خيال المتلقي بينهما يتقاطع السينما ترجمة جديدة للنصوص الروائية استطلاع: عبير يونس |
|
رغم أن النصوص المكتوبة في رواية أو مسرحية تأخذ وضعها كحالة إبداعية مستقلة بذاتها إلا أنها تتحول إلى مادة أولية لحالة إبداعية أخرى، حين تصبح فيلماً سينمائياً، أو عملاً مسرحياً، أو دراما تلفزيونية.والاعتماد على النصوص المكتوبة يعود إلى عهد اليونانيين والرومانيين، الذين اهتموا ببناء المسارح قبل القرن الثاني قبل الميلاد.أما الآن وبعد تطور التقنيات انصب الاهتمام على صناعة السينما، لكن لاتزال النصوص الروائية أو المسرحية تغري المخرجين لجعلها مادة لأفلامهم، مثل رواية «عشرة أيام هزت العالم» التي تحولت لفيلم بعنوان «الأجراس الحمراء» من بطولة فرانكونيرو. و«لمن تقرع الأجراس» و«هاملت» و«زوربا» وهي عناوين كثيرة تجذب القائمين على صناعة السينما، وتدفعهم لتكرار انتاج النص أكثر من مرة. وما بين النص والصورة مسافة طويلة تتقاطع مع خيال القاريء، الذي يشيد مدناً ويحرك الشخصيات حسب رؤيته، في حين يقدم المخرج رؤيته الخاصة ويقتلع كل رؤية سابقة لمن كان قد قرأ النص، أو لمن شاهد الفيلم برؤية مخرج آخر، وكأن كل ما يحدث كتابة جديدة للنص. ونستحضر هنا قول «ديدرو» المسرحي الشهير: «إن الحركة هي أساس العمل الدرامي، فإن خلت المسرحية أو الفيلم السينمائي من الحركة، فهذا يعني الانكفاء على مخاطبة الأذن، وهو أمر يعني نكوصاً بالنسبة للفن السابع وميديا التلفزيون اللذين لا يمكن أن يفرط صانعوهما بمنتجات ثورة الإتصالات لا من قريب ولا بعيد». ماذا يقول الناقد والمشاهد عن التقاطعات الحاصلة بين النص والصورة؟ وهل تحل السينما محل النص المكتوب؟ يقول الناقد السينمائي صلاح صلاح: من بين كل الفنون السبعة المتصلة بالسينما تبقى الرواية أكثرها قرباً ليس من ناحية التشابه، وإنما من ناحية العلاقة النفعية المتبادلة بين الفنيين. وكثيراً ما تقتبس السينما روايات، ولا يخفى علينا اليوم نظرة الناشر إلى السينما عندما ينشر رواية، إذ أنه يأمل بتحويلها إلى فيلم سينمائي وجني الحقوق طبعاً، لكن بالرغم من كل ذلك يبقى الفارق بينهما كبيراً حتى أنه يصل حداً شاسعاً. محصورة بوقت ويضيف: السينما كما كان يقول «جوادر» هي وسط بين الحياة والأدب أي الرواية. هذا من ناحية تقنية السرد الذي يتحكم فيه عامل الزمن بشكل كبير، السينما محصورة بوقت زمني شبه محدد، ما كان شكسبير يدعوه «ساعتي المجيء والذهاب فوق مسرحنا» بينما الرواية يمكن ان تتراوح بين 100 صفحة وآلاف الصفحات. الفرق بين الحياة والرواية والسينما كالقيام برحلة. في الحياة نسير في الرحلة سيراً على الاقدام، ببطء وايقاع غير سريع. بينما في الرواية نسافر على دراجة هوائية، فيمكننا مشاهدة بعض التفاصيل والمناظر الطبيعية بهدوء. والسينما رحلة اما في احسن الحالات في قطار أو حتى طائرة في افلام الحركة اليوم. ويقارن صلاح بين السينما والرواية قائلاً: «صحيح ان السينما تتحلى بإمكانيات بصرية لا تملكها الرواية، وبذلك تترك التفاصيل للكل ليشاهد ما يريد، بينما في الرواية ثمة مكان للخيال أوسع في تصور الشخصيات والأماكن وحتى مجريات الاحداث ناهيك عن نبرة الحوار. أمانة النقل وفي ختام كلامه ينبه صلاح الى قول بعيد عن الدقة لكن كثيراً ما نسمعه وهو قولهم «هذا فيلم أمين أو غير أمين للرواية أو المسرحية» فالامانة في النقل - لديه - لا يمكن ان تتعدى نقل الفكرة العامة، غير ان طريقة النقل لا يمكن ان تكون أمينة، اذ لا يمكن توحيد عالمين مختلفين في لغة ووسائل التعبير. يقتل المخيلة الروائي فرحان ريدان يشير في بداية حديثه الى ان اشكالية رواية فيلم تنبثق في الفضاءات الفاصلة بين افقين: الافق اللغوي، والافق البصري، وتأخذ شكل خيالته في التخوم المتداخلة بين فنين: فن توليد المفردات وفن توليف الصور. وجوهر هذه الاشكالية فارق بين لغتي توصيل غير انه فارق تناقضي، فلو أمعنا النظر في طبيعة الكتابة الابداعية لوجدنا ان الروائي يقفص الصور في مفردات! ولو دققنا في صورة فنية واحدة لوجدناها تقول كلاماً ومفردات يعجز عنها الروائي، اذ ان المخرج يققص المفردات في صور. وهذا ما يوحي لنا بالتماثل. ويضيف غير ان الرواية لغة توصل «قائمة بذاتها» مثلما ان للصور لغتها وخصائصها فقد قرأنا «كارمن» رواية وسمعناها موسيقى ورأيناها باليه وأيضا لوحة تشكيلية، وكأنها تترجم الى لغات فنية وتعبيرية مختلفة. لكن وما ان ينتهي الفيلم المأخوذ عن روايته حتى يصيح الروائي «هذه ليست روايتي» وهكذا تتعزز خصوصية الفارق. رغم ان كليهما الروائي والمخرج، يستهدف مخيلة المتلقي «المشاهد او القاريء منهما يحرضانه على اعادة انتاج الصور الخاصة به». ويشير الى ان طاقة الصورة وقدرتها على التوصيل اكبر من المفردة لان البصري - اوطد وارسخ الرسوم على الكهوف، أقدم بملايين السنين من اللغات البدائية، كذلك فإن طغيان الصورة في شاشة الذاكرة واضح ويومي في حياتنا الشخصية. والطريف ان الممثل جيمس دين كان يقرأ الحوار بطريقة مختلفة في كل تدريب وعندما دهش المخرج قال دين: ان الكلام اقتراح لما نفكر به، معنى ذلك ان الصورة اكثر بكثير من الحوار المكتوب. ومن ثم انتقل ريدان ليؤكد ان هناك نصوصاً ابداعية لا يمكن تصويرها أو انها تفقد بنيتها وروحها اذا صورت، فمثلاً من يستطيع تصوير قول بيريسي شييلي «تنامين على يدي.. أغفو فأحلم بك»؟ وفي المقابل فإن صورة واحدة ناجحة تقول أكثر مما يكتبه أعظم الكتاب: الثورة الفرنسية في نهاية عهد الارهاب، الشوارع مزدحمة بالناس، على الشرفات نساء يرقبن مرور العربة التي تقل روبسبير إلى حتفه فجأةً تمزق النساء ملابسهن في حركة واحدة. ويختم حديثه قائلاً: ان الرواية تقدم لنا امتاعاً فنياً أكبر لأنها تتيح لنا امكانية بناء صورنا الخاصة أما الفيلم فيقدم لنا صورة محددة، هذا هاملت وكفى! ولا تستطيع مخيلتك ان تنشط وبذلك فإن الفيلم يخسر من هذه الزاوية نقطة أمام الرواية. كما حدث أيضاً اني رأيت فيلم «الحرام» المأخوذ عن رواية يوسف إدريس وذلك قبل ان أقرأ الرواية ثم فوجئت ان صور الفيلم لا تسمح لي بتشكيل صوري الخاصة أثناء قراءة الرواية! إنها تقتحم مخيلتي عنوة غير أنه لبعض أساتذة السينما رأي آخر. فيلم «ربيكا» لألفرد هيتشكوك على مدار ساعتين ترى تفاصيل عن ربيكا.. خادمتها، ملابسها، اسمها في دفتر الطبيب، الدرب الذي تتمشى فيه في الغابة، لكنك لا ترى بطلة الفيلم ولا مرة!!. رؤية جديدة للنصوص قتيبة زاهدة مشاهد يقول: «عندما أقرأ رواية واراها فيما بعد فيلما سينمائياً. أراها حقيقة كما يصورها المخرج ولهذا لا تحرك في داخلي الكثير ولا تتقاطع مع خيالي مثلما تتقاطع الرواية، فهناك قراءة ما بين السطور أي مساحة للخيال. أما الفيلم فهو صورة وحدث كامل وبالتالي يكون دورنا مجرد متلقيين أكثر منه متفاعلين، وبمجرد انتهاء الفيلم نادراً ما يترك أثراً في ذاكرة المشاهد بعكس الرواية التي نتفاعل معها. ويشير زاهدة إلى الروايات التي قرأها وشاهدها فيما بعد كأفلام وهي «طروادة» في المثيولوجيا اليونانية، و«قصر الشوق» للروائي المصري نجيب محفوظ ورأيه ان الفيلم لم يكن بجودة العمل. ورغم ان الفيلم يأخذ الرواية إلى اتجاهات أخرى لكنه يقدم الكثير للمشاهد الذي ربما لن يجد وقتاً للقراءة، وهكذا يمكن ان تعوض السينما الجادة جانب النقص في مجال الاطلاع على النص الأصلي. ويوضح نقطة وهي ان سيطرة القائمين على صناعة السينما واضحة في تجسيد رؤيتهم التي ربما لا تنطبق مع مسرح الأحداث، فمثلاً قدم مخرج يهودي منذ حوالي ست سنوات «تاجر البندقية». ومع انه لم يغير في الحوار وانما في اسلوب معالجة الكلام فذلك جعل الجمهور الذين لم يقرأوا المسرحية يتعاطون مع شخصية اليهودي «شايلوك» ورأوا انه تعرض للظلم بينما كانت شخصية «شايلوك» على مر العصور مثالاً للطمع والجشع. حق التجريب خص الدكتور حبيب غلوم مؤلف ومخرج مسرحي في بداية حديثه التجربة الإماراتية قائلاً: «لانستطيع ان نحكم على هذا التقاطع من خلال واقعنا المحلي لأننا إلى الآن لم نتطرق إلى صناعة السينما في الدولة. لكن تم الاستعانة مسبقاً ببعض نصوص الروايات والقصص، التي كتبت من قبل أبناء الدولة، وتحويلها إلى مسلسل بنظام الحلقات المنفصلة بحيث تأخذ كل قصة حلقة من الحلقات المقدمة بهدف التركيز على حكاية معينة، وللأسف لم تنجح مثل هذه الجهود ربما بسبب غياب المتخصص في مجال الدراما التلفزيونية في الدولة. وعلى المستوى العربي والعالمي نجح الكثيرون في تقديم الروايات المكتوبة إلى شاشات السينما مثل روايات نجيب محفوظ. أما قضية التقاطع مع خيال الجمهور فتعتمد على التجربة نفسها، فقد يأتي مبدع ما ويضيف على هذه الرواية المقروءة أصلاً من خلال أفكار خاصة برؤية المخرج، التي قد نجد فيها نوعاً من الإبداع يؤدي إلى تعلق المشاهدين بالفكرة والصورة. وبصفة شخصية أشجع الاستعانة بالكتابات الإبداعية. ويضيف بالمحصلة تبقى المسألة متعلقة بالأفكار المطروحة التي يعتمد عليها الفيلم. فمن حق المبدع ان يجرب فهذا مطلوب للتنويع مع التأكيد على ان الصورة تحل محل الكتابة، فالصورة تترجم الأشكال في السينما والمسرح، ولا يخفى على أحد ان التلفزيون يأخذ المشاهد القاريء من الكتاب ومن الأشياء المكتوبة. البيان الإماراتية في 29 يناير 2005 |