وفرة الأفلام الروائية ونقص الوثائقية في مهرجان مدارس السينما مفاجأة سينما التحريك نديم جرجوره |
نظّم <<معهد الدراسات المسرحية والسمعية البصرية والسينمائية>> في <<جامعة القدّيس يوسف>> في بيروت، بين السادس والعشرين والتاسع والعشرين من كانون الثاني الجاري، الدورة الثانية ل<<المهرجان الدولي للأفلام القصيرة لمدارس السينما>> في <<مسرح بيريت>> في مبنى المعهد. اختيرت أفلام وثائقية وروائية قصيرة وأفلام تحريك من معاهد أوروبية وأميركية ولبنانية، في محاولة لتأسيس علاقة تواصل بين المدارس الأكاديمية المختلفة، من خلال طلابها ومناهجها وأساليبها الخاصة بالتدريس والتدريب والتربية الثقافية. عكست الدورة الثانية للمهرجان الجامعي الدولي حالةً ثقافيةً ونمطاً تدريسياً ومنهجاً أكاديمياً متشابهاً إلى حدّ كبير في المعاهد والمدارس السينمائية الدولية المشاركة فيها، إن على مستوى الأشكال المعتمدة في تحقيق أفلام طالبية، أم لجهة الهوس البصري في العلاقة القائمة بين الطلاب الشباب والفن السابع. ففي مقابل عدد كبير من الأفلام الروائية، بدا واضحاً أن هناك نقصاً في النتاج الوثائقي، وتمايزاً في أفلام التحريك. لا شكّ في أن الأرقام تؤكّد وجود مأزق ما، إذ شارك في المسابقة الرسمية ستة وخمسون فيلماً، منها خمسة أفلام وثائقية فقط وثلاثة عشر فيلم تحريك. فهل هناك أزمة ما، أم <<صدفة>> بحتة؟ النقص في الوثائقي يتّخذ السؤال بُعداً نقدياً في زمن طغى عليه النتاج الوثائقي الدولي المتميّز كمّاً ونوعاً، وبات التحريك فيه جزءاً أساسياً من صناعة الصورة الفنية الجديدة. فالفيلم الوثائقي لم يعد مجرّد تحقيق تلفزيوني يتناول حدثاً آنياً فيقدّمه بشكل إخباري ومباشر، وفيلم التحريك لم يبقَ أسير التقليد المتّبع في صناعة الرسوم المتحرّكة، التي عرفت بدورها تطوّراً فنيا وتقنيا مثيراً للانتباه منذ أعوام طويلة. بات الفيلم الوثائقي خليطاً إبداعياً من أنواع سينمائية مختلفة، وأداة فاعلة ومؤثّرة بقوة في بنية المجتمع البشري في زمن الصورة، وحاجة ماسّة إلى مواجهة الواقع والتحدّيات وإلى كشف الحقائق والتحوّلات. عرف فيلم التحريك تبدّلاً إبداعياً، في التقنيات والمخيّلة على حدّ سواء، منحه سطوة جمالية في مساءلة الواقع والفرد والتفاصيل الإنسانية المختلفة، فخرج من إطاره التقليدي في التوجّه الفني إلى الأطفال والصغار، ومن هدفه القائل بالتسلية والإضحاك، وإن صُنعا بشيء من التفاصيل الإنسانية، وبات قادراً على جذب فئات متنوّعة وجدت فيه معالم جديدة في البحث والقول والنقد والتشريح والسجال. ما كشفته الدورة الثانية من نقص في الوثائقي وتمايز في التحريك على مستوى أفلام الطلاب مهم وأساسي، يطرح تساؤلات عدّة تُختصر بالتالي: من يتحمّل مسؤولية هذا النقص في عالم فني لم يعد حكراً على النمط الروائي، وفي مرحلة مأخوذة بالوثائقي/التسجيلي كلغة نقد وحوار وتواصل وفضح وتحليل، تستمد من الفن أدواته الجمالية، وترتكز في بنيتها على المساءلة والقراءة الصدامية؟ لا أعمّم فأقول إن النتاج الوثائقي كلّه جيّد ومهم وجدير بالنقاش والمقاربة النقدية. ذلك أن الطغيان الفضائي على البثّ التلفزيوني العربي مثلاً أفرغ النوع الوثائقي من محتواه السينمائي، محوّلاً إياه <<ريبورتاج>> تلفزيونياً إخبارياً، على الرغم من أن المرحلة السابقة، وتحديداً منذ التسعينيات المنصرمة، أثبتت أن هناك صناعة جدّية للفيلم الوثائقي العربي المتميّز بلغة سينمائية واضحة وثقافة عميقة وجماليّة مؤثّرة. إذاً، ما هو دور المعاهد السمعية البصرية: هل تُفرد مساحة للوثائقي في منهجها الأكاديمي، أم لا؟ هل تُدرّس تقنيات صنع فيلم وثائقي سينمائي، أم تكتفي بمحاضرات عابرة وتدريبات نادرة و<<قواعد>> تلفزيونية بحتة؟ تحريك متميّز في مقابل هذا النقص الفاضح في النتاج الوثائقي الطالبي، تميّز التحريك في إنتاج نمط جمالي مفتوح على التجارب الفنية والتقنية والدرامية المختلفة. إذ قدّمت الأفلام الثلاثة عشر المشاركة في الدورة الثانية تنويعاً في ابتكار شكل مختلف من التعبير، وبراعة طالبية في معالجة أسئلة الذات والجماعة والواقع بأدوات تقنية متمكّنة من لغتها السينمائية. لا أبالغ في القول إن فئة التحريك تضمّنت أفلاماً جميلة عكست طموحاً شبابياً واختباراً طالبياً، وبدا معظمها أفضل من الأفلام الروائية والوثائقية. كما أن جمالية هذا النوع السينمائي الطالبي لم تكن أسيرة مدرسة معينة، بهويتها الجغرافية والثقافية وتقنياتها الفنية وأساليبها التربوية والتدريبية، علماً أن أفلام الطلاب التايوانيين غلبت عليها كلّها (ستة أفلام) والألمان (ثلاثة). بالإضافة إلى أفلام لبنانية (واحد) وبلغارية (اثنان) وسلوفاكية (واحد). ثلاثة أفلام تحريك بدت أجمل وأهمّ: <<جانبان اثنان>> للتايواني شيو هسيا يوان، <<داس فلوس>> للألماني يان ثورينغ و<<السير خارجا>> للتايوانيّ أيضاً شين مينغ شانغ. هناك غرابة لافتة للنظر في تصوير الأول: في اختيار المكان وعلاقة الشخصية الأساسية بمحيطها، وفي رحلة البحث عن معنى الحياة والوجود والمجتمع الإنساني المحاصر بالآلة والاستهلاك. فالصبي التائه في داخل عالم من الآلات المخيفة، يحيل على مأساة الفرد في سجن المادة. وبحثه عن غرض ما يأخذه إلى متاهة الفراغ الروحي ودهاليز الوجع والألم. هذا كلّه مشغول بتقنية تمزج الرسم بالتحريك، وترتكز على اللون الغامق في متابعة تفاصيل الرحلة. الثاني مختلف درامياً: حكاية رجلين ضائعين في البحر، تتنازعهما رغبات متناقضة وهواجس مختلفة وأفكار متضاربة، غالباً ما تدفعهما إلى خصام عنيف وسط المياه. إن أهمية <<داس فلوس>> كامنة في حبكته الدرامية، وفي حرفية تقنية واضحة تمثّلت في التقارب الكبير بين الدمى والفضاء الكرتونيّ من جهة، والواقع الحسّي للعالم البشريّ من جهة ثانية. الثالث انتقاديّ قاس لحياة يومية أسيرة الأجهزة التقنية الحديثة. فالصبيّ في <<السير خارجا>> مُسمّر أمام شاشة كمبيوتر تعرض له صُوَراً نسائية عارية. لكنه ذات مرّة يجد نفسه خارج هذا الحصار الذي جعله جاهلاً حقيقياً لما يحدث من حوله، فيبدأ رحلته في العالم الواقعيّ خارج البيت، بل خارج غرفته وشاشة الكمبيوتر الخاص به. إن حساسية الموضوع وقوة المعاينة وسخرية النَفَس الانتقاديّ طغت على الشكل المعتمد في تصوير الشخصيات والمدينة والحالات الإنسانية. هناك أفلام مصنوعة بشكل تقني جيّد ومكتوبة بحساسية إنسانية واضحة، وأخرى مشحونة بشيء من الغموض الشكليّ والدراميّ، على الرغم من ميلها إلى ابتكار صورة سينمائية معبّرة: <<أوبي>> (ألمانيا) لماكس ستولزينبرغ وآنخا بيرل: المرأة ومحيطها من الأدوات والأشياء المتحرّكة في عالم بصري مصنوع من مزيج الخيال والهواجس والواقع. <<ملك المجانين>> (ألمانيا) لأولاف آنكي: ضفدع هائج يعجز عن ممارسة الجنس. <<المطرقة والسندان>> (بلغاريا) لإياسن دجابيروف: السلوك البشري والعلاقات القائمة بين الناس على أساسه. <<بائع السمك>> (تايوان) لفونغ شين شياو: صُور جميلة لعالم البائع المنهار تحت وطاة الروتين. <<العلّية>> (لبنان) لتمام يموت: أحاسيس ومخاوف في عالم من الآلات المؤنسنة. <<حلم النوم>> (تايوان) لبام شن يو ولين يي شين وفان شي فانغ: النوتة الموسيقية تفتح أفقاً غريباً لحالات إنسانية. <<خروج>> (تايوان) للونغ واي شن: هاجس المستقبل الإنساني المحاصر بالآلة. <<دولتشي فيتا>> (بلغاريا) لإيفانوفا بليانا: مقاربة ساخرة للعلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، أو بين الذكر والنثى. <<التخلّي عن التربة>> (سلوفاكيا) ليانا سلوفنسكا سزابوفا: روائي قصير مرتكز على نص لوالت ويتمان بعنوان <<أوراق العشب>>، يلتقط اللحظات الإنسانية الفاصلة بين الطفولة والبلوغ. <<شهاب>> (تايوان) لشر مينغ هيانغ: شابان في مصنع مهجور يسقط أمامهما حجر نيزكي، فتتبدّل حياتهما وأحلامهما. السفير اللبنانية في 31 يناير 2005 |
"المهرجان الدولي الثاني لأفلام طلاب معاهد السينما" بستان الخلق أزهر ألوان ثقافات جورج كعدي حدّد بول مطر اهداف "المهرجان الدولي الثاني لأفلام طلاب معاهد السينما" بنقاط بليغة، اذ اعتبر المدير الحالي لمعهد العلوم السمعية البصرية في الجامعة اليسوعية [إيزا] ان هذا المهرجان كناية عن فضاء تعبيري حرّ للتجربة والاكتشاف، وان الافلام الطالبية القصيرة التي تنفذ عادة بامكانات محدودة ولا تهجس بشباك التذاكر هي مغامرة يمضي المهرجان للقائها. طوال أشهر خلت عمل فريق عمل واسع، يتقدمه مطر ومعاونته النشيطة نادين بولس، على طلب أفلام الخريجين من جامعات عالمية، من الجهات الأربع، فضلاً عن أفلام المعاهد اللبنانية، بغية انتقاء الافضل منها وادراجه في المسابقة، وهي نحو أربعين فيلماً روائياً قصيراً، وستة أفلام وثائقية، وأربعة عشر فيلماً مرسوماً او متحركاً. والافلام من المانيا وفرنسا وكندا والمكسيك وهولندا واسبانيا وبلجيكا والنروج وروسيا والبرتغال وپولندة وتايوان وسويسرا والارجنتين وبلغاريا وسلواكيا، مع لبنان بالطبع. وشكّلت لجنة تحكيم عالمية برئاسة المنتج والكاتب اللبناني غبريال بستاني وعضوية سلادور غارثيا رويز [اسبانيا] وكاترين مارتن [كندا] واميلي دولوز [فرنسا] وفيليب عازوري [فرنسا] وستيفان سارازي [المانيا] وهم ذوو اختصاصات سينمائية متفرقة بين التدريس والنقد وتنظيم المهرجانات. في قاعة بيريت، الجامعة اليسوعية، دارت احتفالية الفيلم القصير العالمية لثلاثة ايام مليئة بالتنوّع والدهشة والاكتشاف، وتابعها جمهور كبير مهتم، شاب وجامعي خاصة، أمَّ التظاهرة الجميلة والحميمة التي تضيء على انتاجات مجهولة متعددة الاسلوب والتعبير، في تفاعل وتلاقح حضاريين يرسخان اهمية هذا اللقاء السينمائي الغني، ضمن الفضاء التعبيري الحر الذي أشار اليه بول مطر، فحقّق المهرجان غايته رغم العقبات البيروقراطية التافهة، القصيرة الوعي والنظر، التي تسببت بها اجهزة الرقابة اللبنانية أذ اصرّت على مراقبة الافلام كلها لاجازة عرضها، فحصل ارباك وتبديل في برنامج العروض اليومية، وعانى المنظمون الأمرّين مع ذهنية رسمية بليدة لا تقيم للحدث الثقافي وزناً، وكان عليها تسهيل الأمور بدلاً من تعقيدها، ووزارة الثقافة المعنية مباشرة كانت غائبة ولم تتدخل لحسم الموضوع مع الرقابة! فأي بلد متخلّف نعيش فيه حيث عوض تشجيع تظاهرات مماثلة ودعمها وتسهيل احيائها تُرفع في وجهها العقبات والعراقيل، ولبنان في حاجة ماسة في هذه المرحلة المضطربة والمستهدفة من تاريخه الى ابراز صورته الحضارية والثقافية المنفتحة لا صورته الرجعية المتخلّفة! مضامين الأفلام العالمية والمحلية التي عرضت في المهرجان قد لا تهمّ سوى جمهور حاضر ومعنيّ مباشرة [طلاب، نقاد، عاملون في المجالات السينمائية والسمعية البصرية]، ولا فائدة مباشرة للقارئ من الكلام التفصيلي على هذه الافلام طالما انها تُعرض في أطر محدودة ولا تخرج الى العروض العامة في الصالات. لكن من المهم التوقف عند نواح عامة متصلة بالافلام الروائية القصيرة التي اضحت منذ سنين نوعاً مستقلاً تدور المناقشة حوله، اذ لا تزال "الغلبة" للشريط الروائي الطويل الذي يستثمر في الصالات ويشاهده بالتالي جمهور عريض، فيما لا يزال الشريط القصير حكراً على المهرجانات المتخصصة [كما في مهرجان اوبرهاوزن الالماني الاشهر للنوع] وبعض شاشات التلفزيون النخبوية ["آرتيه" الفرنسية – الالمانية] او المرمّزة، ولم يخرج بعد الى جمهور اوسع. بيد ان انتشاره المحدود لا ينقص من قيمته فرادة معالجة وتنوعاً في الموضوعات والاساليب، وبعضها تجريبي وابن عصره، والبعض الآخر تقليدي او مقتبس من أدب روائي او قصصي، والبعض الثالث ذاتي جداً قد ينطلق من السيرة والتجارب الحياتية الخاصة. في جانب آخر، لفتتني مشاركاً في لجنة الاختيار للمسابقة، المستويات المتفاوتة بين الجامعات العالمية، فأرضاني المنهج الپيداغوجي في معاهد ["ايناس" الكندي وHHF الالماني مثلاً] ولم يرضني في معاهد اخرى عريقة، حتى اني شعرت احياناً بتفوّق المناهج الاعدادية في معاهد لبنانية على مثيلتها في معاهد اوروبية او اميركية او آسيوية، مما يسجّل لمعاهدنا نقطة تفوّق وينشئ سبباً للاعتزاز والثقة. وطلاب معاهدنا يحققون في أي حال مع أفلامهم نجاحات بارزة في مهرجانات اوروبية وعالمية ويعودون منها بجوائز. ولا ينقص معاهدنا المحلية شيء سوى المزيد من التشديد على جانب السيناريو والكتابة والافكار الفريدة والجديدة، فضلاً عن ضرورة وحتمية التعامل مع الشريط السينمائي الخام والابتعاد شيئاً فشيئاً عن اليديو وادواته، فلكل من التقنيتين منهج مغاير وحساسية جمالية وتعبيرية مختلفة. أفلام بالألوان، بالأسود والابيض، بالرسم والتحريك، درامية، كوميدية، ذاتية، مقتبسة... سينما من كل شكل وتعبير ولون. هكذا كان محتوى هذا المهرجان الثاني الناجح تنظيماً واختياراً وعروضاً [رغم ازعاجات الرقابة غير المبررة وغير المشجعة!] وجمهوراً مهتماً ولجنة تحكيم ذات خبرة وصدقية ودقة اختيار. وتظلّ ناحية الحرمان متمثلة في عدم خروج هذه التجارب المضيئة، اللبنانية والعالمية، الى الجمهور الاوسع كي يحيا معها احلاماً جميلة متنوعة، فالقائمة المقترحة مثل بستان من الازهار متعدّد العطر والرحيق، وثمة العديد من المواهب المشاركة التي تعد بمستقبل سينمائي زاهر مؤهل للانطلاق في حرفة ابداعية مضمونة النجاح، غرباً وشرقاً، جنوباً وشمالاً، من كل القارات والجنسيات، من الدول الغنية، انما من الفقيرة خاصة حيث تكثر الموضوعات الاجتماعية والانسانية، وهذا ما لمسناه في الافلام الوافدة من المكسيك والبرتغال وتايوان ولبنان والارجنتين، أي من عالم نام [الى الأبد؟!] يقبع في فقره وازماته فيُطلع ابداعاً ليس ككل خلق وابداع. لا نملك في ختام هذه النظرة العامة المقتضبة، التي حالت ظروف دون متابعتها يومياً، سوى ان نحيّي ونقدر جهود القائمين بهذه التظاهرة الجميلة، المتقنة الاعداد والتنفيذ، وحضّهم على المثابرة والاستمرار في احياء اللقاء الحميم الذي يفتح نافذة ثقافية، سينمائية وابداعية، على العالم وانتاجات مواهبه المصقولة والواعدة، علّه يصير مهرجاناً ذا حضور مكرّس وصدقية راسخة بين التظاهرات السينمائية الكثيرة في العالم. لبنان يبحث عن موقعه الحضاري الجديد، فليكن له ذلك عبر نشاطات مباركة مماثلة. والى التظاهرة المقبلة الناجحة، بول مطر، مع الغيارى على السينما والثقافة في لبنان. النهار اللبنانية في 31 يناير 2005 |