محمد رضا |
|
هناك "كوكب العرب" و"بروتوكولات صهيون" في نسخة هذه السنة من مهرجان "سندانس" السينمائي الدولي المقام حالياً. وفي حين أن "كوكب العرب" لابرهيم سلّوم لم يتح عرضه بعد، حين كتابة هذا التقرير، فإن "بروتوكولات صهيون" أمّ الشاشة الكبيرة للمهرجان كواحد من الافلام التي يتقاطر المشاهدون الباحثون عن حال هذا العالم بعد 11/9. حال العالم بعد 11/9 أصبح ورقة بارزة في كل دورات هذا المهرجان المخصص للسينما المستقلة منذ العام 2001. وفي اليوم الذي كان الرئيس الاميركي جورج بوش يلقي خطابه الاخير مدشناً فيه سنوات الفترة الثانية من رئاسته، كان رئيس المهرجان روبرت ردفورد يلقي كلمة تختلف كثيراً في فحواها عن تلك التي القاها الرئيس. قال ردفورد اننا نعيش في عالم يلفه الجنون خوفاً. عالم فوضوي، غير مستقر، مخيف ولو ان البعض قد يجده الآن أفضل حالاً. لكن بصرف النظر عن رأي المرء، فإن "سندانس" هو عن الاصوات المختلفة التي تصلنا عبر السينما. هذه الاصوات هي الانعكاسات الاكثر دقة للعالم الذي نعيش فيه. وأضاف في حفلة افتتاح، كان الذين أخفقوا في الدخول اليها أكثر عدداً من الذين غصت بهم المقاعد في تلك الليلة الباردة الاولى، ان هذا المهرجان هو، بالفعل، حول إتاحة الفرصة للمشاهدين لتلقف "الاختلافات العريضة في الرأي. نريد وجهاً جديداً لاميركا. لا أحب اللافتات والمهرجان يهدف لأن يحطم اللافتات وحواجز العنصرية والطبقية والجنسية. المهم هو نوعية العمل". ردفورد لم يكن أكثر وضوحاً بما يتعلق بوجهة نظره السياسية في حياته كلها الا من خلال الافلام في أواخر الستينات عندما بدأ يظهر في نوعية افلام ليبيرالية يسارية. حتى اشتراكه مع بول نيومان في فيلم وسترن ذائع هو "بوتش كاسيدي وسندانس كيد" (اخراج جورج روي هيل، 1969) قصد به أن يلغي الصورة النمطية لشريري الغرب ويستبدلها بواحدة شبيهة، بما كان وورن بيتي وفاي داناواي أقدما عليه، تحت ادارة المخرج آرثر بن في فيلم "بوني وكلايد": منح الشخصيات الحقيقية التي عاشت في تاريخ اميركا وجهاً اجتماعياً يلقي بالنقد على الوضع الاقتصادي العام وليس على مفهوم من نوع "وُلدوا مجرمين". روبرت ردفورد كان ظهر في فيلم آخر لآرثر بن كال للبنية الاجتماعية التقليدية هو "المطاردة" (1966). وبينما كان وورن بيتي يتحدث عن نظرية مؤامرة حكومية ضد الحقيقة في "منظر متواز" (ألان ج. باكولا 1974)، كان ردفورد يمثل "المرشح" (مايكل ريتشي 1972)، "ثلاثة أيام من الكوندور" (سيدني بولاك 1975) ثم "كل رجال الرئيس" (ألان ج. باكولا 1976)، طابعاً وجهة نظره في الفترة وسياساتها من خلال اختياراته نجماً. والنجم يستقطب نجوماً. في كل عام يؤم المهرجان رهط كبير من النجوم الاميركيين معظمهم مشترك في الافلام المعروضة، لكن بعضهم، مثل هولي هانتر وسلمى حايك هذه السنة، ينضم الى الحفل القائم لمجرد حب الوجود. من الممثلين الآخرين الموجودين هنا كريستيان سلاتر، هوب ديفيز، وليام مايسي، مات دامون وكيفن سبايسي. تحولات قبل ردفورد كان "سندانس" مهرجانا يعرج: من سيقصد مربعا ثلجياً بارداً في اعالي جبال ولاية يوتا، بعد ساعة ونصف ساعة من الصعود الحذر على الطرق وسط احتمالات المطر والعواصف لكي يشاهد مجموعة من الافلام المعروضة فيه؟ مشكلة "سندانس" الحقيقية ان هدفا اعلى من مجرد عرض الافلام كان منتفياً من هويته. ردفورد منحه تلك الهوية عندما اشتراه من نحو 42 سنة وحوّله ملتقى للسينما الاميركية المستقلة. خلال دوراته كبر المهرجان اضعاف ما بدأ. لكنه استوعب منذ البداية جمهورا جديدا غير جمهور المهرجانات الاخرى. انه الجمهور الباحث في الوجه الآخر للسينما الاميركية، في ما تنتجه شركات صغيرة من دون تمويل يذكر وبعيدا عن سلطة هوليوود التقليدية. اي الافلام التي يخرجها السينمائيون على هواهم وتحمل اوكسيجينا في الاسلوب والصورة والنمط. كانت فكرة رائعة والنتيجة مذهلة. في بعض سنوات كبر المهرجان وكبر عدد جمهوره. سكان المدينة التي يبلغ عددهم 7500 نسمة يجدون انفسهم وقد اصبحوا اقلية مهددة اذ يحط فيها خلال ايام المهرجان العشرة نحو 54 الف سينمائي وناقد ومشاهد من اميركا كما من اصقاع مختلفة من العالم. من اهم المتغيرات التي اصابت المهرجان هو احد اهم المتغيرات التي اصابت السينما المستقلة نفسها. بسبب المهرجان اخذت هوليوود التقليدية تؤم "سندانس" كل عام. وفي حين ادت مشاهدة رجال الاعمال الهليووديين وهم يتحدثون في هواتفهم الجوالة الى حالة ذعر بين محبي "الفيلم للفيلم" الا ان الامر كان تطورا لا يستطيع المهرجان اغفاله. هوليوود لا تأتي للمعرفة الذهنية بل لشراء ما تعتقد ان هذا الجمهور الكبير الممتد وراء بقعة المهرجان سيقبل عليه. وليس الحبور من نصيب موزعي الافلام في الاستديوهات الكبيرة وحدهم. بل هو ايضا من نصيب المخرجين الذين عادة ما يرهنون منازل والديهم، او يستدينون من المصارف او من بطاقاتهم البلاستيكية ويؤخرون دفع الرواتب لأجل تمويل فيلم من نوع "نورثفورك" او "مشروع بلير ويتش". وهذا الثاني كلف نحو 30 الف دولار وبيع حينها بمليون و10 آلاف دولار لكن شركة "نيولاين سينما" التي فازت به بعد منافسة حصدت من ورائه مئة مليون وعشرين الف دولار. هل هناك سينما مستقلة؟ انه وضع غريب الى حد كبير. انت في بلدة تقع على قمم جبلية بيضاء، تستيقظ كل صباح وفي بالك الفيلم الاول الذي ستقصده ثم الثاني والثالث. آخر ما تفكر فيه هل بيع اي من الافلام اليوم (او حتى الامس) الى واحدة من شركات هوليوود ام لم يبع. في حين ان الآخر الذي يجلس الى جانبك استيقظ في الوقت نفسه وأمّ العرض نفسه وكل ما في باله هو تقويم الفيلم لناحية احتمالاته التجارية. اذا عجبه خرج منه بعد نصف ساعة ليسبق المنافسة المنتظرة، واذا لم يعجبه خرج بعد نصف ساعة ليؤم فيلما آخر حتى لا يضيع وقته. هوليوود اذ تؤم "سندانس" ترتدي ما يناسب المقام. ليست "وورنر" التي تؤم المهرجان بل "وورنر اندبندنت" وليست "فوكس" الشهيرة بل "فوكس سيرشلايت"، وليست "باراماونت"، ذات شعار الجيل الشهير، بل "باراماونت كلاسيك"، و"سوني" تصير "سوني كلاسيك"... كلها شركات داخل الشركات الكبرى تتخصص في النوعية "المستقلة". ذلك الفيلم الذي لم تنتجه هوليوود لكنها انتظرته لتحكم عليه من مسافة آمنة. اذا اعجبها غمست صباح يوم بارد واذا لم يعجبها تركته على المائدة وانصرفت عنه. البعض بات يتساءل هل هناك سينما مستقلة؟ كيف تكون اذا كانت "ميراماكس"، وهي من اشهر الشركات المستقلة، مملوكة من ديزني وتنتج فيلما لمارتن سكورسيزي وبطولة ليوناردو دي كابريو بموازنة 120 مليون دولار ("الملاح")؟. او كيف تكون "نيولاين سينما" وهي واحدة من أنشط الشركات في سندانس، إذا وقفت وراء ثلاثية "سيد الخواتم"؟ لكن هذا التساؤل النقدي يهمنا نحن الذين نهوى "تفكيك هاري" (بحسب عنوان فيلم وودي ألن المستقل فعلا)، نهوى تحليل الظواهر والإنشغال بما تعنيه في هيكلية الإنتخابات بأسرها. أما السينمائيون فلا تتصور مدى سعادتهم حين يتسلمون مكالمة من واحدة من تلك الشركات. بعضهم يعتبر ذلك الإتصال، إذا أثمر عن بيع، هو بمثابة "ردم الفقر" والإنتقال الى موطىء قدم في هوليوود نفسها. على عكس جون كازافيتز في الستينات وروبرت التمان في السبعينات وجون سايلس في الثمانينات، ونصف دزينة أخرى من سينمائيي نيويورك في تلك الفترة، لم يعد موجوداً ذاك السينمائي الذي يجد أن المطلوب منه البقاء تحت مستوى الرادار لإنجاز أفلام مستقلة، روحاً وفكراً ومالاً. فمن يبدأ مستقلا على الضفة الوعرة من النهر ينتقل الى الضفة الاخرى حيث تتنزه هوليوود وتضم إليها كل عام مزيداً من الشبان الباحثين عن الفيلم الكبير. صفقة في ست ساعات أحد أكثر الافلام الذي شهد منافسة هوليوود عليه هو "حلوى قاسية". فيلم لديفيد سليد مع باتريك ويلسون في البطولة. دراما بأربعة ملايين دولار ابتاعتها شركة "ليونز غيت" التي كانت اكتشفت في العام الماضي فيلم رعب بعنوان "في عرض الماء" Open water قام على رجل وزوجته في وسط المحيط بلا قارب. لم يفتقدهما أحد عندما غطسا لإكتشاف الأعماق. حين طافا وجدا ان ربان القارب اعتقد أنهما عادا مع جملة من عاد إليه وانطلق بعيداً. طبعاً لم يكونا وحدهما في تلك الورطة، التي زادتها تأزماً أسماك القرش حولهما وقد اخذت تفكر في الوجبة المقبلة. هذا العام وجدت "ليونز غيت" في فيلم ديفيد سليد ما قد يثمر عن نجاح جيد في وقت كانت تعاين أفلاماً أخرى أهمها "مصاص الأصبع" الذي يقود بطولته، بسعر مخفّض، كيانو ريفز. "ميراماكس" شركة نشطة أخرى على الرغم من متاعبها مع ديزني. بوب واينستين الذي يترأسها مع شقيقه هارفي وصل الى المهرجان في يومه الرابع، وبعد اقل من ست ساعات أبرم أول عقوده. إشترى فيلماً بعنوان "ماتادور" يؤدي فيه بيرس بروسنان دور قاتل محترف. حتى ساعة كتابة هذا التقرير في الرابعة والسابعة عشرة دقيقة صباحاً، لم يكن احد رمى الصنارة لاصطياد "بروتوكلات صهيون" لمخرجه مارك ليفين. لعله من الأفلام التي تستوجب التفكير قبل الإقدام، وفي النهاية تجد من يجد لها "تصريفة" تجارية ملائمة. العنوان مستوحى من المؤلَّف الذي وضع في القرن التاسع عشر بعنوان "بروتوكولات حكماء صهيون"، لكنه لا يبحث فقط في فصول ذلك الكتاب كباعث على العنصرية وفي تاريخ ما يصفه بـ"المعاداة للسامية" بل أيضا في حاضرها الأميركي. اذ يعترف، من دون أن يتعجب، بعدم وجود ضحايا يهود في مأساة دمار مبنيي مركز التجارة العالمي في نيويورك. الفيلم يروي أن "مواقع الانترنت الإسلامية" قالت ان الموظفين اليهود كانوا حذّروا من الهجوم على المركز فلم يتوجهوا الى أعمالهم المعتادة في ذلك اليوم. المخرج يستفيد من فرصة تحقيقه هذا الفيلم لكي يؤكد أن هذا الإدعاء غير صحيح. لكن طريقته في النفي تستند كثيرا الى تصوير النكبة عاطفياً. طبيعياً، يكيل المخرج لمن يراهم الأعداء النمطيين لليهودية: المسلمون، العرب، المسلمون السود والنازيون والكنيسة الكاثوليكية التي يخصّها في النهاية بقدر من الإهتمام وهو يجري حوارا مع أبيه (آل ليفين) الذي كان يستمع الى الأب كوفلين مهاجماً اليهود، بحسب الفيلم، فينزل الى الشارع ليتعارك وخلاّنه ضد الصبيان الكاثوليك حين كان صغيراً. لا أحد سيتحدث بالاهتمام نفسه عن فيلم "الكلمة الخامسة"، فيلم تسجيلي آخر عما آلت اليه حال قبيلة نافاهو الهندية التي كانت يوماً ثانية أهم قبائل ولاية أريزونا بعد قبيلة اباتشي الاكثر شهرة وعدائية، وذلك من خلال رحلة في الجغرافيا والتاريخ والثقافة الاميركية الاولى. كذلك فإن فيلم "جدار" الذي شهد عرضاً عالمياً اول في كانّ كما في تورنتو بعد ذلك، مسوق الى مصير من التجاهل على الرغم من موضوعه المهم. فهو عن ذلك الجدار الذي عمدت اليه اسرائيل لحجز "القطيع الفلسطيني" في جحوره. مشكلة الفيلم أنه لم يخطط جيداً لإبقاء السرد مثيراً للاهتمام على طول وقته (نحو 90 دقيقة). وبعد نصف ساعته الاولى يكون قد ذكر كل ما هناك حول الموضوع. بعيداً عن الفيلم التسجيلي هناك عمل مثير للاهتمام في شكل فيلم "أنشودة جاك وروز". من ناحية هو دراما عائلية عن أب يجلب الى بيته المنعزل صديقة جديدة تثير مشاكل كان في غنى عنها، ومن ناحية هو فيلم عودة للممثل دانيال داي لويس الذي لم نسمع منه او نشاهد له فيلماً جديداً منذ سنوات. في "وولف كريك" الاوسترالي قصة حقيقية لعائلة مجرمين كانت تصطاد ضحاياها من التائهين في البراري الصحارى البعيدة. يذكرك الفيلم بفيلم الرعب الاميركي الكلاسيكي "مذبحة تكساس المنشارية"لتوب هوبر، وهذا لعله مقصود. من بين ما شاهده الناقد ايضاً "الفتاة الساحرة"، فيلم جيد آخر من السينما التي تطفو حالياً على صفحة المهرجانات الدولية، وهي السينما الكورية (الجنوبية طبعاً كون الشمالية بالكاد تنتج اعمالاً). هو فيلم مراقبة لروتين الحياة بالنسبة الى فتاة شابة (تؤديها كيم جي سو) سرعان ما يترك تأثيره بسبب من طراوة الاسلوب وما تعكسه جولة تلك الفتاة من مشكلات مثيرة للاهتمام. النهار اللبنانية في 6 فبراير 2005 |