شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

أبله دوستويفسكي يعود إلى الشاشة

أحمد محمد الرحبي

 

 

 

 

 

 

لاقى المسلسل السينمائي الضخم "الأبله" نجاحا كبيرا بين مشاهدي قناة روسيا الثانية والتي انفردت بعرض حلقاته العشر. ومن أسباب هذا النجاح ؛ أولا: بأنه - في أقل تقدير - حرّض الجمهور، لا سيما فئة الشباب منهم، على قراءة الرواية (الغير مقررة ضمن مسيرة التعليم المدرسي). ثانيا: أن عوالم دوستويفسكي (كتب في الفنتازي الواقعي) مازالت مؤثرة في الواقع الذي يعيشه الروس في وقتنا الراهن، ومازال وهج هذا الكاتب يحاول إذبة الجليد عن حياتهم وإضاءة الجوانب الإنسانية المسلوبة، والتي ما فتئت تفقد بريقها في الحياة يوما بعد آخر، لا سيما وأن الشعب الروسي بثقافته العتيدة يعبران نفقا لا يستطع أحد التنبؤ عن نهايته، وذلك في المواجهة العنيفة ضد العولمة والاندفاع الجنوني للرأسمالية. ثالثا: أنه في العشر سنوات الأخيرة لم يظهر فيلم مهم في روسيا(لو استثنينا فيلم "العجل" للمخرج ساكوروف). رابعا: أحداث الرواية مناسبة جدا لتحويلها إلى السينما. وقد بدأ المخرج "إيفان بيرييف" في الستينات إخراج الفيلم ولكن من غير أن يكمل حتى ثلث الرواية، ويذكر أن الممثلون أحجموا عن مواصلة التمثيل بحجة أنه ينطوي على صعوبات جسيمة ويكلفهم طاقة نفسية لا وسع لهم بها. كما يجدر بالذكر أن المخرج الياباني الشهير أكيرا كوراساوا كان أحد المخرجين الذين تصدوا للرواية وقاموا بإخراجها إلى السينما. وأخيرا حّول الرواية فيلما مخرجين روسيين شهيرين: أخلابيستين و كاتشانوف،مستفيدان من مذهب المابعد حداثي في التصدي للرواية ومعالجة السيناريو والإخراج.

   من إحدى نقاط القوة وأهمها في عمل بورتكو أن منفذ السيناريو (المخرج نفسه) احتفظ دائما على روح دوستويفسكي، ومحاولا في كل مرة يضطر فيها إلى التدخل في سياق الرواية (حسب ما تحتمه صناعة العمل) ألا يحيد عن مضمون كلمات الكاتب و صلب أفكاره. كما اعتمد في صياغته لشكل السيناريو خطة "مشهدية اختزالية" أي أنه قام باختيار أهم المشاهد في الرواية ثم أعاد ربطها من جديد خدمة لرؤيته الفنية.  وقد عرف الجمهور المهتم بورتكو من خلال إخراجه للسينما رواية " قلب كلب" للكاتب الروسي الشهير ميخائيل بولغاكوف. كما اشتهر لديه(الجمهور) بأن بورتكو ناجح جدا في المشاهد التي تحتوي أكثر  من ممثل، ولكن بالمقابل يؤخذ عليه ضعفه في مشاهد الممثل الواحد. ومما يؤخذ على المخرج أيضا في إخراجه للأبله، المؤثرات السمعية (مع عدم الأهمية الكبيرة في ذلك) حيث جمع في العرض مقطوعات كلاسيكية من فالسات لشتراوس مع موسيقى حديثة لا ترقى ومشاهد الفيلم وتبين عن خلل على مستوى العامل الموسيقي، ومن ناحية أخرى إجحافا في حق شتراوس. كما اعتبر النقاد في الوسط السينمائي الروسي مسألة الجمع بين ممثلين عمالقة يكن لهم الجمهور خالص الاحترام وبين ممثلين شبان في أول الطريق، من المثالب التي وقع فيها المخرج. وحسب رأينا أن المسألة لن تكون ذات شأن لو أن الممثل الشاب استطاع منذ البداية الدخول في نزال الند للند مع الممثلين الكبار وانتزاع اعتراف الجمهور في جدارته ومكنون طاقته التمثيلية، ما لم يحدث في بعض مشاهد العرض. وأعنف النقد الذي أصاب العمل هو عن ذلك المستوى المتفاوت بين الطاقم النسائي في التمثيل وبين الطاقم الرجالي، حيث أظهر النقاد تذمرهم من أداء بعض الممثلات (ليدي فيليجفا على سبيل المثال) والتي أسند إليها أهم دور نسائي في تمثيلها لشخصية"ناستاسيا فيليبوفنا" وهي الشخصية المركزية في الرواية والتي لا يقابلها من حيث التحميل الفلسفي إلا شخصية الأبله. ناستاسيا الفتاة الشقية المتمردة التي أوقعت بالأمير ميشكين "الأبله" في تشويش نفسي خطير وذلك بما تتمتع به شخصيتها من تسلط وعدائية مرة تستمدها دائما من تاريخ علاقتها المؤلمة مع الرجال، من غير أن يعد ذلك طبعا متأصلا فيها (وهنا يجدر الذكر في أن معظم شخصيات دوستويفسكي – إن لم تكن جميعها- هي شخصيات متوترة غير عادية وذات شغف كبير، تتميز دائما بتخبطها النفسي وتيهها الأخلاقي العميق والكاسح، مثلما لدى بطل رواية الجريمة والعقاب مثلا، وهو ما حذا بالمنظرين لأعماله إلى نحت اسما لمذهبه الأدبي "الفنتازي الواقعي" وتصنيف أعماله ضمن هذا الاتجاه النقدي). هناك شخصية نسائية أخرى لم تكسب إعجابا لدى الجمهور والنقاد فضلا عن مهاجمتهم لأدائها وهي الممثلة "أولجا بودينا" التي لعبت دور " أغلايا"، الفتاة ذات النسب المحتد والتربية الرفيعة المنضوية ضمن التقاليد الصارمة التي أفرزتها حقبة روسيا القيصرية عبر عصورها المديدة. ولا يسعنا هنا ذكر تفاصيل العلاقة التي ربطت أغلايا بالأبله (الأمير) ذلك لأننا سنتورط في التصدي لتحليل إحدى شخصيات دوستويفسكي المعقدة ليس هنا مجاله، وربما، وللأمر نفسه، جعل النجاح التام للممثلتين الشابتين في سبر الأغوار العميقة لتينك الشخصيتين الدوستويفسكيتين أمر في غاية الصعوبة . بيد أنه (لو أمكن أن نوجز في الحديث) في علاقته بالفتاتين (أغلايا ونستاسيا) كان الأبله أكثر ميلا إلى ناستاسيا، من غير أن يكون هذا الميول بدافع عاطفي محض ، بقدر ما هو أخلاقي وبسبب شفقة دينية تستحوذ عليه عند اللقاء بها أو التفكير فيها، في حين لم تكن الشفقة بهذا القدر ملائمة في علاقته مع أغلايا، إذ أنها لم تفقد في حياتها شيء ولم تشقى كما كان الحال مع ناستاسيا، وكان ميوله إلى ثقافتها وحسن تربيتها لا أكثر. وإذا كان الحال كذلك في الرواية، فإن شخصية ناستاسيا في العرض جاء أقل من المستوى الفني المفترض مع هكذا شخصية: اختارها البطل وعاش من أجلها اضطرابات نفسية مخيفة أودت به في النهاية إلى المصحة التي ظن بأنه قد خرج منها بلا عودة. وعند الفهم العميق فيما قصده دوستويفسكي حين قال على لسان البطل: "إن الجمال ينقذ العالم" يتبين بأنه قصد جمال الروح وقوتها في الاستجابة إلى المثل العليا. وربما وقعت الممثلة "الجميلة" ليدي في إغراء(على الطريقة الهوليودية) واعتمدت على إمكانياتها الخارجية، أو حسب ما يمليه عليها المخرج، أكثر من سماحها للشحنات العاطفية القلقة التي حملتها شخصية الرواية بالغوص عميقا في جوانيتها، فشاب أداءها بعض الفتور، وعجزت في إقناع النقاد الذين حتما قرءوا الرواية وسكنت شخصياتها في وجدانهم. ومن يعلم، فربما خشي بعض الممثلون وقبلهم المخرج فيما لو أنهم غامروا في سبر المناطق الوعرة لشخصيات الرواية، أن يؤول مصير عملهم كما آل إليه مصير فيلم المخرج "إيفان بيرييف" عندما هرب الممثلون خشية على أنفسهم.

ومما يستوجب التوقف عنده هو أن العرض ضم ضمن طاقمه التمثيلي ثلاثة ممثلين على الأقل كانوا بمثابة الدعامة الرئيسية التي استند إليها العرض واستمر طيلة ساعاته الثمانية والثلث وهم: يفجيني ميرونوف في دور الأبله، فلاديمير ماشكوف في دور التاجر العاشق، إننا تشوريكوفا في دور زوجة الجنرال وأم أغلايا.

وقد عرف الجمهور الروسي الممثل المحترف يفجيني ميرونوف عبر مسيرته التمثيلية القصيرة نسبيا  والمهمة(حاز على جائزة النقاد في مهرجان جنيف للسينما عن دور البطولة في فيلم "الحب"، فضلا عن جوائز محلية عديدة). وتميز في أدوار عدة بخفة ظل عميقة ومدروسة. وكان أداءه الموفق لدور المفتش في فيلم "المفتش العام" الجديد (عن تمثيلية لجوجول) بمثابة الجولة الحاسمة التي ضمنت له احترام الناس وحبهم. وانتظر المعجبون مغامرته الجديدة بفارغ الصبر وهم يشاهدون صورته في ملصق إعلان العرض على أعمدة الشوارع وفي ميتروهات موسكو العميقة. وجهه ذو الملامح البريئة أو البلهاء(اختر من ظلال دوستويفسكي ما شئت) والقبعة السوداء المسحوبة إلى الخلف لتبرز خصلة صغيرة على الجبين. أما سر العينين الصافيتين والابتسامة المدفونة فقد آثر بأن لا يبوح به إلى حين العرض. وجاء أداءه بعد ذلك مغامرة ذكية في التصدي لأصعب شخصية في الرواية، فمنذ البداية وحتى نهاية المسلسل لم يخيب ميرونوف رجاء الجمهور والنقاد، وأنبأت طاقته التمثيلية المتفجرة عن محترف يشق طريقه بثبات. كما استطاع بجدارة تقديم لوحات حية مكنت المشاهد من قراءة عميقة ثانية للملحمة.

أما الممثل فلاديمير ماشكوف فموقعه معروف في خريطة الفن السابع داخل روسيا وخارجها، وحاز خلال مشواره الكثيف في التمثيل على عدة جوائز محلية وأجنبية:

جائزة النقاد في مهرجان كان للسينما عن فيلم اللص (بطله ماشكوف)،ورشح الفيلم لجائزة أوسكار والسعفة الذهبية، كما حصل نفس الفيلم على جائزة خاصة من لجنة التحكيم في مهرجان البندقية. حصل أيضا على عدة جوائز تقديرية من الدولة.

وتكفي نظرة واحدة إلى ملامح وجه ماشكوف لنتعرف فيه على ممثل صعب من الدرجة الأولى( ومن المناسب تذكر وجوه عريقة في السينما كوجه جاك نيكيلسون ووجه عادل أدهم) ، وقد زكى حضوره المهيمن بأدائه لدور التاجر العاشق في ارتكاز العديد من مشاهد العرض، ومن ثم منحها ثقلا دراميا منتشر الأبعاد، مما وفر على المخرج وبضربة سحرية عوامل فنية كثيرة ليس أقلها عامل التشويق الذي لا غنى منه في عرضه الطويل.

الممثلة إننا تشوريكوفا واحدة من أشهر الوجوه النسائية في السينما والمسرح الروسي (حازت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان برلين لعام 84 ، جائزة الدولة عام 85  وجوائز تقديرية أخرى). وقد جسدت بدورها في عرض الأبله صرامة المرأة الروسية التي هي ركيزة أساسية في المجتمع الروسي حتى يومنا، ولكن أيضا طيبتها التي تنهمر بلا مقدمات وتغدق بلا حدود عندما تستدعي أدنى إشارة إلى ذلك. وليس غريبا بأن توحي مقدرات تشوريكوفا التمثيلية إلى المخرج إضافة مشهد حاسم غير موجود في الرواية (المشهد الأخير)، وليس غريبا أيضا أن يستقبل النقاد والجمهور ذلك التجاوز بطيب خاطر، إذ أن ثقتهم بالممثلة ومنزلتها لديهم يخولها في ذلك. 

انتهى العرض واستحسن الناس أدوار بعض الممثلين وازدادوا ثقة بآخرين وحنقوا على غيرهم، إنما، وفي نهاية المطاف، يمكن الجزم بأن عاصفة النقد التي وجهت للعرض الجميل (باعتراف الجميع رغم كل شيء) ما كانت لتأتي بتلك القوة لو أن قصته تعود إلى كاتب روسي آخر غير دوستويفسكي، ولو أن المخرج لم يغامر في الاقتراب من أحد الدعائم الثلاثة الأهم في الثقافة والوعي الروسي: دستويفسكي، بوشكين، لينين.

موقع "إيلاف" في 12 فبراير 2005