شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

 

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

يوتوبيا حالمة في فيلم "منزل الرمل والضباب"

علي مدن

 

 

 

 

 

            يستيقظ الكثير منا بلا ذاكرة حقيقية عن أحلامه، إذ يقول علماء النفس إن الإنسان يرى أربعة أحلام في منامه وإذا كان محظوظا فإنه يذكر آخر حلمين. تتمتع الأحلام بوصفها صورة متحركة، وعلى الأرجح هي أقدم صورة متحركة بغياب تام للتتابع الزمني، وبصورة أدق هي تداخل سريالي لأزمنة وأماكن متعددة، وغياب للدليل المادي إذ يحل محله يقين حدسي بحقيقة الأشياء والأشخاص، فرغم أن الأماكن أو الوجوه قد تظهر في احلامنا بصورة مغايرة عن الصورة التي نعرفها بها حقيقة، إلا أننا نتعرف عليها بلا صعوبة مهما بلغت درجة الاختلاف.

يستعين بعض المخرجين بجو الحلم أو وجهه الآخر ألا وهو الكابوس. تكون هذه الاستعانة عند البعض في سرد جزء محدد من الفيلم، آخرون يعمدون الى طبع الفيلم كاملا بهذا الجو. وعند الحديث عن الحلم أو الكابوس في السينما قد تقفز أسماء عديدة من مقاعدها، لكنها ليست كلها معنية بما وصفته.

أحد الأفلام المعنية هو الفيلم الغريب ولنقل النائي عن التيار الرئيسي للسينما “منزل الرمل والضباب”. الفيلم المقتبس من رواية تحمل الاسم ذاته أثار اهتماماً معقولاً في الصالات العربية، نظرا لكون أحد شخصيات الفيلم الرئيسية هي عائلة إيرانية أرستقراطية مهاجرة خلفها نظام الشاه بأنف سليم وكيان محطم، تكافح في الخفاء كباقي المهاجرين في أمريكا.

هل يذكر أحد ما كيف بدأ حلمه، لا. نكتفي بالقول عندما نستطيع السرد:كنا وذهبنا وفعلنا ورأينا. هذا الفيلم يبدأ أيضا بمشهد يتبخر تماما مع جريانه. الكولونيل السابق مسعود يرفع نخباً في حفل زواج ابنته المقام في قاعة فخمة ويروي قصة كوخه السابق على شاطئ قزوين، القصة التي يعيدها هو طواعية ويجبره منزل الرمل على إعادتها في أوقات لاحقة.

يعمل مسعود صاحب المرسيدس والشقة الفخمة مع عمال البناء في الصباح وفي كشك منسي في شارع في المساء، ليقي زوجته “نادي” أو “نادرة” من التيه كالغجر. في الوقت نفسه تستيقظ “كاثي” على صوت الهاتف في منزل الرمل الذي تتكدس فيه أكياس الطعام وعلب المشروبات ورزم الرسائل بالقرب من الباب. كاثي وحيدة، تخلصت من إدمان الكحول والسجائر منذ ثلاث سنوات، تغلف نفسها بنوع من العزلة وتتجاهل العالم بصمت كما يمكن أن نخمن. ثم نعود إلى الهاتف، انها والدتها، كاثي لم تخبرها أن زوجها قد تركها منذ زمن وأنها وحيدة، لذلك تخبرها أن زوجها سيكون غائبا في عمل عندما ستأتي لزيارتها في الشهر القادم. تغلق الهاتف ويأتي دور الباب. وعندما تفتح الباب تجد موظفي المقاطعة يعلمونها أن عليها إخلاء منزل الرمل، لأنها لم تدفع ضرائب معينة، وسيوضع المنزل في مزاد للبيع، تهتاج كاثي رغم أنها ترى أكداس الرسائل عند الباب تعلم تماما أن منزلها ملكية خاصة وليس عليها أي ضرائب، يساعدها ضابط لطيف في جمع أشيائها، لكننا نلحظ أن غلافها لا يزال متينا وأنها لن تنهار الآن.

يقرأ مسعود إعلان المزاد في الصحيفة ويفاجأ بالسعر البخس وتعلو وجهه ملامح النصر، شيء لم يذق منه الكثير مؤخرا.

تنتقل العائلة إلى منزل الرمل، تنتقل كاثي إلى سيارته.تستشير مكتب محاماة ويعلمونها أن المقاطعة قد ارتكبت خطأ، تسأل كاثي إذا كان بإمكانها العودة إلى منزلها في الشهر القادم، من أجل أمها طبعا، لكن المنزل قد بيع، يبدأ غلافها بالذوبان قليلان وتجد أنها مجبرة على مواجهة شيئين مهمين في الحياة، كانت قد تجاهلتهما سابقا: نفسها والعالم المحيط.

مسعود الذي بات أكثر راحة في سلوكه الأرستقراطي يفكر بالسعر التجاري لمنزل الرمل، كما يجد نفسه مجبرا عندما يرى زوجته تنظر من النافذة التي تطل على الرمل والبحر وتغني بالفارسية متذكرة كوخ قزوين وخلال النصف الساعة التالية تتردى أحوال كاثي، تقابل الضابط اللطيف مرة أخرى، ويصبح لدى كل شخصية منولوجها الخاص حول منزل الرمل.

تعي كاثي شيئا فشيئا مسؤوليتها عن ضياع منزل الرمل: (استغرق أبي ثلاثين عاما حتى يبنيه، استغرقني ستة أشهر لأضيعه). تبدأ الجملة الحمراء بالرنين في رأسها: منزلي مسروق.

الضابط وهو يرى العائلة الإيرانية تبتسم في الشرفة التي تطل على الرمل والبحر بماذا يحتفلون؟ بسرقة منزل امرأة وحيدة! مسعود: نحن مواطنون أمريكيون وهذا منزلنا. “نادي” تحمل مسعود مسؤولية خروجهم من إيران ورغم استغراقها هي الأخرى بجمال منزل الرمل، إلا أنها تحس عندما تحدق بوجه كاثي الجميل وهي تشرح لها بلغة لا تفهمها قيمة المنزل وتطلب منها أن تقنع زوجها بإعادة البيت، بخوف على مصيرها ومصير أبنائها، خوف نابع من هؤلاء الأجانب أصحاب الوجوه الجميلة واللغة الغريبة.

يصل الخلاف بين الطرفين حدا لا رجعة بعده، تعتقد كاثي أنها وصلت إلى الهاوية عندما يعود الضابط إلى عائلته ليسوي أموره مع زوجته وأبنائه، ويلتمس كلا الطرفين: المرأة الجميلة الوحيدة والعائلة السمراء نوعاً من الحنو على الآخر، لكن دون رغبة بالتنازل عما يعتقدون أنه حق لهم.. يشتد الضباب.

تأخذ كاثي عدة زجاجات من الشراب، مسدساً، وتستقل سيارتها إلى منزل الضباب، تتجرع الزجاجات وتبكي، توجه فوهة المسدس إلى وجهها لكنه لا يعمل تستأنف البكاء، يسمعها مسعود الذي يهرع لحمل الوحيدة الجميلة إلى الداخل بعيدا عن فوهة المسدس بعيدا عن رائحة الشراب، يضعها على سرير ابنه الصغير وتدخل نادي بفنجان شاي شرقي، تأخذها إلى الحمام من أجل أن تستعيد نشاطها، تفضل كاثي الشروع بما بدأت به تتناول حبوب “نادي” المنومة لكنها تتقيأها بسرعة تنجدها نادي، تضعها في سريرها هذه المرة. عندما يعود الضابط يبحث عن كاثي يجد سيارتها يقتحم منزل الضباب ويحبس العائلة كلها في الحمام طوال الليل بخشونة مفضلا الاعتقاد أنهم سبب مرضها، يفكر مسعود في الحمام: الرجل الذي يصرخ وهو يحمل مسدساً هو رجل خائف.

يعرض مسعود على الضابط أن يدفع لهم المبلغ الذي اشترى به البيت مقابل أن يظل منزل الضباب ملكا له، يقع الضابط تحت إغراء المبلغ، ترتاب كاثي وترغب ببساطة بالذهاب بعيدا.

في الصباح يذهب الضابط ومسعود وابنه اسماعيل إلى البلدية والضابط يوجه مسدسا غير مرئي إلى ظهر مسعود. وحسب الخطة غير المعلنة يلتقط اسماعيل المسدس ويوجهه إلى الضابط كتهديد يقوم شرطي موجود بإطلاق النار على الشاب الأسمر. مسعود يفقد توازنه أرستقراطيته وهدوءه، يجري إلى المستشفى وهو مغطى بالدم ويصلي بصورة محمومة وأخيرا هو في غرفة بيضاء إضاءة شديدة، دموعه أضحت صامتة، ينزع الغطاء الملون بالدم، يعود أدراجه وقد أدرك شيئا بل اسماً مثل أغلب الأشياء لكنه يعرف ماذا يتوجب عليه فعله.

كاثي عند المرفأ ربما تشعر بالبرد نراها تضم يديها إلى جانبيها بشدة، لا يبدو عليها الذعر أو الخوف أو القليل من القلق، تدرك أن ما سيحصل، سيحصل، فقط عليها الانتظار لتعرف ما هو، تتمشى على المرفأ مع النوارس التي تقاوم معها الرياح العاصفة تحت ظل الغيوم الرمادية.

مسعود يدخل عند “نادي” المتعبة، تقول إنها رأت حلما بديعا كانت مع عصفور في الغرفة فتحت له النافذة فبدأ بالطيران بعيدا وهو يغني، يقدم لها مسعود الشاي وهي لا تزال في دفء سريرها، أعد شايا مختلفا هذه المرة، تنظر نادي إلى عينيه وتشرب الشاي، وعند الشرفة حيث تغيب الشمس وسط الغيم والضباب الذي أمسى أقل كثافة يشربان المزيد من الشاي، يقول مسعود سنعود، لقد ذهبنا بعيدا، لقد أخذتكم بعيدا جدا، سنعود إلى قبب أصفهان ومساجد قم وفنادق طهران القديمة، تستمر نادي في شرب الشاي حتى يسقط الكأس ويأخذها مسعود إلى السرير لتنام للمرة الأخيرة. يرتدي هو بدلته العسكرية بكل أوسمتها بالإضافة إلى كيس بلاستيكي يشده إلى رأسه حتى يرافق نادي في النوم.

تعود “كاثي” لتعرف ماذا حدث وتستلقي هي والموسيقا بين الجثتين في لقطة رائعة من سقف الغرفة، تقع في حبهما أو حب حزنهما لكنهما قد ذهبا تبكي لزمن، وعندما تبدأ السماء بالبكاء كانت هي قد توقفت وقالت للشرطي الذي جاء يسألها لا ليس منزلي! ينتهي الحلم ونستيقظ.

يلتهم الحلم كل أحداث الفيلم ويبدو جميلا وغائما ونائيا، ورغم جودة أداء الجميع في فيلم وصف بأحد أفلام العقد فإن هذا الأداء يضيع وسط الضباب الذي يلف منزل الرمل.

ولكن كيف يمكننا أن نصنع حلما مع وجود وحدة مكان وزمان وإلى حد ما الحدث الذي يبدو معوما من خلال تأملات بصرية، جمال غامر يتدفق من جميع المشاهد بلا استثناء: انعكاس الصور على الزجاج، الإضاءة المتنوعة التركيز على الدخان والضباب، وحتى العنصر اللوني، إذ تظهر أغلب المواقع بألوان هادئة باهتة إلى حد ما تكسرها ألوان أكثر جرأة لتدل على مكان مركز الحدث: الزجاجة الخضراء في مطعم يفيض بألوان دافئة، وصندوق الوقود الأحمر الذي تخلفه جنيفركولني (كاثي) في محطة البنزين الباردة، وأخيرا مشاهد الضباب الطويلة التي كفواصل مميزة، إذ تظهر الكاميرا صوراً مجردة غير واضحة على الأرجح للشاطئ الذي يظل بعيدا.

يجد المخرج الحل في صنع الحلم باللعب على العامل الزمني حيث يتميز الجزء الأول بفواصل زمنية طويلة بين الأحداث واختصار دقيق للتطورات.

الجزء الثاني من الفيلم تجري أحداثه في ليلة ويوم متواصلين ورغم محدودية مواقع التصوير فيه يشهد تنوعاً كبيراً في الاضاءات :ضباب شديد إضاءة منزلية خافتة، تركيز شديد على الضوء النهاري في الصباح، ثم إضاءة الشمس المائلة للغروب وصولا إلى المساء، تنوع مرعب ككابوس يغادر زخمه البال لكن يظل وزنه الثقيل يعرقلنا طوال اليوم.

وكجميع الأحلام تأتي المعاني متزاحمة، ثيمة الغرباء أحدها، هل هي التي أضاعت البيت بإهمالها، أم هم الذين يأكلون على الأرض و”يبربرون” باللغة الشرقية. من هو الغريب؟

ضياع الهدف في شخصية كاثي، الثيمة التي تأخذ منحى وجودياً تام، رغم تداخلها مع بقية أجزاء الفيلم، الشخصية الأمريكية المثالية في شخصية الضابط، وأخيرا المنزل الذي يبدو أنه يشكل ثيمة مستقلة.

الجمال المنبثق من وجه جنيفر كولني وهي تنفخ الدخان في إحدى اللحظات، وتحدق في البحر في لحظات أخرى، المنبثق من ابتسامة “نادي” التي تخبر مسعود عن حلم العصفور، من كوخ مهمل في وسط الغابة يمتد داخل الجدول، المنبثق من العائلة الغريبة التي بدأت تشعر بالدفء، التي تجتمع عند شرفة منزل الرمل والضباب وقت الغروب وتبدأ في إبحار شجي، هذا الجمال هو كل ما يبقى من سفر الليل الغامض.

الخليج الإماراتية في 31 يناير 2005