د.هدي الزين.. مؤلفة «الباحثات عن الحرية» غاضبة إيناس الدغيدي حولت روايتي إلي سينما تجارية! محمود القمحاوي |
* بعض النقاد لم يقرأوا الرواية ولم يشاهدوا الفيلم ومع ذلك انتقدوا الرواية والفيلم عملا بالمثل القائل «اللي علي رأسه بطحة» يعزي الكثيرون شهرة كاتبنا الكبير نجيب محفوظ ليس فحسب إلي حصوله علي جائزة نوبل التي جاءته في عمر متأخر ـ ومن المعروف أن أحد أهم شروط الجائزة أن يكون الحاصل عليها لايزال علي قيد الحياة- وإنما إلي اللمسة السينمائية الساحرة التي حولت رواياته إلي صورة متحركة وصنعت من أسمائها أفيشات! وقد ا سار علي درب محفوظ ـ الأشهر في هذا المجال ـ أو سار معه كثيرون يقف في مقدمتهم عميد الأدب العربي طه حسين الذي أهدانا عملا خالدا هو «دعاء الكروان» وإلي جانبه يوسف السباعي وعميد الأدب السينمائي ـ إن صح القول ـ إحسان عبدالقدوس. كان من أبرز من تألقوا مؤخرا.. أو واصلوا تألقهم الدكتورة هدي الزين والتي قدمت لنا قصة فيلم «الباحثات عن الحرية» الذي قامت بإخراجه إيناس الدغيدي وصنع السيناريو والحوار له رفيق الصبان.. المأخوذ عن رواية «غابة من الشوك». انطلاقة هدي الزين كانت مع ديوان «بداية الأسفار» الذي أصدرته عام 1980 وبعد سبع سنوات من بداية عملها بالصحافة. وقدمت بعده عدة أعمال إذاعية وتليفزيونية قبل سفرها إلي باريس وكان من بين هذه الأعمال تجربة مهمة تناقش نفس الإشكالية التي تتصدي لها سواء الدكتور هدي الزين أو إيناس الدغيدي والمتعلقة بأوضاع المرأة في عالمنا العربي. كانت التجربة عبارة عن مسلسل تليفزيوني بعنوان: «أوراق امرأة»، ورغم أنه قد مر عليه ـ إلي الآن ـ عشرون عاما إلا أن القضية التي ناقشها وهي «حرية الاختيار لدي المرأة» لاتزال مطروحة. كان لي لقاء مع الدكتورة هدي الزين أثناء زيارتها الأخيرة للقاهرة التي وصفت لي بانبهار سحرها لاسيما صورة النيل ـ نجاشي ـ من شرفة غرفتها بالفندق. · بدأت حواري معها بسؤال عن التلاقي بينها وبين إيناس الدغيدي.. كيف بدأ؟ ـ بدأت هدي الزين تروي: كتبت «يوميات عربية في باريس».. عن واقع القرية بالعاصمة الفرنسية. وددت أن أحكي تجربتي للقراء كي يتعرفوا كيف استطاعت امرأة أن تسقط حاجز الصعوبات الكبيرة التي كانت أمامها. وقد صدرت اليوميات مرتين كانت الأولي عن «دار العين» في أبوظبي بينما كانت الثانية عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب». والتي صدرة عنها روايتي «غابة من الشوك» التي أخذ عنها فيلم إيناس الدغيدي. وقد نجحت هذه الرواية التي صدرت عام 1999 نجاحا كبيرا فقمت بتقديمها إلي إيناس الدغيدي أثناء إجراء أحد الأحاديث الصحفية معها في باريس. وقد أعجبتها الرواية واتصلت بي وأتيت إلي القاهرة واتفقنا علي أن يقوم الدكتور رفيق الصبان بكتابة السيناريو. · قاطعتها.. لماذا الدكتور رفيق؟ ـ قالت: لأن الدكتور رفيق الصبان له تجربة في باريس. يضاف إلي ذلك قناعتي بأن أحدا لا يستطيع الكتابة عن تجربة لم يعشها.. وقد أردت أن من يكتب سيناريو هذا الفيلم لابد أن يكون قد عاش «باريس» وحكاياتها.. وتعرف علي مزاياها وعيوبها وغموضها ومشكلاتها. * وعادت د.هدي الزين لتروي قصة تلاقيها بإيناس الدغيدي قائلة: اجتمعت مع إيناس ثم انضم إلينا الدكتور رفيق الصبان وناقشنا الفكرة وقرأنا أكثر من مرة السيناريو. وكنت كلما حضرت إلي القاهرة أذهب إليها. ومكثنا عاما ونصف كنا خلال هذه المدة نتناقش حتي في التفاصيل الصغيرة. وفي التصوير بباريس كنت معهم. رغم أن البرد كان قارسا وواجهتنا صعوبات مادية وأمنية في باريس، حيث كان التصوير صعبا للغاية خاصة أنه تواكب مع الأحداث التي شهدتها إسبانيا. · لكن.. ما المقصود من كلمة «الشوك»؟ ـ كتبت «غابة من الشوك» كنت أقصد باريس. وانها غابة جميلة فيها كل شيء. فيها أشجار وعصافير لكن فيها أيضا مخاطر وأشواك وأنه من الصعب امتلاك القدرة علي مجاربهة هذه المدينة الصعبة. فأي إنسان يذهب إلي هذه الغابة سوف تدمي قدماه خصوصا إذا لم يكن يمتلك القدرة علي التحدي. عندما وصلت المطار بباريس شعرت بالخوف والوحدة. كانت لحظة صعبة علي ولكن بمجرد وصولي الفندق غاب عني هذا الخوف. فلم أعد أخاف من جيراني ولا من رفاقي أو حتي من البوليس. لم أعد أخاف من أي شيء في العالم . كنت مثل العصفور. · توقفت سارحة.. قلت ثم ماذا؟ ـ نحن كعرب سمعتنا سيئة للغاية.. من الصعب أن تجد بيتاً أو عملاً. وإذا عملت يكون في حدود معينة من الوقت وفي أعمال صغيرة. عملت «بيبي شير» ـ جليسة أطفال ـ رغم أنني كنت جامعية ومشهورة في بلدي كما أنني أنحدر من عائلة عريقة بسوريا. وقد نقلت هذه الصعوبات من خلال «يوميات عربية» وجاءت بعدها تجارب رأيتها من خلال أصدقائي والناس من حولي. كانت التجارب نوعين تجارب شخصية وتجارب إنسانية. وعندما امتلأت الذاكرة خرج هذا العمل الأدبي. · صرحت بأن الدور الذي قامت به داليا البحيري في فيلم «الباحثات عن الحرية» يمثل شخصيتك الحقيقية.. كيف؟ ـ داليا كانت تتحدث عني. لا أنكر أنني خرجت من الطلاق. لكنني أردت ألا يكون الطلاق نهايتي، ومع ذلك فقد شعرت بعده بأن أمورا كثيرة حدثت في الحياة. · هل كان الطلاق نتيجة لشعور زوجك بالغيرة منك؟ ـ كان رجلاً يشعر بالغيرة.. كنت في هذه الفترة معروفة الاسم جدا من خلال الإذاعة. ومع اهتمامي الزائد بأولادي كان زوجي يريد أن يلغي جانب الشهرة لدي. وبعد خروجي من مشكلة الطلاق وجدتها مشكلة مرعبة للمرأة العربية حتي إن كانت مثقفة حيث تصبح كل الأنظار موجهة إليها وينتظرون منها أي خطأ.. لدرجة أنها إذا لم تكن مخطئة يمكن أن يركبونها خطأ ويتحول كل أهلها إلي رقباء عليها. وكان أمامي حلان الأول: أن أتزوج كي أرضي الناس. لكنني كنت متحررة منذ صغري وتربيت في مدارس مشتركة من مدارس النخبة في اللاذقية بسوريا. لم يكن الرجل يمثل لي أزمة. دخلنا في النواحي الشخصية. وجدت قصتي مع الغربة مخيفة. أن أذهب إلي الغربة كي أصير مثلما أطمح بعد أن أوقف الزواج كل طموحي. فأصبحت مثل عصفور خرج إلي النور وعليه أن يتعلم التغريد. كان هذا التغريد عذابا لمدة سنة في باريس وهو ما خرج في «يوميات عربية في باريس». عندما ارتحت وبدأت أعيش تجارب باريس الحقيقية.. الغربة والألم والمعاناة. وهكذا كتبت شخصية داليا البحيري التي تحدت كل شيء لكي تنجح. جعلتها شخصية إيجابية كي تمثل كل الشخصيات العربية النسائية أو الرجالية التي تذهب إلي الغربة كي يتسفيدوا من العمل والثقافة ومن كل ما تقدمه هذه العاصمة العظيمة التي تزخر بثقافات العالم كلها والتي تصب من كل الاتجاهات. والتي كلما نهلت منها زدت ثراء. لكن هذا الثراء لم يتوافر للبنانية الهاربة من الحرب والباحثة عن الأمان، حيث لم أكن خارجة من حرب كما لم أعط هذا الغني للمغربية الهاربة من الفقر والتي كان كل همها المال. · لكن هل أضافت إيناس أبعادا أخري إلي الدور الذي قامت به داليا البحيري أم نقلته كما هو؟ ـ كان دور داليا في الرواية بسيطاً. لم يكن به أزمات. لكن إيناس الدغيدي صنعت له عمقا. لم يكن لها ابن في الرواية ينتظرها. هي أدركت أنها امرأة فذهبت كي تبحث عن وجودها لأن زوجها قام بقمعها وهو ما ظهر في قول زوجها لها: «أنت نجحت بأنوثتك» بمعني أن دلالها علي النقاد كان هو السبب وليس لأنها موهوبة. وبالتالي هي ذهبت إلي باريس كي تؤكد موهبتها لأنها لـأنها أنثي أو جميلة. وهكذا تتطابق شخصيتي مع شخصية عايدة. · الذين رأوا اللبنانية وهي تؤدي دور صحفية كثيرون منهم أصابهم الاستياء مما شاهدوه واعتبروه إساءة لصاحبة الجلالة؟ ـ الحقيقة أنها تعبت نفسيا من جراء الحرب. لكنها كانت صحفية ماهرة وجدية. إلا أنها أيضا لم تكن تعي ما تفعله بالليل. كان لدينا صحافة مهاجرة ترتزق من دول وأشخاص ومؤسسات وأسماء. وقد سقطت العديد من الصحف بعد سقوط المؤسسات أو الدول التي كانت تقف وراءها. وكل مؤسسة كان وراءها زعيم أو شخصية كبيرة. إذن لماذا لا تقول الحقيقة؟ لست خائفة. فعبدالله الذي انتحر كان انتحاره بسبب إذاعة عربية موجودة بباريس طردته إلي الشارع رغم أنه كان حاصلا علي درجة الدكتوراة. لماذا لانتحكي الحقيقة ونصر علي وضع غمامة علي عيوننا. أناس كثيرون قاموا بنشر نقد رغم أنهم لم يشاهدوا الفيلم. هم يريدون نقدا من أجل النقد. ودون قراءة متأنية وعميقة. والمثير للسخرية أن ناقدا أعرفه نفي أن تكون الرواية أو الفيلم بحالة جيدة رغم أنه لم يقرأ الرواية.. إذن كيف تكتب كناقد ولم تقرأ الرواية؟! ثم إنهم كانوا يهاجمون إيناس الدغيدي فما دخل روايتي التي صدرت عن هيئة محترمة هي الهيئة المصرية العامة للكتاب ولماذا كل شخص يعتقد أنه معني بشيء مما ورد بالفيلم. · عرض الفيلم ونال جائزة أحسن فيلم عربي التي خصصتها وزارة الثقافة.. في رأيك الآن.. إلي أن مدي تنجح الأفلام التي تؤخذ عن أعمال أدبية، وهل تضيف إلي العمل الأدبي أم تنقص منه؟ ـ تضيف أحيانا. روايتي اضطر لطباعتها مرة ثانية لأن كل الناس تحب أن تقرأها. فالأفلام تضيف قدرا كبيرا من القراء إلي العمل الأدبي. لماذا؟ لأن أكبر عمل تطبعه هو عشرة آلاف أو خمسة عشر ألف إلي عشرين ألف نسخة. في حين أن عدد من يروا فيلم لإنياس الدغيدي من الخليج إلي المحيط يقرب عددهم من عشرة ملايين، فضلا عن أن إيناس أوصلت الفكرة التي كنت أريد قولها. هي ربما أضافت أشياء إلي السيناريو لأسباب فنية وكي تجعل للفيلم جمهوراً وشباك تذاكر. لكن هذه الأشياء التي أضيفت كانت من أجل هدف سينمائي وهدف تجاري. وليست لي علاقة بذلك! · هل تقصدين المشاهد التي تمتزج بالجنس؟ ـ الجنس موجود في العالم كله. تجده في الشارع بباريس فتجده مثلا في حي البيجال. هناك لوحات فيها جنس كامل فالمومسات تجدهن في الشارع عاريات. ليس للجسد قيمة في الغرب. نحن لسنا مثلهم فنحن نقدس الجسد. هناك فارق بين عقليتنا وعقليتهم. البنت عندنا تمارس الجنس ثم ثاني يوم تحاول الانتحار. هذا طبيعي في حياتنا مثل الأكل والشرب. · إيناس الدغيدي مخرجة ذات توجه فكري معين يمكن أن نلخصه في وصفها «بالنسوية».. بماذا تصفين تجربتك في التعامل معها؟ وهل تنوين تكرارها؟ وما رأيك في فريق العمل الذي صنع الفيلم؟ ـ لا. هناك شيء ما. يقال لي إنني أكتب كثيرا عن المرأة. هذا حدث في «أوراق امرأة». وفي مسلسلي التليفزيوني «نساء من هذا الزمن» شخصياته أربع نساء بدون أن أتعمد يحدث هذا لأنني امرأة ولي تجارب وقد عملت كمحامية لفترة عشت فيها في قصر العدل. ثم عملت كصحفية علي السجون، والأحداث المتعلقة بقضية المرأة هي التي شدتني. أنا مثلا عندما أحكي عن الطلاق هذا يتم عن كوني امرأة تألمت منه. وهكذا عندما أحكي عن الأمومة. من يستطيع أن يحكي عن المرأة إلا المرأة؟ ولكن الرجال يأخذون أيضا حيزا من أعمالنا. لاحظ الشخصيات التي وضعتها تجد شخصيات مختلفة منها السوية مثل تلك الشخصية التي قام بها أحمد عز أو أخري متخلفة مثل شخصية المغربي الذي يضرب أمه ويعامل البنت وكأنها جارية لديه لأن شخصيته ليست سوي امتداد لشخصية أجداده، هذا علي الرغم من أن هذا المغربي يعيش باريس. أقول إنني تعاملت مع شخصيات الرجال بعمق كمان. ولكن النساء محوريات أكثر. لأنه عندما تكتب عنهن نساء مثلهن فهن يشعرن بأنفسهن فيما يكتب. جريدة القاهرة في 1 فبراير 2005 |
الباحثات عن الحرية : وراء كل امرأة ضحية... رجل قاتل! رحلة شاقة في عالم إيناس الدغيدي السينمائي القاهرة ـ كمال القاضي كلمة الجرأة من الكلمات التي ترددت كثيراً في أفلام المخرجة إيناس الدغيدي، واقتصرت دلالتها عند البعض علي مفهوم واحد فقط هو التناول شبه الإباحي العاري من الغطاء الأخلاقي أو الاجتماعي، ولأن هذا التعريف مرفوض من وجهة النظر الاجتماعية المحافظة فقد اكتسبت إيناس شهرة واسعة حصلت عليها بفضل الدعاية المضادة والتراكم السلبي لدي جمهور المشاهدين من ذوي الثقافات المتوسطة.. ومن هنا دخلت المخرجة ذات الخمسين ربيعاً دائرة اهتمامهم، ومع مضي الوقت تم تصنيفها كواحدة من المتحررات واتسمت معظم افلامها بالابتزاز الغريزي واللعب علي الرغبات المكبوتة كنوع من التعويض وللمخرجة تجربة طويلة في هذا المضمار فقد خاضت الكثير من المعارك نتيجة تمسكها بهذا الاتجاه واعتبارها النقد الموجه لأعمالها نوعا من الهجوم الشخصي وإيمانها بأن كسر التابو الأخلاقي في أفلامها احترام للعقل وحماية للسينما كفن إبداعي من الوقوع في براثن النمطية والقيود التي تعرقل بالضرورة الملكة الإبداعية وتحد من افاق التعبير.. وهذه القناعة قد عبرت عنها إيناس في تجاربها السينمائية السابقة مثل كلام الليل ومذكرات مراهقة وفيلمها الأخيرة الباحثات عن الحرية وهو التجربة الأكثر نضجاً قياساً علي أعمالها المذكورة .. ويأتي تميز هذه التجربة بالتحديد لاعتبارات كثيرة أولها أنها خرجت من المساحات الدرامية الضيقة المتمحورة في معظمها حول نزوات شخصية لأبطالها إلي أفق أكثر اتساعاً يسمح بعرض قضايا إنسانية ذات أوجه مختلفة، فهي تعتمد في الفيلم علي ثلاثة نماذج لسيدات من جنسيات عربية مختلفة - داليا البحيري (مصرية) هاجرت لباريس هرباً من ديكتاتورية زوجها الذي يرفض الاعتراف بها كفنانة تشكيلية متميزة و(نيكول برودويل) اللبنانية الشقراء الهاربة أيضاً من جحيم الحرب بعد فقدانها لحبيبها وإصابتها بـ شيزوفرينيا جعلت منها شخصية سادية أو سايكو درامية .. أما النموذج الثالث فهي سيدة مغربية سناء موزيان باعت نفسها لشيطان الغربة مقابل إقامتها وكفالتها في العاصمة الفرنسية التي لا تعرف الرحمة.. ثلاث شخصيات لثلاث نساء مغتربات شكلن فيما بينهن الأضلاع الاساسية لسيناريو رفيق الصبان المأخوذ عن قصة الكاتبة الروائية هدي الزين، إذ تم تقييم كل نموذج في مساحة درامية وفيرة مكن المخرج من تمرير أراءها وهواجسها الشخصية في قضية اضطهاد المرأة وذكورية المجتمعات الشرقية فقد أرجعت كافة التشوهات النفسية الموجودة ببطلاتها الثلاث إلي تعسف الرجل واستبداده كأنه كائن مقطوع الصلة الوجدانية بالمرأة ولا ينظر إليها إلا بعين حيوانية وكل ما يشغله فيها هو الجسد فقط ولا يضع اعتباراًَ أو يقيم وزناً للعقل، ولم يفت المخرجة أن تؤكد ذلك مرات تصريحاً وتلميحاً، فعلي سبيل المثال بطلتها الرئيسية داليا البحيري ارتبطت خلال وجودها في غربتها الجبرية بشاب وسيم يهوي الفن التشكيلي أحمد عز التقت به في احد معارضها ودون مقدمات جمع بينهما الفراش وعلاقتهما الإنسانية لاتزال في طور التكوين، وحتي بعد ان اختارت البطلة العودة للقاهرة لتكون بجانب طفلها الوحيد بعد أن رأته صدفة أثناء وجوده ضمن رحلة مدرسية لزيارة معالم فرنسا، لم يشأ السيناريست او المخرجة أن يدينا الأم لكنهما تحاملا علي العشيق لأنه لم يضح من اجل عشيقته ويسافر معها إلي موطنها.. والحقيقة ان المشهد كله قائم علي المزايدة والتلفيق فلا توجد ثمة منطقية في الأحداث بدءاً من نشأة العلاقة المؤقتة وسفر الطفل الصغير جداً في رحلة مدرسية لدولة أوروبية ونهاية بالسفر المفاجئ للزوجة التي لم تحل بعد مشكلتها مع زوجها والتي كانت سبباً مباشراًَ في اختيارها الهروب إلي باريس! أضف إلي ذلك سرعة الإيقاع في تطور الأحداث دون التمهيد الدرامي وإحداث التجانس المطلوب علي المستوي النفسي والموضوعي. كما أن ضحيتها الثانية السيدة المغربية قد ارتضت لنفسها أن تعيش في معية رجل ثري ينفق عليها مقابل المتعة ويعايرها بما يحصل عليه منها مراراً وتكراراً.. وهو الأمر الذي لا يثير التعاطف معها ويجعل الحكم بتأثيم العلاقة (من الإثم) حتمياً علي الاثنين معاً ومع ذلك لم نلحظ ظلال الإدانة للرجل متضمنة في ثنايا الحوار سواء القائم بين البطلة ورفيقها أو البطلة مع صديقاتها.. وهو الإصرار أيضاً علي عدم الحيادية والرغبة في إسقاط الحقيقة والشويش علي ما هو مستوحي بين السطور. غير أن النموذج الثالث وهي اللبنانية نيكول بروديويل كانت ضحية رجل أيضاً تركها وفقد في الحرب فولد لديها عقدة نفسية كأن فقدانه كان أمراً اختيارياً أو أن الحرب اللبنانية قضية شخصية يمكن أن تترك أثرها النفسي علي الإنسان الفرد بهذه القسوة فتحوله من مخلوق سوي إلي محترف بغاء وقاتل يثأر لنفسه مما هو واقع علي شعب بأكمله.. الملفت في تكوين هذه الشخصية أنها صحافية مثقفة تعتنق مبادئ إنسانية نبيلة وترفض المساومة وتعيش صراعاً مع رئيس تحرير مرتش وفاسد.. وهذه إشكالة أخري تمثل تناقضاً نفسياً لا يتوافر حتي في الإنسان المريض.. غير أننا إذا افترضنا جدلاً وجود مثل هذه الحالات الاستثنائية فيجب أن يكون رد الفعل الإجرامي لدي المريض أو المريضة موجه ضد العنصر المباشر الذي يثير الاستفزاز كرئيس التحرير الذي يجبر الصحافية علي الانصياع لإغراءات رجل الأعمال الفني صاحب النفوذ سمير شمص قبل أن يوجه لمن هم بعيدون عن محور الضغط المباشر، وهو ما تم تداركه في نهاية الفيلم بعد أن تم اغتصاب البطلة في عرض الشارع تحت تهديد السلاح.. وبالنظر ملياً في أدوار الرجل نستخلص أن هناك نية لتهميش العنصر الذكوري للتدليل علي عدم فاعليته الإيجابية حيث لم تتعد الإسهامات الدرامية للأبطال هشام سليم أو أحمد عز كونها ردود أفعال تنم عن ضعف وهوان.. فهشام سليم صحافي يعمل محرراً سياسياً في ذات الجريدة التي تعمل فيها نيكول برودويل تربطهما علاقة ترقي فوق مستوي الزمالة والصادقة ولكنهما لا يحققان الانسجام الكامل ويعيشان حالة من القلق والسخط، ولا توجد ملامح لخلفيات حياة هشام سليم كمال غير شذرات لا توحي بكونه محرراً مسلوب الإرادة والقدرة علي اتخاذ موقف إيجابي ضد سلوكيات رئيس التحرير المشينة وينسحب ذلك أيضاً علي شخصية الصحافي السوداني الذي مات منتحراً بعد أن ألقي بنفسه تحت إحدي السيارات لفشله في التكيف مع المجتمع المحيط به وعجزه عن توفير احتياجاته الأساسية.. مأساة مرت مرور الكرام وكان بإمكان المخرجة أن تصنع منها إطاراً إنسانياً شديد التأثير لو توقفت عندها لحظات ولم تنشغل بأجساد وغرائز بطلاتها وانحرافاتهن خاصة وأن هذه الجزئية جسدت بشكل ضمني فداحة ما يفعله الرجل في غربته لو أحبط وانكسر وعازته إرادته وتخلي عنه المجتمع وتركه بين مطرقة الوحدة وسندان الجوع والاغتراب!؟ إشكاليات كثيرة ماج بها فيلم إيناس الدغيدي في رحلة بحثهــــا عن فردوس الحرية المفقـود وعشرات التفاصيل استغرقت بطلاتها الثلاث التي رأت أنهن ضحايا مجتمع الذكور بينما غضت الطرف عن سلوكهن الشخصي كي تؤكد دائماً أن وراء كل امرأة ضحية رجل!! القدس العربي 3 فبراير 2005 |