شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

ذات مساء بيروتي - فرنسي بارد في حضرة مارون بغدادي

بيروت - فيكي حبيب

 

 

 

 

 

اسطورة؟ ربما، على الأقل، بالنسبة اليها ولكثر من أبناء جيلها من عشاق السينما في بيروت. تابعت أعماله كلها الا واحداً لم تعرف السبيل اليه. تساءلت عن مصيره الغامض، غموض صاحبه نفسه، وغموض حكاية موته. سمعت ان مارون بغدادي نفسه حذف فيلمه الاول هذا، من قائمة اعماله ليتمكن من المشاركة في مهرجان "كان" بفيلم "اول" سيكون "حروب صغيرة" ليربح عنه جائزة لم تعط له على أي حال سنة 1978. سمعت ايضاً ان ذلك الفيلم الاول الحقيقي لم يكن بالمستوى المطلوب، وانه كان حقل تجارب لسينما أسست لجيل جديد ما هو الا امتداد له.

غاصت في مصير صاحبه والاساطير التي حيكت حول موته. لم يهمها تضارب المواقف. أرادت ان تشاهد الفيلم الذي عرض للمرة الأولى عشية الحرب اللبنانية ، الفيلم "الذي تنبأ بهذه الحرب" كما قيل عنه يومها. الحرب.. الحرب. لا تدري لماذا تشعر دائماً بحنين الى تلك الحرب. وماذا تعرفين انت من الحرب؟ يجيبها صديق يكبرها سناً. تضحك من دون ان تظهر له أي اهتمام ثم تقول في سرها: "لعله نسي انني ولدت في العام نفسه الذي عرض فيه بغدادي فيلمه الثاني في فرنسا، وكنت صغيرة حين نال لاحقاً جائزة كبرى عن "خارج الحياة".

... ويظل طيف "بيروت يا بيروت" يلاحقها. لم تكن تترك مناسبة الا وتسأل عنه. تجده ثم تتعثر. تقترب ثم تتوه.

ذات صباح، تأتيها دعوة من المركز الثقافي الفرنسي. تضيع الدعوة بين الاوراق. بداية لم تكترث، ثم ما لبثت ان اكتشفت ما كانت ستفوّت. الرسالة نفسها تأتيها عبر البريد الالكتروني هذه المرة. هنا لا مجال لاضاعتها. تقرأها: "البعثة الثقافية الفرنسية في السفارة الفرنسية في لبنان تقدم في اطار سلسلة عروض من عالم الى آخر فيلم مارون بغدادي "بيروت يا بيروت" بطولة عزت العلايللي، ميراي معلوف وجوزف بو نصار". وتتابع القراءة: "عن التحولات الاجتماعية - السياسية في بيروت بين 1968 و1970: الانفجار السكاني، صراع الطبقات، التدخل الاجنبي، التنوع الطائفي، واقع لبنان الجنوبي، الشباب الملتزم... نظرة مبكرة للحرب اللبنانية. فيلم نادر!".

فرحت. أحست بانتصار. الفيلم يبحث عنها هذه المرة بعدما كانت تبحث عنه منذ وقت طويل؟

طبعاً لن تفوت الفرصة. وأخيراً ستشاهده.

مغامرة الفيلم النادر

في تلك الليلة الباردة من شهر شباط (فبراير) قد تكون آخر امنياتك الخروج من المنزل ومشاهدة فيلم ما. لكن عندما نتحدث عن فيلم نادر، المسألة تستحق المغامرة. تصل المكان. تدخل المبنى الفرنسي. تقف عند نقطة التفتيش. يسألك رجل الأمن عن وجهتك. تجيبه. يضحك، وقبل ان تسأل عن السبب يتمنى لك ان تجد مكاناً وسط الحشود لأنك حتماً آخر الواصلين. تتعجب فأنت دائم الدقة في المواعيد. تشكك في كلامه. تقول انه حتماً مخطئ. وانه يتكلم لمجرد ان يفتح حديثاً معك. لحظات لا تعد وتنظر الى الساعة. تأخذ نفساً عميقاً. وتتأكد انك وصلت في الوقت المناسب. والوقت المناسب في الأعراف اللبنانية، يعني حكما انك أتيت مبكراً بعض الشيء. (نشرح هنا لمن لا علم له بالمواعيد اللبنانية: غالبا في مناسبات كهذه لا يتم التقيد بالأوقات المحددة على بطاقة الدعوة. فعندما يشيرون الى الساعة الثامنة مثلاً، فهم يقصدون الثامنة والنصف وحتى التاسعة من دون أي مبالغة!). تدخل الردهة. تجد "عجقة" ناس. تحتار في أمرك. وقبل ان تسترسل في افكارك، تقاطعك كلمة من هنا وهناك بالفرنسية الخالصة لتذكرك انك على اراض فرنسية وتتعامل مع فرنسيين.

الكل يسأل عن امكانية لدخول العرض. والجواب هو هو: لا مكان شاغراً... أتراها فعلاً امتلأت الصالة بالناس؟ وهل ستفوت الفرصة من جديد؟ أسئلة تطرحها على نفسك قبل ان تأتي الاجابة على لسان احد المنظمين: لا تقلقوا سنحدد موعداً جديداً للعرض في الاسبوع المقبل. ترتاح. فالفرصة لا تزال متاحة لك. لكن هل فعلاً يسعك الانتظار حتى الاسبوع المقبل؟ بين كل تلك الوجوه الحائرة، وحدك تجد السبيل الى داخل الصالة المعتمة، من دون ان تدري كيف اقنعت المسؤول بالسماح لك بالدخول. طبعاً لا امكنة فارغة والا لمَ يفترش هؤلاء الارض؟ تفعل مثلهم. تحمد ربك انك لم تأت بثياب رسمية وانك اكتفيت بجينز وجاكيت. وتحمده ايضاً، لأنه لم يفتك أي مشهد. بقدرة قادر تنسى كل ما واجهت حتى الآن، ليأخذك الفيلم في رحلة الى بيروت ستينات القرن الماضي. فترة لطالما تمنيت لو عشتها من دون ان تعرف السبب. حنين الى بيروت لا تعرفها. الى حركة ثقافية طالبية ناشطة. الى مجتمع متنوع يشعرك بأنه يقترب من الانتصار، من دون ان يدري انه ذاهب لا محالة الى الهاوية. شخصيات نموذجية تختصر المجتمع اللبناني: إميل الشاب المسيحي المنغلق على ذاته والغارق بين كتبه واسطواناته، كمال المحامي المسلم المدافع عن العروبة، هلا الفتاة المتحررة الضائعة بين الاثنين... شخصيات ترسم واقع مجتمع ضاعت هويته فتأخذنا معها في ذكريات تاريخية من عام 1969 وصولاً الى شهر ايلول (سبتمبر) 1970، تاريخ وفاة عبدالناصر وما كان لموته من أثر في صفوف بعض الشباب اللبناني، لينتهي الفيلم برصاصات تخرق جسد العامل الجنوبي، فترديه.

المدينة والخريطة

ينتهي الفيلم. تضاء الصالة. تتأمل الوجوه. وجوه ليست هي الوجوه التي اعتدت ان تراها مع كل عرض فيلم. وجوه غربية الملامح. فرنسية بالتأكيد. تتساءل عما يريد ان يعرف هؤلاء عن بيروت؟ ومارون بغدادي، هل يعرفونه؟ تؤاخذ نفسك. أوليست فرنسا هي "الام الحنون" كما يطلق عليها في بيروت وهي اول من فتحت ذراعيها لهذا المبدع من لبنان ومنحته جنسيتها وجوائزها؟

تسمع تعليقات بالفرنسية. احدهم يستوضح ما حدث فعلاً عام 1969 في بيروت، وآخر يتحدث عن العمق السيكولوجي للفيلم، أما انت فتقف ضائعاً حائراً بين هؤلاء تسأل عن اهل المدينة؟

أين هم.. واذ تخرج وصور الفيلم في ذهنك، تبدأ بالسؤال هذه المرة وانت تقطع شوارع بيروت الباردة الممطرة، عن المدينة نفسها؟ هل انحصرت اخيراً في الفيلم... وفي بضعة افلام مشابهة وغابت... عن الخريطة؟

الحياة اللبنانية في 11 فبراير 2005