القاهرة - فريال كامل |
|
لا تكتمل روعة اللحظة في تلك البلدة الجنوبية الدافئة التي يقدمها لنا فيلم «بارك الله المرأة» الروسي الجديد والذي عرض في مهرجان القاهرة اخيراً إلا بأن تزهر زهرة يانعة، تداعبها أمواج البحر كل صباح، فتنشد أنشودة لأسراب النورس المحلقة في السماء. على الشاطئ حيث تلتقي فيرا ابنة الثماني عشرة ربيعاًَ الضابط الكسندر إيفانوفيتش الذي يبادلها بعض عبارات مقتضبة، فيصير قدرها، يحييها تحية عسكرية، ويخبرها أنه سيعود ليأخذها، فترتمي في أحضانه، يتملكها الشوق ويستبد بها القلق فتعاف الطعام وترابض على صخرة تكشف الطريق، وفي الموعد تلتقط عيناها من بعد عربة مقبلة، فتتوهج روحها. في بيت ريفي تعيش فيرا وأخواها في رعاية أم طيبة، تطعمهم فيض البحر وخير الأرض. الى المائدة يلتفون حول الضيف. يبدو أميرًا لأحلامها في بدلته العسكرية، فيسأله الصبي سؤالاً يصير بعدها قانوناً في تقويم الرجال: هل حصل على وسامه وقت الحرب أم أثناء الخدمة المدنية. يتميز الكسندر باليف في تجسيد الضابط الكسندر إيفانوفتش. يبدو عسكرياً قلباً وقالباً، محدداً وواضحاً، يخبرهم أنه مُطلّق وأنه يقتطع من راتبه نفقة شهرية لطفله. في النهاية تقرر فيرا مرافقته وتتأثر الأم لفراق ابنتها وتحاول الاعتذار بصغر سنها إلا أن فيرا تتشبث لتبدع بحبها الفنانة سيفيلانا كودشيتكوفا أول أدوارها على الشاشة. في فيلم من نوعية «بارك الله المرأة» (تمتد أحداثه على مدار اثنين وعشرين عاماًَ، تبدأ قبيل الحرب العالمية الثانية 5391 وتنتهي مع إطلاق روسيا لأول قمر اصطناعي 7591)، يقوم المونتاج بدور إيجابي في إسقاط التفاصيل ومد الجسور بين الأحداث في سلاسة ويُسر. تكريم المرأة يبدو الضابط في هذا الفيلم شخصية محورية، صاحب القرار ومحرك الأحداث، أما فيرا فهي الشخصية الأساسية، فياضة بالعطاء، تبدو مثالاً للتفاني، نبعاً للحب والحنو على الصغار والحيوان أيضاً. جاء الفيلم لمخرجه والمشارك أيضاً في كتابته ستانسلاف جوفرجين، أنشودة لتكريم المرأة بكل شرائحها العمرية وأدوارها في السلم والحرب. كرم الفتاة والزوجة والأم والأم البديلة أيضاً والعاملة والفنانة. ومن المثير للدهشة أن اسلوب الفيلم اتى أكثر رقة ونبلاً من افلام كثيرة عن المرأة حققتها مخرجات سينمائيات في مصر وبعض البلاد العربية. وكما تتشكل اللوحة من ضربات لفرشاة الفنان، شكّل المؤلف شخصية الزوج من عبارات مقتضبة على مدار الفيلم (حقك الوحيد أن تكوني حبيبتي.. لا اعتقد أنك في حاجة الى شخص غيري.. لا يعنيني حنان النساء أو الفن أو القطط.. على الزوج الانفاق لتعد له زوجته غداء ساخناً...). في موسكو تتعلق فيرا بذراع زوجها تبهرها المدينة والفتيات العصريات والسيارات والاسواق، يشتري لها ملابس حديثة فتمتن له، في موقع ناءٍ تتحصن فرقته، تعلو البوابة صورة ستالين تؤرخ للاحداث، تقبل فيرا على تنظيف السكن الذي كان مهجوراً سنوات عدة وفي نهاية يوم شاق يلومها زوجها على عدم إعداد وجبة الغداء ويلقنها لائحة واجباتها التي لا يقابلها أدنى حق لها. وسرعان ما تتأقلم فيرا مع الهيمنة العسكرية ويتضاعف ولعها بزوجها الى أن يحدث الصدام الأول حينما يئد فرحتها بجنينها حيث أنه «وهب نفسه للعسكرية ولم يبق منه شيء يعطيه لطفل»، فتحتقن عيناها وتنساب دموعها. ومع إعلان الحرب تتطوع فيرا للعمل في المستشفى العسكري، تسعد بمرح الجرحى والمعوقين وترعى المصابين. على مدار الاحداث تتواصل فيرا مع شخصيات نسائية، تلقي الحرب ظلالها عليهن، ففي المستشفى تربطها صداقة متينة بساشا الطبيبة التي تحكي لها عن تخلّي زوجها عنها لتتحمل وحدها مسؤولية طفلهما، فتقيم علاقات خاطفة تثمر جنيناً في احشائها. تنجب ساشا طفلة جميلة تطلق عليها اسم فيرا الصغيرة فتحنو عليها فيرا وحينما يشتد القصف وتحمى حمى الحرب، تتسلم فيرا رسالة من امها تفيض حزناً على وفاة اخيها في الحرب واختطاف شقيقتها الى ألمانيا، فتقرر اصطحاب الصغيرين والعودة الى قريتها لمساندة أمها في محنتها تحيطهما الأم برعايتها فتجري دماء العافية في عروقهما لوفرة الطعام ونقاء الهواء. تمر السنون ويظل البيت الريفي فاتحاً ذراعيه لكل مَنْ يلجأ اليه، فتعود اليه فيرا الصغيرة وقد اصبحت شابة بعد أن فقدت امها وضاقت بفساد صديقها، وحينما تصر على إعطاء فيرا مقابلاً لإقامتها ترجوها في رقة ألا تحرمها من الشعور بأنها ابنتها، وحينما تعتزل الفنانة (مرغريتا ميخائيلوفا) التمثيل لاعتلال صحتها، تحصل على لقب فنانة الشعب تجد في البيت الريفي ملاذاً، تقيم فيه وتشارك في الخدمة فتضفي على البيت بهجة، ترعى الأم في مرضها الاخير لتستقي منها الحكمة، فلا علاج للامراض إلا بالعمل والحب. ثم تعاود مرغريتا الوقوف على مسرح البلدة لإسعاد اهلها، وتساند فيرا في اجتياز ازمتها وتشجعها على بداية حب جديد مع مهندس في بناء السفن. محنة الحرب وتتتابع الاحداث في ايقاع متوازن، تقدم شخصيات في قمة النبل بأسلوب غاية في الرقة، على رغم أن الاحداث تتشابك مع الحرب إلا أن المخرج - عن وعي - اسقط مشاهد الدم والدمار، العنف والانفجار. عرض محنة الحرب، من وجهه نظره - في فرقة الاحباب، واشار إلى الفساد الذي نخر عظام النظام، ودفع بالاكفياء الى طريق واحد. الطرد من الخدمة أو الانتحار، وعند نهاية الحرب يقفز الانتهازيون الى أعلى المناصب، يعلقون على صدورهم الاوسمة ويهددون من ذاقوا ويلات الحرب وواجهوا نيران المدافع. اثرى الفيلم مجموعة من المشاهد الانسانية حينما يدس الصغير يورا في قبضة فيرا رسماً ممهوراً بكلمة «مـامـا» وهـو في طريقه الى مدرسة يتامى العسكريين، وحينما تضطر فيرا لمفارقة طفل ساشا يلاحق الصغير سيارتها وهو ينادي من اعماق قلبه «ماما» فتنفطر قلوبنا ليقدم المبدع ستنسلاف جوفورحين ملحمة تكريم للنساء في السلم والحرب ويحصد الهرم الفضي في مهرجان القاهرة الدولي. الحياة اللبنانية في 11 فبراير 2005 |