شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

ســلـطــانـات الـشـــــاشـــــة الـمــصــريـــة

فرح جبر

 

 

 

 

ما الدور الذي اضطلعت به سلطانات الشاشة المصرية في صناعة السينما؟ ربما يتوجب على المهتم أن يقرأ كتاب "سلطانات الشاشة" لمنى غندور (دار رياض الريس)، من أجل الحصول على احتمال الأجوبة. منيرة المهدية، بهيجة حافظ، فاطمة رشدي، أمينة محمد، اسيا داغر، ماري كويني، عزيزة امير...، هن في هذا الكتاب نساء المجد، وأيضا نساء المجد الخائب، وحكاياتهن أقرب ما تكون الى حكايات الف ليلة وليلة.

سلطانات الشاشة، كن مشغولات بذواتهن ولم يكن دافعهن الثراء ولا المال، بل حب الفن قبل كل شيء. . جئن من بلدان ومدن مختلفة، وطبقات اجتماعية متفاوتة، ومن اديان متعددة. عشن وأنتجن في زمن واحد وفي مدينة واحدة بعد أن رحن يبحثن عن الاطار الامثل لصور النجومية، التي تحقق احلامهن وأمجادهن.

كانت النساء على صورة مجتمعهن المتعدد العرق والثقافة في مطلع القرن الفائت، في وقت كان المناخ قابلا لاحتضان النجمات. فالحرب العالمية الاولى وما جلبته من ويلات، كانت عاملا مهما في دفع الناس الى اختراع ابجدية جديدة في التعامل مع الحياة. الرجال الذين قُتلوا او فُقدوا في الحرب، كانوا أحد الأسباب وراء خروج المرأة الأوروبية الى الحياة العملية، والى العمل في المصانع والمناجم. وقد نجم عن تلك الاحوال، نشوء طبقة من النساء الجريئات، مارسن عادات "غريبة" على المجتمع، كالتدخين، والرقص، وقص الشعور على طريقة "الغارسون". وبعدما كانت النساء يتعثرن في مشيتهن، في اثواب تلامس الارض، تقلصت الفساتين الى ما تحت الركبة. وكان خروج المرأة المصرية الى الشارع، هو الخطوة الاولى على طريق طويل من المعارك التي خاضتها للخروج من اسر المحرّمات والممنوعات. "سلطانات الشاشة"، هن في هذا السياق، صور من عالم خارج على مصادرة الرجال والآباء للحياة والابداع" والفن على السواء.

امرأة في دور رجل

من أين تبدأ حكايات السلطانات؟

عام 1915، اعلن السينمائي عزيز عيد ظهور اول ممثلة مصرية، فاحتلت علامات التعجب والاستفهام وجوه الجميع، وتساءلوا من تكون هذه الممثلة، ذلك أن الاعلان جاء خلواً من أي اسم. وبعد ايام ظهرت الاعلانات مزينةً باسم منيرة المهدية، اول ممثلة مصرية مسلمة. غنّت منيرة احدى قصائد الشيخ سلامة، "ان كنت في الجيش"، فسمع الجمهور صوتا قويا صداحا. الغريب انها لم تمثل على الاطلاق دور امرأة، وانما كانت تقوم بأدوار الشيخ سلامة نفسه، وترتدي ثياب الرجال، وتمتشق الحسام. كانت تخرج من ذاتها ومن جسدها لترتدي ذات الرجل وجسده، فالتحريم يسيطر على المجتمع وخصوصا على المرأة، التي لم يكن يُسمح لها بالظهور على المسرح، وهذا جعلها تتقنع بثياب الرجل.

ظهور المرأة المسلمة على المسرح في مصر كان نقطة تحوّل في حياتها وفي حياة المجتمع الشرقي، وقد تزامن ذلك مع تأسيس روز اليوسف اول مجلة تحمل اسمها، كردة فعل على خروجها من مسرح رمسيس، واسست فاطمة رشدي فرقة مسرحية تحمل اسمها ايضا تتحدى بها فرقة رمسيس. وكانت اطلالة المرأة المصرية على الحياة الفنية في العشرينات، مع ازدهار صناعة الحلم في هوليوود. واذا كانت نجمات هوليوود هن ضحايا نظام الصناعة الهوليوودية، فإن النجمات المصريات هن ضحايا النموذج الهوليوودي، لانه لم يكن لديهن مرجع او مثال من خارجه. النساء المصريات، الفنانات خصوصاً، هن اللواتي اخترعن صورهن، وآمنّ بها ونفخن فيها من شبابهن ومالهن وجهدهن، فانتصرت صورتهن على صور رجالهن وامومتهن.

قصصهن المثيرة يمكن ان تكون مادة لافلام مشوقة. عزيزة امير ولدت في الاسكندرية عام 1901 في اسرة متوسطة الحال. كانت تجد سلواها في مشاهدة الافلام السينمائية، وتقليد الممثلات قبالة المرآة، وخلفها اخوتها الصغار يضحكون من جنونها. حبها للسينما كان يذهب بنقودها لشراء صور نجمات هوليوود، ليليان جيش وبيرل هويت وماري بيكفورد، وكانت تخفيها في كتاب "القراءة الرشيدية". تاجر القطن ايلي الدرعي لعب دورا في حياتها، اذ كان مولعا في التبجح بثروته والظهور في رفقة الشابات الصغيرات، وقد التقته عزيزة بعد طلاقها الاول فمد لها يد المساعدة، وانفق عليها المال. وقد اشتهرت في سهراته وحفلاته بأنها عشيقته.

بعد اول ظهور لها على المسرح، تقاضت عزيزة 30 جنيها. وحين فشلت في انشاء فرقة خاصة بها، انضمت الى فرقة نجيب الريحاني، لكنها لن تلبث فيها طويلا لان الفرقة انحلت بعد اربعة اسابيع، مما اضطرها الى الالتحاق بفرقة "تياترو الازبكية". وحين رآها عمار الشريعي على المسرح اعجب بها، وتزوجها، وكان من عائلة صعيدية لا تقبل الزواج من ممثلة.

بهيجة حافظ

ولدت السلطانة بهيجة حافظ عام 1908 في الاسكندرية، وتفتحت طفولتها على كل التيارات الفكرية والفنية. فقد تربت في جو موسيقي، وظهرت مواهبها في العزف على البيانو في سن مبكرة. ودرست في طفولتها قواعد الموسيقى على مايسترو ايطالي اسمه جيوفاني. ويعود اهتمامها بالموسيقى الى صداقتها السابقة مع مسيو غراناتو، تاجر مقطوعات موسيقية وصاحب محل للبيانو في الإسكندرية، فهو الذي فتح لبهيجة آفاق الموسيقى الاوروبية وهذّب حسها.

تزوجت بهيجة في المرة الاولى من تاجر ايراني ثري، ذاقت معه مرارة القهر مدى ثلاث سنوات. وقد ساعدها موت والدها في التمرد على مجتمعها وطبقتها الاريسوتقراطية، فتركت الاسكندرية، وجهتها القاهرة، حيث قررت العيش والعمل من وحي اقتناعاتها. وكي تستقل ماديا عن اسرتها، اشتغلت بتعليم فتيات الاسر الراقية العزف على البيانو، ونسخ النوتات الموسيقية للفرق الموسيقية. انتبهت شركات الاسطوانات الى موهبتها في التأليف، فتعاقدت معها على تسجيل مؤلفاتها الموسيقية، ونشرت مجلة "المستقبل" صورتها على غلافها، وكتبت تحتها "اول مؤلفة موسيقية مصرية". وعندما كان المخرج محمد كريم يبحث عن بطلة لفيلمه "زينب"، متهيئاً لإخراجه، وقع نظره على غلاف "المستقبل" متوَّجاً بصورة بهيجة، فكان ما كان.

أما الاسباب التي حملت بهيجة على قبول التمثيل السينمائي فتلخصت في رغبتها ان تحطم القيود الثقيلة التي تمنعها من ان تبرهن للعالم انها لا تقل عن بنات الغرب قدرة على العمل. ومن الآثار المترتبة على ذلك أن علاقتها بأسرتها ساءت اثر قبولها العمل في فيلم "زينب"، لكن عجائب القدر تدخلت عندما فوجئت بأسرتها يوم العرض الأول للفيلم، وكان نجاحها في بطولة الفيلم من العوامل التي حملت اسرتها في ما بعد على أن تصفح عنها، ليعود الوئام يخيّم على تلك العلاقة. "ليلى بنت الصحراء"، فيلمها الثاني، خيّب آمالها، ثم انتجت فيلم "زهرة" الذي فشل فشلا ذريعا. وبعد صدمتها في "زهرة السوق" راحت تجتر الخيبة والمرارة.

وإذا كان الحظ قد خانها في معركتها السينمائية فإنها استمرت في ممارسة دورها كمثقفة وموسيقية وراعية مواهب من خلال صالونها الموسيقي. أصيبت في ايامها الاخيرة بهوس الاضطهاد، فكانت تهذي وتتصور اشياء وأموراً لا وجود لها، وتخترع شخصيات كبيرة تريد الزواج منها، الى أن انتهت نهاية مؤلمة بعدما انفض عنها الجميع.

فاطمة رشدي

اسمها الاصلي فاطمة خليل آغا، ترعرت على موسيقى سيد درويش، وعلى غناء فتحية احمد، ومن بحر الاسكندرية ورثت مزاجها الثائر المتقلب. في الثالثة عشرة من عمرها انتقلت للعمل في مسارح "روض الفرج" على الشاطىء الشرقي للنيل. وتروي ان اختيارها كممثلة لا يرجع الى كفاءتها او شهرتها، ولكن الى جمالها الاخاذ وخفة دمها ورشاقتها. يقول كمال الشناوي في هذا الصدد: "كانت الهة جنس فيها اغراء بمليون جنيه، كانت فتاة احلام الشباب، لونها ابيض خلاب وجسدها دعوة صريحة الى العشق".

لم تكن فاطمة رشدي تحفل بالتمثيل، ولم يكن لها مطامع في هذا المجال. كل ما كان يعنيها في تلك السن، اللعب وحفظ المونولوغات التي تغنيها في الملهى.

تأثرت بعزيزة عيد التي كانت مبعث سرها، واصبحت الممثلة الاولى في مسرح رمسيس لثلاث سنوات. واخذ النقاد على فاطمة رشدي أموراً كثيرة، اهمها عدم نضج انوثتها، وظهورها على المسرح دائما، وفي كل ادوارها، بمظهر خشن يلائم طباع الرجولة. الى حملة النقاد عليها، كانت رواية "النسر الصغير" سببا في اشهر خناقة في تاريخ المسرح المصري، بينها وبين وزينب صدقي. وبعد عرض هذه الرواية على خشبة المسرح اسدلت فاطمة الستارة على فصل من حياتها المسرحية، مع فرقة رمسيس 1927، لتبدأ فصلا جديدا كتبته مع عزيز عيد تحت لافتة "فرقة فاطمة رشدي".

ويطل ايلي الدرعي في حياتها، لتعترف بأنها احبته منذ التقته في "الكيت كات"، كاشفةً أنه هو الذي نقلها الى عالم سحري يشبه العالم الذي نقلها اليه عزيز عيد، في بداية اكتشافها دنيا المسرح.

كان اول ظهور لفاطمة رشدي على الشاشة سنة 1928، حين مثلت الدور الاول في فيلم "فاجعة فوق الهرم" الذي قوبل بهجوم من الصحافة لضعف مستواه الفني.

تقول فاطمة رشدي: "الغيرة من نجاحي، ووقوف الصديق الغني بأمواله بجانبي، أتاحا لكثير من الحاقدين ترويج إشاعات السوء عني وعن سيرتي، مما اضطرني أنا وعزيز (عيد) الى الانفصال كزوجين، على ان تظل الرابطة المقدسة الاخرى بيننا، رابطة حب المسرح . اما المسرح فقد كافأها بما جلبه عليها من مصائب. في عهد الرئيس انور السادات تم تكريمها، وبعد طول عناء منحتها الدولة شقة شاركت الفنانة شيريهان في تأثيثها، ولم تسكن فيها فاطمة سوى يومين قبل وفاتها لترحل بعدما تركت لتاريخ المسرح المصري والعربي ما يناهز مئتي مسرحية و16 فيلماً للسينما أهمها الفريحة .

أمينة محمد

ولدت امينة محمد في آذار 1908 في اسرة فقيرة، وهي خالة امينة رزق. كانت في الثامنة من عمرها، تشاهد مع مجموعة من الاطفال في طنطا رواية "الاخرس" من بطولة عزيز عيد وروز اليوسف، وقد اختارها عزيز عيد لان الدور يتطلب ان يحمل طفلة. منذ تلك اللحظة تفتحت عينا امينة على الاضواء. ثم التحقت بمسرح يوسف وهبي الذي لعب دورا كبيرا في تغيير نظرة الناس الى التمثيل، بعدما احترف الفن وهو ابن باشوات، وهذا فتح الباب امام الكثير من فتيات العائلات لدخول هذا المجال. وقد سنحت الفرصة لامينة محمد وابنة شقيقتها امينة رزق التي كانت تفوز بالادوار الرئيسية، في حين ان الأدوار الثانوية كانت من نصيب خالتها. لعل اكبر صدمة في حياتها هي غدر زوجها بها، فقد احبته واخلصت له، وتركت الفن من اجله، لكنه تزوج عليها. وكانت بديعة مصابني صديقتها فآلمتها حالها، ونصحتها ان ترقص في صالتها كي تغيظ زوجها وتنتقم منه، وكي يقال ان طليقة فلان راقصة في كباريه بديعة. اعجبت امينة بالفكرة، وارتدت بدلة الرقص ونزلت الى صالة بديعة، وكانت تقدم وصلتها الليلية، والدموع تغمر وجهها. لم يمض وقت قصير حتى تركت صالة بديعة، وسافرت الى الاسكندرية لتداوي جراحات قلبها. ارادت العمل في الانتاج السينمائي فأنتجت فيلم "تيتا وونج" لكنها فشلت، وبعد الخسائر سخطت على السينما وناسها، وقررت السفر الى اثينا لتجرّب حظها هناك، حيث قدمت نفسها لصاحب الملهى على انها راقصة محترفة، ولكن ما كانت تعتبره امينة رقصا في مصر، اعتبره صاحب الملهى حركات عشوائية لا يربطها رابط. جالت في اوروبا ورقصت في الملاهي الباريسية الى أن اندلعت نار الحرب العالمية الثانية التي اجبرتها الى العودة الى مصر، حيث رقصت في ملهى "الكيت كات"، إلا أنها سرعان ما تركت الكباريه بلا ندم لأنهم كانوا يريدون منها مجالسة الزبائن. وفي مغامراتها انها تزوجت من صحافي اميركي قتل في فرنسا.

الدور اللبناني

في كتاب "سلطانات الشاشة"، سلطانتان لبنانيتان، اسيا داغر ونسيبتها ماري كويني. فما الذي اوصلهما الى القاهرة، ولماذا لم تشتغلا في لبنان؟ هذا السؤال يحمل الكثير من الأجوبة. فالعلاقة بين بيروت والقاهرة كانت تبدو شائكة، وخصوصا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، حين برزت القاهرة كمركز من مراكز التحرر والثقافة في العالم، فوفدت اليها جماعات المطالبين بالحرية، وهذا شجع الاديب اللبناني اسعد داغر على ان يسافر الى مصر لان سلطات الانتداب كانت تطارده بسبب نشاطه السياسي. وقد ساعدته في الهرب، لبيبة هاشم، صاحبة مجلة "فتاة الشرق" التي كانت تصدر في العشرينات في مصر، وكانت تربطه بها صداقة حميمة، تحولت في ما بعد الى صلة عائلية حين تزوج اسعد داغر من ابنتها اليس. وجود اسعد داغر في مصر، شجع اسيا على النزوح اليها سنة 1923، تاركة وراءها زوجها وابنتها، وهناك التقت بالسينمائية عزيزة امير التي ساعدتها في مسيرتها الفنية، وكان ظهور لها قبالة الكاميرا في فيلم "ليلى".

حين تعرف المنتج السينمائي وداد عرفي الى اسيا داغر، أغراها بإنتاج فيلم لا تتجاوز تكاليفه 300 جنيه على ان تحصل في المقابل على ايراد يساوي بضعة آلاف من الجنيهات. ورغم المشاكل التي صادفتها مع وداد فقد تحملت المشقات ومضت في مشروعها. لم تكن معروفة في الاوساط السينمائية حين انتجت فيلم "غادة الصحراء" وقد تفاوضت مع جميع دور السينما لعرض فيلمها بلا جدوى إذ رفض الجميع عرضه، فغامرت باستئجار سينما "متروبول" لحسابها الخاص، فكانت صدمتها كبيرة عندما كانت صالة السينما تغص يوميا بالناس في حين أن العجز كان مستمراً. نجاح الفيلم دفع عائلة اسيا في لبنان الى التخلي عن مقاطعتها.

كانت اسيا داغر مولعة بالسينما وتصطحب معها ابنة شقيقتها ماري الى اماكن التصوير. جمال هذه الاخيرة لفت نظر وداد عرفي فجعلها تشارك في فيلم "غادة الصحراء"، ثم راحت تشارك في افلام مع خالتها، وتعلمت ابجدية السينما، وعاشت بدايتها وتطور ادواتها. كانت جميلة وقد كرّس جمالها حضورها.

كتب احمد بدرخان أن ماري كويني كانت مسكونة بنار خفية تحرضها على معاندة الخسارة والموت، وتلهب خيالها بطموحات لا تعرف المستحيل. لكن ماري كانت تقول انها لم تسع الى النجومية وهي جاءت الى السينما كمن يجيء الى الحياة.

حين تعرفت اسيا الى احمد جلال كانا في سن متقاربة ويجمعهما الطموح نفسه، فكان من الطبيعي ان تحب اسيا جلال وقد جعلته مستشارها الفني والاداري وشريكا أحلامها ورحلة كفاحها. لكن جلال تقدم لخطبة ماري كويني وهذا كان مصدر دهشة في الوسط الفني. لم تتوقع اسيا ان يكون فيلم "العريس الخامس" آخر افلامها مع جلال وماري، وحين سئل جلال عن اسباب انفصاله عن اسيا قال: "لاعتبارات فنية".

كانت اسيا داغر ملمة في صناعة السينما، وتدرك حجم المنافسة في هذا المجال. تراقب السوق عن كثب، وتطلق مشاريعها الجديدة. فحين اكتشف يوسف وهبي صوت نور الهدى، وكرسها بطلة في الافلام، حرم باقي الشركات منها. وقد رأت اسيا داغر انه لا بد من البحث عن صوت منافس، فسافرت الى بيروت سعيا وراء مطلبها، واستعانت في هذه المهمة بقيصر يونس، قريبها وموزع افلامها، فوقع الاختيار على فتاة اسمها جانيت فغالي.

وصلت الصبية الى مصر في رفقة والدها، وفي مقهى بشارع فؤاد الاول، ولد الاسم الفني، صباح، وقد اطلقه عليها الشاعر صالح جودت، لان وجهها كان مشرقا كنور الصباح.

وكانت اسيا قد دعت لجنة من كبار ذاك العصر للاستماع الى صوت بطلتها الجديدة، بينهم محمد القصبجي وزكريا احمد ومحمد السنباطي ومحمود الشريف، وكان رأيهم ان صوت الصبية الوافدة صغير لكنه واعد. هكذا اطلت صباح لاول مرة في فيلم "القلب له واحد" (1945)، وبين ليلة وضحاها صارت فتاة احلام الشباب، وارتفعت اسهمها في مصر ولبنان، وباتت نموذجا لتشابك الفن بين لبنان ومصر، فساهمت في اضفاء لون جديد على الفن المصري، شأن بديعة مصابني التي كان مسرحها موئلا لتخريج الكثير من نجوم مصر.

الدور اليهودي

فضلا عن الدور اللبناني في صناعة السينما المصرية، كان ثمة  دور الشخصيات اليهودية في هذه الصناعة، وخصوصا ايلي الدرعي ووداد عرفي. فالاول كان له وزنه في مصر العشرينات، وهو كان تاجر قطن كبيراً ومضارباً في البورصة وصاحب مصرف له فروع في اوروبا واميركا. وكان مولعا بثروته والظهور في رفقة الشابات الصغيرات، وارتبط اسمه بفاطمة رشدي وعزيزة امير، لكن اكثر المصادر التي كتبت عن عزيزة اغفلت ذكره عمدا او سهوا، لانه كان يهوديا.

اما وداد عرفي فقدم من تركيا الى القاهرة سنة 1926، بجيوب خالية ورأس مليء بالافكار، وكان على علاقة بإحدى شركات السينما الالمانية، وقد شكل ظهوره في الحقل السينمائي، نقطة تحول في صناعة السينما، نبهت الاذهان الى هذا الفن الجديد، وجعلت الذين يقفون منه موقف التردد، يقدمون على خوض ميدانه. وبدأت بذلك طلائع نهضة سينمائية جديدة.

اللافت في تلك الشخصيات اليهودية أنها كانت تساهم في الخلق والإبداع على نحو سري، إذ ليس هناك معلومات كثيرة عنهم وعن حياتهم ونشاطاتهم.

نكتشف في كتاب "سلطانات الشاشة" أن صناعة النجوم لا تختلف في زمنها الابيض والاسود، عن زمنها اليوم.

انها صناعة واحدة ولكن بألوان و... سلطانات كثيرات ومختلفات .

النهار اللبنانية في 30 يناير 2005