استبطان الذات بلقطة قريبة "مقدمة في علم نفس " الصورة السينمائية احمد ثامر جهاد |
نادي الفيل السينمائي: تأسس مؤخرا موقع إنترنتي مهم هو نادي الفيل السينمائي. إنه تجمع مدهش للفيف من السينمائيين العراقيين ومحبي الفن السابع . ويتميز الموقع بأبوابه التي تشمل فنون الفلم الى جانب نصوص تهدف التعريف الوافي بعدد من السينمائيين في بلادنا إضافة الى أبواب مستقلة مكرسة لنجوم السينما في العالم ( تشارلي تشابلن ، ستانلي كوبرك ، جودي فوستر ، ميريل ستريب وغيرهم ). وهناك نصوص تتناول شتى مناحي هذا الفن. كما يجد القاريء نقودا للأفلام العراقية ومعلومات ثمينة عن بعض التقنيات الفلمية الجديدة. |
إن السينما لا تُقدم لنا كما فعلت الرواية زمناً طويلاً ، أفكار الإنسان ، بل تعرض علينا سلوكه أو تصرفاته وهي تقدم لنا بصورة مباشرة هذه الكيفية الخاصة في الوجود، في العالم، وفي التصرف بالأشياء وبالآخرين.
ما انفكت "
الموضوعة السايكولوجية " تشكّل على الدوام ، أغراءً طموحاً لصانعي الأفلام
بشكل
استثنائي . وبإلقاء مزيد من الضوء عليها ، تتبين قدرات الإخراج السينمائي
على
التقاط ( الإرتعاشات الجوانيّة للذات ، القلق غير المُتعيّن ،
التخيلات الحبيسة
والعالم الخفي للشعور ) . فقد يتسنى للبعض أحيانا أن يتابع بحرص العناصر
المعزولة
للظاهرة النفسية ، يلتقطها وفقَ لحنٍ لائقٍ مُؤثر ، ومهما استعصى عليه
إدراكها
"
باللقطة القريبة " قوية التأثير ، يُمكنه محاولة إدماجها في شبكة
الإدراك الحسي
للظواهر والأشكال . ذلك بانتسابها ( أي الظاهرة ) إلى اتجاه المكوّنات
الحاضرة في "
الصورة السينمائية " كمجموعة من المعطيات البصرية والسمعية الفيلم السايكولوجي أنموذجا بالنسبة لأحكامنا الحالية حول ما يستحصله " الفيلم السايكولوجي " - إذا صحت تسميته بذلك - من متعةٍ تَتسيّد ، لكنها مترددة أيضا قياسا للانجذاب السحري الذي حققه اتجاه الفيلم الكلاسيكي ( دكتور جيكل ومستر هايد مثلا ) بوحدة فنية زاهية من الضوء والعتمة ، أخذت بلباب متفرج لم يعتد بعد رؤية أحاسيسه وخلجاته - سليلة وحدته وانعزاله - معروضة أمامه ، باردة ومندحرة ، مهما بَدت قاسية محاولة فضّ قداسة ذاته " أي ذات أخرى . وبمرور زمن طويل من الهستريا الجماعية المُؤيّدة لهذا السحر الجديد – الفيلم – اكتسبت " الموضوعة السايكولوجية " أكثر من غيرها قيمة مطلقة لدى جمهور عريض مكتوم الأنفاس لمعقولية ما يرى ، وأن تَخفّى أحياناً وراء أوهام عديدة ، تتناغم وشدة صراخه في صالة العرض ، خشنة الملمس ، ناعمة الإيحاء. سنفترض أن البعض من ذلك الجمهور لم يُعنَ تماماً بما يمكن للفيلم أن يقدمه ، فتلك خاصته . وفي المقابل لا أحد يستطيع التصـور أن العجـلة المجنـونة المسؤولة عن انتشار الفيلم وبراعته ، ستتوقف يوماً عن اقتحام عوالم جديدة موغلة في الخفاء أو عن اكتشاف غوامض أخرى . عندها لن نقول أن الفيلم وقف في حدود المكانة السابقة التي أمكنه اجتيازها بمعادلة شديدة التعقيد تُوازن بين جمهور منفعل وفنان يبحث عن سبل أخرى لتخليق ذاك الانفعال. إن تطور " الصورة السينمائية " – متعددة الألوان والنكهات – في زمن يمتد عقوداً متراكمة من التذوق الفيلمي ، يُمكنّنا من الحصول على وحدة إدماج المجال والصورة، التأمل الباطني وتعبيرية الملفوظ . فيَحلو لنا تصوّر الأمر بحسـب عبارة " غوته " : [ إن ما هو في الخارج هو في الداخل أيضاً .. ] خلالها تكتسب السينما بواسطة تنوع دلالاتها ، أعلى صفات الإدراك الحسي للظواهر المُشخّصة . برغم أن ذلك الإدراك لن يكون موجوداً أو مُعبّراً عنه بالتمام ، من غير التشبّع الشاعري بإيقاعية الفيلم ؛ تَمثّل سَكَناته وحركاته لمصلحة وحدة من الاندماج معه يُوفرها ، بُغية تسهيل قراءته. على هذا النحو ليس للفيلم معنىً خارجاً عنه . وكل فهم له سيكون لصالح الخيال المبثوث فيه . أما الوحدة التي يصرّ الفيلم عليها في ميدان تناظر الخطاب وتأويله ، فيمكن استنتاجها في عبارة " ميرلوبونتي " القائلة أن : [ معنى الفيلم مندمج بإيقاعه ، كمعنى الإيماءة الذي لا يمكن قراءته مباشرة في الإيماءة ذاتها ، فالفيلم لا يريد أن يعني شيئاً آخر غير ذاته. قيل أن السينما على نحو ما تُعبر عن مستوى معين من الأفكار ، ويتعيّن علينا لأجل أن لا نُسيء إليها ، عدم التوّغل في عرض هذه الأفكار أو تحليلها ، إنما الانتباه فقط إلى الإدارة التقنية للفيلم التي تُحركها إرادة فنية مستقلة . ذلك بوصف ( الفيلم ) الأداة الجديدة ، لكن البارعة في تصوير الحياة والأفراد والمعنى الذي يُوحدهم ، بطريقة خاصة تتيح لخالق الصور الفرصةَ المثالية لتأمل قوة رموزه وللفيلم قدرة التعبير عن نفسه. أليس لنا أن نستمتع بالمعنى الذي يُظهره الفيلم أو يخفيه ؟ ربما على الأوجه كافة ، توجد في الفيلم قصة ما ، وإن لم تكن ، ففكرة معينة يطرحها . وأي تحليل للصورة السينمائية عليه أن يمر بإدراكاته الأولى لها ، صعوداً نحو المعنى العميق فيها . بحيث لن يكتمل المعنى المُعطى بالنسبة لمن يتأمله بغير استبصار كافٍ لجمالية كل صورة ولقطة من صور الفيلم ولقطاته فكيف سيتحدد الأمر لشخص يتطلع لذاك الفهم ، راغباً في قراءة الفيلم كطموح خيالي مشروع ؟ ليس من الواجب أن لا نحاول ذلك ، مع أن المنظر المعتاد للفيلم يُقرّب الإحساس أحياناً بالطابع التعليمي للسينما ، الذي يفقد توازنه عادة مع مُشاهد مُفترض يُجسّد البلبلة الدالة ( للمثقف ) الواجب مراعاتها للحفاظ على فنية الفيلم . وقد يكون في الاشتعال الحر على ( المُشاهد الفرد ) الفرصة المناسبة لأثارة بعض الأسئلة المتعلقة بإرضاء مختلف مستويات التلقي ، حينما يكون الصفة البارزة للفيلم أكثر من غيره . فبينما يميل المُشاهد العادي " للفيلم السايكولوجي " إلى الاعتقاد أن حياته تحتاج منه- أكثر من أي وقت – وقفة لتأملها بحسٍ مختلف ، باعتبار أن حقيقة الحياة ليست في تلك المظاهر اليومية الطافية على السطح والمنظورة دوماً . يذهب المُشاهد الحصيف إلى أدراك آخر يؤكد أن الحياة بشمولها على قدر كبير من الغموض ، وهي ما يستعصي إدراكه ببساطة ، بل لا يمكن لنا فهمها فهماً حقيقياً ! بشكل آخر يمكن القول : بينما يميل الانبهار إلى التلاقي مع " صورة الفيلم " ينأى الشك بعيداً عنها.
إنها ليست أكثر من وصوفات ممكنة
لأحاسيس المُشاهَدة ( بافتراض التدرّج في ثقافة الحواس ) تقود إلى الملاحظة
المقلقة
والمتعلقة بكون الفيلم ليس وجهة النظر الشخصية القابلة للإهمال والمغادرة ،
بقدر ما
أن وظيفته تجسدت اليـوم – باختيار غير معلن – في محاولته تبديل
أُطر حياتنا والتدخل
فيها بجرأة لا تقاوم ، تُظهر في النهاية ؛ أن غواية الفن هي بالضبط ما
يتشكّل عبر
قابليته الخاصة اللامحدودة ، ليتمثل تحديداً في تحويل المسارات الشخصية
للأفراد ،
لا عن طريق شيء ما مُشخّص وزمني ، إنما بتعاقبه الجمالي الملحوظ ، الذي
يُضفي دلالة
ما على مقطعٍ جوهري من حياتنا الخاصة . حينها تبدو حالات الألم واللذة ،
الكراهية
والحب ، العقل والجنون ، عالقة ومشعة في سماء ذاكرتنا ، ممكنة
ومنحازة – كتعبير
أوحد عن علاقة الذات بالعالم ليس مستبعداً هذا إذا نظرنا إلى الفيلم بوصفهِ نوعاً من الشعر المحض ، وسيلة تعبير خالصة ، لا يمكن الاتصال بعناصرها ، إلا من خلال محاولة استقبالها كطريقة جيدة للتنظيم الداخلي " للصورة السينمائية " بين مبتكرها ومتلقيها الأمر الذي يجعل من الأشخاص متفاوتين في قدرتهم على إكمال الوهم السينمائي ، وفق تباين استعداداتهم الذهنية على التصديق ( الاندماج أو المراقبة ) بحيث لن يكون بوسع الفيلم – في الغالب – أن يتبنّى وصفة جاهزة يمكن تلقينها للجمهور لضمان مشاعره خلال العرض . فعناصر الفيلم المُكوّنة تشكّل في ارتباطها كًلا موحداً يُؤلف المعنى . ولو أمعنا النظر جيداً في الصورة ( فيلم الحاسة السادسة على سبيل المثال ) وهو أبرز الأفلام النفسية الرصينة ، لن نجد ما يدل على أن مُكّون الفيلم التأثيري يستبق مشاعرنا كمشاهدين ، من أجل تحقيق القصد العام للفكرة ، إنما يحاول فقط إرضاء فضولنا لمعرفة تنامي الأحداث في القصة. معنى ذلك أن الارتياب المبثوث في هكذا نوع من الأفلام ، يتحوّل تماماً إلى الإحساس العميق بالتكوين المتواتر للأسلوب ، فيَجعل الأشخاص – تدريجياً – يُصدقون في " الصورة الفيلمية " ما يَرفضوه في الواقع . رغم أن " الصـورة " على نحو ما ليست ببعيدة عن واقع الأشياء المُدرَكة ، ذلك إذا أعرنا انتباها كافياً لإحساسات المُمثّل وأفعاله الواقعية عند تأديته الدور المرسوم له . بالطبع دون تَمثّل جوانية الشخصية المُؤداة حقيقة ، إلا بشكل مؤقت يُزيد من وهم تصديقها والتأثر بها [ الأمر الذي يُبقى على الالتباس ، هو وجود واقعية أساسية فعلية للسينما .. ] لا أظن أن القارئ سيحتاج إلى التذكير ، إننا نستمع أيضا إلى القصص التي يرويها الأشخاص ، فنحاصر بقوة أسلوبهم على تصديقها ، ناهيك عن جديّة طرائقهم في الحديث المؤثر عبر براعة إيماءات الوجه ونظراته ، والاهم من ذلك ، حضور الراوي الواقعي. والحكاية نفسها تُؤلف هنا رباطاً وثيقاً مع المُشاهد ، حينما يتلقى الصور المسرودة في الفيلم من راوٍ مجهول ، أكثر جاذبية أحياناً . نميل معه برغبة دفينة إلى التصديق المُمعن بتلقائيته القريبة من استقبال الحُلم ، ذلك الذي يرفض – بشدة – عدم ابتكار تأويل مقنع لعناصره البارعة وصوره الطيفية ، خلال استعادته الواعية إنه الضمان الأخير الذي يُبقي على العقل سليماً من نزعة التجريد التي تُحلّق فوقه ، فتستوجب منّا أشغاله بسحب الخيال البيض ، ريثما يُتقن الطيران الحر. خشيتنا إن لا توّفق افتراضاتنا حسب الكيفية التي تتحكّم بشمولية استنتاجاتنا في قراءة الفيلم ، لكنها على الأقل ، قد تسمح للبعض بالتقاط تفسير ما لبراعة ذلك التأثير المحايث لآنية استقبال الفيلم السينمائي ، الذي ليس إدراكه سوى متعة متحصلة من تَلقّي جمالية العلامات الحسية ( لّلقطة القريبة). حقاً إن الإنجاز الفذ للفن هو ما يُوصف بقدرته إلقاء الضوء الشديد على ظلاميتنا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع "الفيل" السينمائي في 1 فبراير 2005 |