيلته المتأججة أنه هو الشخص أو الفنان الذي يقوم بدور البطولة في (رقصة الريح)! هذا الفيلم محتشد بالرموز والإشارات, فالمخرج المحاصر في قلب الصحراء خائف, وقلق, قد يدهمه الموت في أي لحظة لكن إصراره السيزيفي قد أمدّه بالأمل مستعينا بكل أدوات المقاومة النفسية, ومسترجعا شطحات الحلاج والنفّري كي تعينه على المضي قُدما في مغامرته وتجاوز الصعوبات الجدية التي بدأت تلتف كالأنشوطة حول عنقه.

باب العرش

رسّخ بعض السينمائيين التونسيين ما يسمّى بـ (أفلام الموجة الجديدة), هذا التيار, على الرغم من محدودية انتشاره, خلّف بصماته الواضحة على السينما التونسية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ويمكن لنا أن نتتبع أفلام هذا التيار من خلال نماذج مميزة في السينما التونسية نالت إعجاب النقاد, وحصدت الجوائز, وحظيت باحترام الجمهور وتقديره لما تتوافر عليه من خطاب سينمائي جديد يشتمل على مضامين جادة, ويتضمن لغة بصرية جميلة قادرة على شد المتلقي, وإمتاعه, وتفعيل حضوره بوصفه متلقيا عضويا يشارك في صناعة الحدث أو يتماهى في التيمة التي يطرحها الفيلم في الأقل.

وقد أجمع النقاد والمشاهدون معا على أن (باب العرش) هو فيلم جريء, وقد تجلت هذه الجرأة في العديد من اللقطات والمشاهد سواء تلك التي قدّمتها الفنانة زهيرة بن عمار التي جسدت شخصية (ريم) بنت الجيران, أو المشاهد الأخرى التي يظهر فيها (حميد) وصديقه الحميم (إلياس) في أجواء لا تخلو من الإثارة والتحريض. وملخص القصة مفاده أن حميد (محمد علي بن جمعة) هو صحفي شاب تعدى الثلاثين من عمره غير أنه يرفض الولوج إلى المؤسسة الزوجية, ولا يرضى بالزواج من ابنة الجيران (ريم) تلك الفتاة التي تنتمي إلى جو برجوازي بعض الشئ, ولكنه يذعن لمشيئة أسرته, ويستسلم لإلحاحها الشديد, ظنا منها أن هذه الزيجة ستخرجه من عزلته, وتنقذه من الجو النفسي الخانق, والأزمات الذهنية المتلاحقة التي تفضي به إلى القلق الدائم, والاضطراب المستمر الأمر الذي يدفعه في خاتمة المطاف إلى العزوف عن عروسته, والهروب في ليلة زفافه! لقد قدّم لنا المخرج مختار العجيمي, وهو كاتب السيناريو نفسه, شخصية حميد بطريقة مهلهلة, وغير مقنعة تماما. فهل يعقل أن ينصاع في هذا الزمن شاب في مقتبل حياته, ويتخذ من الصحافة التي توصف بـ(مهنة المتاعب الجميلة) مهنة له, ويذعن للزواج من بنت الجيران لمجرد إرضاء نزوات أهله ورغباتهم العابرة?. ثم إن بعض مقالات حميد كانت تُرفض من قبل هيئة التحرير بسبب جرأتها, وحساسية تعاطيها مع موضوعات ساخنة, وكان حريًا بالمخرج أن يعمق هذه النقطة الجوهرية, وينّميها خدمة لتصاعد الأحداث, وتطويرا لمسار الفيلم. لقد أثارت المشاهد الجنسية الصريحة ردود أفعال شديدة لمسناها في الندوة التقييمية التي أعقبت عرض الفيلم في اليوم الثاني غير أن العجيمي أصر على تبرير أهمية هذه المشاهد بالقول (إن الفكرة الرئيسية للفيلم تدور حول حرية التعبير التي لن تتحقق ما لم يتحرر الإنسان من مختلف العوائق التي تكبل جسده وعقله). لم يستسغ بعض الذين اشتبكوا معه في حوار ساخن عبارة (حرية التعبير) لأنها مقترنة بالحرية الفكرية والسياسية التي لم يركز عليها الفيلم كثيرا, وإنما انصّب تركيزه على الهاجس الجنسي. ثم مضى العجيمي إلى القول بأن (موضوع الفيلم خطير وجريء وليس من النمط المعتاد, فهو يفضح بشكل مباشر وغير مباشر المسكوت عنه في تونس وغيرها). بعض النقاد عابوا على المخرج (مبالغته الشديدة في إظهار عجز بطل الفيلم على المستوى الجنسي والفكري) كما انتقدوا الفنانة زهيرة بن عمار على قبولها ببعض المشاهد الجارحة للذوق العام. غير أن زهيرة تصدت لهذه الآراء وأعلنت عن (قناعتها التامة بفكرة الفيلم, وأسلوب المخرج, وطريقة أدائها المنفتح الذي لا يعير بالا للمعايير والتصورات الأخلاقية البالية), فالمهم بالنسبة لها أن أداءها للدور كان جديدا, ولا يتطابق مع أدوارها السابقة, كما نجت تماما من فخ التكرار الذي يبعث على الرتابة والملل. ورأى الناقد السينمائي التونسي سالم بن يحيى (أن المخرج لم يقتصر على الغوص في مواضيع صارت بمنزلة قوالب جاهزة, ولكنه قدمها بأسلوب فظ أساء به للتونسي). وبالمقابل فقد أشاد الناقد حسن عليلش, منشِّط ندوات المهرجان كلها, بالفيلم ووصفه بأنه (جريء وثري وواقعي بالرغم من أنه مؤلم ومقلق, لأنه لا مكان فيه للمجاملة).

الأمير والواقعية الشاعرية

مساء اليوم الثاني من أيام قرطاج السينمائية لهذا العام احتفت صالة ( Le Colisee) الشهيرة بعرض الفيلم الروائي الطويل (الأمير) للمخرج التونسي المعروف محمد الزرن الذي سبق أن فاز فيلمه الروائي الطويل (السيدة) بجائزة أول عمل سينمائي مناصفة مع فيلم (زمرة الطرقات المعبدة) للمخرج الزائيري جوزي لابلان عام 1996. وقبل بدء العرض الاحتفائي بهذا الفيلم الذي استُبعد من المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة لإتاحة المجال لفيلمين تونسيين آخرين اعتقد بعض القائمين على المهرجان أنهما أفضل من الناحيتين الفنية والفكرية لتمثيل تونس في المسابقة وهما (باب العرش) لمختار العجيمي و(كلمة رجال) لمعز كمون, بينما رأى البعض الآخر من النقاد أن أصحاب القرار في تمثيل تونس في المسابقة الرسمية قد ضيّعوا سانحة الحظ لتتويج السينما التونسية بواحدة من جوائز المهرجان المهمة عندما ركنوا فيلم (الأمير) جانبا. قبل بدء العرض ارتقى المخرج محمد الزرن المنصة واقفا بقامته المديدة, ورأسه الحليق, أمام جمهور غفير ملأ القاعة بطابقيها, مُعربا عن حزنه العميق لاستبعاد فيلمه من منهاج المسابقة الرسمية, ومع ذلك فقد آثر أن يقدّم بعض ممثليه وعلى رأسهم الأمير (عبدالمنعم شويّات) وعشيقته في الفيلم الفنانة (سنية منقعي). ثم قال عن الأمير (إنه أمير الشارع الذي يحكي عنا كلنا), وأضاف قائلا (إنه روح الحرية, فالشخص الذي لا يحلم لا يمكن له أن يفكر. اليوم في العالم هناك الكثير من الحروب والآلام جعلت الحلم في خطر. بينما يقول الأمير: أستطيع أن أحقق شيئا ما, أن ألامس شيئا ما, هذا الشيء هو حريتي).

يتمحور فيلم (الأمير) حول قصة شاب تونسي فقير, ينتمي إلى الطبقة العاملة, فهو بائع, ومنسّق زهور يعمل في أحد (أكشاك) بيع الزهور الكائنة في شارع الحبيب بورقيبة, أحد الشوارع الحيوية في العاصمة تونس. يقع هذا الشاب الفقير ماديا في حب امرأة جميلة مطلقة تعمل مديرة لأحد البنوك. وعلى الرغم من اكتشافنا للقناعات المسبقة التي يؤمن بها المخرج محمد الزرن والتي تسيّد الحب على الفوارق الطبقية, فإننا نعترف بأن المخرج, وهو كاتب السيناريو أيضا, قد نجح في وضعنا أمام شاب مأزوم, أخذت أزمته تتفاقم, وتتصاعد دراميا كلما تقدّم بنا الفيلم إلى أمام, وهذا التأزّم, والشد, والتشويق قد ساعد في تخليص الفيلم من رتابته. فالقصة لم تكن مُملة تماما وإن انطوت على بعض الحشو والمواقف الزائدة التي كان على المنتج أن يشذبها جيدًا. ومن أبرز محاور الشد أن هناك سرا لم يُكشف إلا في اللحظات الأخيرة من الفيلم, وهذا السر هو: مَن الذي يجلب باقات الورد غير الموقعة إلى هذه السيدة الثرية,الجميلة, التي تحوم حولها الكثير من العيون النهمة? وربما يكون من عناصر التشويق الأخرى هو جرأة هذا الشاب الفقير الذي لا يملك سوى عمله, وأسرته المتواضعة التي سنتوقف عندها لاحقا والذي يكشف عن هذا السر, ويتحدى العجرفة البرجوازية معوّلا على كسب هذا الصراع الطبقي بمختلف أشكاله وتمظهراته الاقتصادية, والاجتماعية, والفكرية من خلال تمترسه خلف فكرة الحب النقي الصادق الذي قد يلّين القلوب القاسية أو الساقطة في وهم الفروق الطبقية. وقد أفاد المخرج كثيرا من ترسيخ فكرة تعنّت دنيا, هذه المرأة المطلقة (سنية منقعي) لمدة طويلة من الزمن وهي تتلقى باقات الورد المصففة بشكل جذاب لا يخلو من لمسات فنية تدلل على حجم هذا الحب, وطبيعة هذا التعلّق العاطفي الذي يقترب من حافة الجنون لبائع الزهور عادل (عبد المنعم شوّيات) لكن هذه المرأة الثرية, العصية, تلين, لتستجيب في خاتمة المطاف وتقبل بحب هذا الشاب الذي ذهب إليها بملابس عادية جدا متسلحا بثروته الروحية والعاطفية, ومُستخفا بالمظاهر الخارجية الزائفة. الناقد التونسي ناجي الخشناوي استهزأ من هذه النهاية الساذجة التي (ينتصر فيها الحب في آخر المطاف ككل الروايات الحالمة وقصص الغرام والعشق السريالية التي ولى زمنها. وأعتبر أن الزرن (واقع تحت سطوة تلك الفكرة السريالية التي نظّر لها بعض الماركسيين المشوّهين أو (المتمركسين) والتي تزعم أن الحب كقيمة حضارية متعالية عن التقسيم الطبقي للمجتمعات, بل إنها كالحمامة التي ترفرف بجناحيها بين الطبقتين البروليتارية والبرجوازية.. أي هراء بليد هذا !) لا شك في أن هناك هوّة (اقتصادية) يصعب ردمها بين هاتين الطبقتين الاجتماعيتين, ولكن الكثير من قصص الحب استطاعت أن تتجاوز هذه الهوّة وتنتصر عليها, وإذا لم يستطع بعض العشاق أن ينتصروا عليها في الواقع فمن حق المخرجين السينمائيين أن ينتصروا عليها فنيا ضمن الحدود التي تتيحها المخيلة السينمائية التي تتحرك ضمن إطار سينما المؤلف. ومع ذلك فقد أتقن عبد المنعم شويات دوره, وكان بحق فنانا يتوافر على قدرات تعبيرية تعد بالكثير من الإبداع, كما كان أداء الفنانة (سنية منقعي) مقنعا وجذابا ولافتا للانتباه ضمن إطار الواقعية الشاعرية التي وسمت الفيلم الذي كان لا يخلو من الطرافة والنفَس الفكاهي المرح. كما كان أداء الممثل الشاب (نصر الدين السهيلي) عفويا, وتلقائيا, لا تعتريه مسحة التصنّع الممجوجة. أما أداء الفنانين القدامى (مصطفى العدواني, وسلوى محمد, وأحمد السنوسي) فقد جاء منسجما مع أدوارهم المختلفة التي أمتعت المشاهدين بحِرَفيتها, وقدرتها على إيصال الأفكار الدقيقة ضمن خطابات بصرية تنطوي على أبعاد جمالية وفنية واضحة للعيان. أنجز الزرن عددا من الأفلام التسجيلية والروائية من بينها (كسّار الحصى) 1989), و(يا نبيل) 1993, و(السيدة (1996, و(نشيد الألفية) 2002.

تأشيرة دخول

لم يحمل فوز الفيلم الروائي القصير (الفيزا) بالتانيت الذهبي لهذا العام أي مفاجأة للنقاد والمتابعين للشأن السينمائي لسبب بسيط هو أن فوزه كان متوقعا لأكثر من سبب, الأول أن هذا الفيلم كان من بين الأفلام خفيفة الظل, وينطوي على سخرية مرة, وكوميديا سوداء في بعض الأحيان, والثاني لأنه يعالج تيمة خطيرة وحساسة لها علاقة رصينة بواقع المواطن العربي الذي يحلم بالهجرة لأسباب اقتصادية, وسياسية, ونفسية, والثالث لأن الفيلم يحتضن ممثلين يتوافرون على قدر كبير من الموهبة, والحرفية, والحضور التهكمي الساخر وأبرزهم جمال مداني ولطفي الدزيري. وهذا التقييم لا يعني أن الفيلم قد جاء خلوا من الأخطاء, والهنات, والمثالب فتمة مواقف وتصورات ومعالجات غير مقنعة هي التي دمغت الفيلم ببعض النواقص ومنعته من الاقتراب من الاكتمال. فتيمة الفيلم تتحدث عن رشيد الذي جسّد شخصيته الفنان جمال مداني يروم الحصول على (فيزا) سياحية من السفارة الفرنسية في تونس بعد أن تملّكه هاجس الهجرة والسفر إلى فرنسا من أجل الإقامة فيها والعيش في مضاربها بعد أن وعده ابن عمه بأن كل شيء سيكون على ما يرام, وأنه سيضمن له العمل الذي يدّر عليه دخلا مناسبا. وحينما يدخل مبنى السفارة الفرنسية يُفاجأ بأن القانون الفرنسي الجديد قد سنَّ فقرة لا يسمح فيها بإعطاء الفيزا لأي شخص يروم الإقامة والعمل ما لم يجتز امتحان الاملاء باللغة الفرنسية. من هنا تبدأ معضلة القصة, وهي بداية موفقة قابلة لأن تتطور على الصعيد الدرامي, إذ يبدأ رشيد محاولته الجادة لتحسين لغته الفرنسية كتابة وقراءة وحديثا, إذ يقتني بعض القواميس وكتب المطالعة, وحتى كتب الطبخ ليكون مُطلا على أحدث تطورات اللغة الفرنسية المحكية, ويظل يعيش حالة من القلق المستديم وسط سخرية زوجته, وتهكم ابنته الصغيرة التي لا تكف عن ممازحته أو الاستهزاء بلغته الفرنسية التي لم تشهد أي تطور ملموس بعد هذا الانهماك الجدي في القراءة والكتابة, وحينما يأتي يوم الامتحان يفشل في اجتيازه فيضيع منه حلم الهجرة إلى الأبد. ولكي يوغل المخرج في سخريته اللاذعة نراه يغيّر مسار رشيد عن طريق زميله إبراهيم (لطفي الدزيري) الذي فشل هو الآخر في تحقيق الحلم ذاته بالتفكير في السفر إلى أحد أقطار الخليج العربي حيث يستطيع أن يجمع ثروة طائلة هناك في زمن قصير جدا, غير أن هذا الحلم يتلاشى تماما عندما نكتشف أن الدبلوماسي الخليجي بلحيته الطويلة التي تشي بلحية رجل دين متشدد يطلب منه طلبات تعجيزية فيتبدد حلمه في السفر, وجمع الثروة, وتحقيق حياة معاشية أفضل له ولأسرته الصغيرة. قد تبدو هذه الطروحات مرحة وتتوافر على حس الدعابة والطرافة والسخرية لكننا لو دققنا في بعض التفاصيل جيدا فسنشعر من دون شك أن بعض الأفكار المجانية, والآراء المجافية للواقع تنطوي على كثير من المبالغة والمغالاة, فإذا كانت بعض الدول الأوروبية تطلب من بعض القادمين إليها للإقامة والعمل أن يجتازوا امتحان المستوى الأول أو الثاني من لغة البلد المُضيف كشرط من شروط الهجرة, فمن غير المعقول أن يطلب دبلوماسي خليجي من شخص عربي يريد تأشيرة دخول مثل هذه الطلبات, وإلا لما استطاع أغلب المواطنين العرب السفر إلى البلدان الخليجية الشقيقة, ثم إننا لم نرَ, والحق يقال رجلا دبلوماسيا خليجيا بهذه المواصفات الشكلانية التي تدلل على رجل دين أو شيخ تكية في أفضل الأحوال, في حين أن الدبلوماسي الخليجي دائما ما يكون بمظهر آخر, هذا إذا لم يكن مرتديا زيا أوروبيا كما هو شأن أغلب الخليجيين الذين يغادرون بلدانهم إلى دول عربية أو أوروبية. ثم إن هذا اللغط غير مبرر ضمن أجواء الكنيسة أو أي بيت من بيوت العبادة لأن فيه مسًا واضحًا بالأماكن الدينية, وتجاوزا على مشاعر الناس الذين ينظرون إليها بعين الاحترام والتبجيل. فمن أبرز أخطاء هذا الفيلم مشهد اللغط والثرثرة في الكنيسة, وكذلك مشهد الرجل الدبلوماسي الملتحي, ولو كان المخرج قد تجاوزهما, وقدّم لقطات أخرى تعتمد على المفارقة, وحس النكتة العميق في رصد الصعوبات الحقيقية لتعلّم اللغة الفرنسية, أو تصوير العوائق والعراقيل التي تكتنف العلاقات العربية- العربية من خلال التركيز على السهولة التي يحصل فيها الأجنبي على تأشيرة الدخول, بينما لا يحصل العربي على التأشيرة ذاتها إلا بشق الأنفس.

السخرية الجادة

أشرنا قبل قليل إلى أن هناك بعض اللقطات والمشاهد الهزلية غير الموفقة, أو التي لم تخدم السياق العام للتهكم المقصود والسخرية الجادة. فثمة فرق واضح بين أن تُضحك الناس من أجل الضحك اللامُبرر, أو الناجم عن مبالغة فجة لا أساس لها في الواقع. فمن بين المواقف المُستثمرة جيدا موقف رشيد حينما يطلب من بائعة الكتب أن تنتقي له بعض الكتب للمطالعة لأن صديقه نصحه بقراءة كتابين أدبيين مشهورين وهو لا يحسن القراءة, أو حينما يجبر أفراد أسرته على الحديث باللغة الفرنسية فقط من أجل تطوير ملكته اللغوية وتجاوز هذه المحنة الصعبة. وثمة مفارقة ينبغي الانتباه إليها وهي أن رشيد يعتبر نفسه (مظلوما) حينما يفشل في الامتحان وكأنه يمارس نوعا من جلد الذات أو لعن الظلام وهو الذي لم يكمل تعليمه الدراسي! تيمة الفيلم تشير صراحة إلى أن المواطن العربي قد ضاق ذرعا بالبلدان العربية, وأنه مستعد للمجازفة وتحمّل المصاعب, والخوض في المجهول من أجل ضمان العيش الكريم!

أما من حل منطقي لأزمة الهجرة, والتغرّب القسري بحثا عن لقمة العيش؟ وبالرغم من قصر مدة الفيلم التي لم تجتز الـ (26) دقيقة فإننا لمسنا تنويعا على هذه التيمة المعبّرة التي اتخذت شكلا واقعيا حينا, وشكلا فانتازيًا حينًا آخر. وفي الختام لابد أن ننوّه بالقدرات الفنية التي توافر عليها الممثلون الثلاثة (جمال مداني ولطفي الدزيري وجميلة شيحي) وقد أدى مداني دوره بإتقان شديد ينّم عن إمكانية ظهور نجم سينمائي كوميدي قادر على التأثير في مشاهديه, والبقاء في ذاكرتهم لأطول مدة ممكنة.

"الوطن العربي" الكويتية في 1 فبراير 2005