الصراع الذي هزم فيه الرجال
هوليوود ـ محمد رضا |
|
يمنحنا فيلم جوانب, الذي وضعته أكثر من جمعية نقدية أمريكية علي قمة قوائمها كأفضل فيلم للعام الماضي, فرصة للمقارنة بين رجلين مختلفين تماما. لكن علي الرغم من هذا الاختلاف فإن هناك قاسما مشتركا ثابتا بينهما: كلاهما يخطو إلي النصف الثاني من العمر غير مجهز تماما بما يكفل له مواجهة متطلبات تلك المرحلة مواجهة صحيحة. وعلينا أن نعترف, يخلق ذلك الوضع وحده ما يكفي لإثارة الاهتمام فما البال إذا ما كانت النظرة كوميدية سوداوية وفي محلها الصحيح, أي من دون أن تنقلب إلي معادية أو ساخرة؟ وما البال إذا ما كان هذا الفيلم, المرشح لنيل جائزة غولدن غلوب, من إخراج ألكسندر باين؟ ألكسندر باين أثار الاهتمام قبل عامين بفيلمه الكوميدي أيضا عن شميد. بطل ذلك الفيلم كان أيضا رجلا تجاوز سنوات الشباب وما بعدها وهاهو, كما أداه جاك نيكولسون بجدارته المعهودة, يحاول استخلاص عبر حياته مشدودا إلي منح نفسه فرصة حياة حرة من جديد. بطلا جوانب هما كاتب واعد طلق زوجته من عامين ومايزال يمني النفس بالعودة إليها( يؤديه بول جياماتي), وممثل تلفزيوني في بعض المسلسلات العاطفية انحدر في الآونة الأخيرة إلي ممثل إعلانات فقط( توماس هايدن تشيرش) وهو علي أهبة دخول التجربة الزوجية بعد أسبوع من الآن. كلاهما صديقان حميمان والأول يأخذ الثاني إلي كروم العنب في شمالي كاليفورنيا لرحلة هي مزيج من الاستجمام والمعرفة. فإلي جانب اهتمام الكاتب بالتحول إلي روائي ناجح ينتظر رد فعل دار نشر أخري علي روايته الأولي, هو إنسان يحب شرب النبيذ وعلي إلمام كامل بطريقة صنعه وخصائص كل نوع فيه. لكن المفاجأة بأن صديقه الممثل يريد توديع حياة العزوبية التي ستنتهي بعد سبعة أيام بعلاقات جانبية. هذا يدفعهما إلي التعرف إلي نادلتين( فرجينا مادسون وساندرا أوه) لكن في حين أن الكاتب يخشي الإقدام علي علاقة جديدة قد تنسف ما يحاول ردمه من علاقة سابقة, يندفع الثاني في علاقته وحين تنهار سريعا ما يبدأ البحث عن ثانية.. بطلا جوانب هما في نقلة يبحثان فيها عن دور الذكر في المجتمع الحالي. جيل الأنا وهو يدرك إنه بحاجة للآخر. فراغ الأيام علي عكسه, نجد في فيلم مليون دولار بايبي لكلينت إيستوود, وهو أيضا فيلم اعتلي قوائم الجمعيات النقدية الأمريكية مع نهاية العام, يقدم رجلا وحيدا في فراغ أيام ما بعد فوات الفرص. كلينت إيستوود المخرج ينتقل مجددا إلي أمام الكاميرا لاعبا شخصية صاحب نادي ملاكمة ومدرب خبير. في أحد الأيام تدخل ناديه امرأة في الحادية والثلاثين من العمر( هيلاري سوانك) طالبة أن يقوم بتدريبها. يرفض ذلك فهو لا يدرب النساء لكنها كانت دفعت اشتراك الإنضمام إلي النادي فيتركها تتدرب علي هواها معتقدا أنها ستتعب وتكف. لكنها تستمر وتقنع صاحب النادي بأن يتبناها كمشروع بطلة ملاكمة. كل شيء بعد ذلك يسير, مهنيا, لصالح هذه الشراكة الجديدة, لكن القدر يخبيء حادثة ستقلب المعادلات بأسرها. فراغ الرجل الذي كان سائد حياته, امتلأ بما هو أكثر من قصة حب بين جنسين. إنه قصة حب بين إنسانين. ليست هناك مشاهد غرامية ولا حتي رومانسية, بل مشاهد تجانس تعكس حاجة كل منهما إلي الآخر. في ختام الفيلم نهاية تعكس وميض الحياة وهو يخبو منهما. الرجل من ضلع المرأة في سينما اليوم انعكاسات لما تشهده الحياة الماثلة من اختلافات شتي بين الرجال. قليلون هم الذين لا يزالون يمارسون المفهوم الرجالي القائم علي تميز ذكوري. معظم رجال الحياة المعاصرة اكتنزوا تلك الخصائص التي من الممكن وصفها بالمشتركة مع الخصائص الأنثوية. في حين أن الرجل في السابق كان يميل أكثر لاستخدام كلمة أفكر, بات هذه الأيام أكثر ميلا لكلمة أشعر, وهي كلمة ترددها النساء( الغربيات علي الأقل) أكثر من كلمة أفكر. وهذه ليست سوي دلالة تكبر وتصغر بحسب النظر إلي أهميتها, لكن النماذج الموزعة من حولنا تظهر انجذاب الرجل لحلول الحياة الأنثوية. هل يذكر القاريء مثلا شخصية مل غيبسون في ما تطلبه المرأة(2002) ؟ لقد اعتبر نفسه رجلا من طراز خشن إلي أن ضربته صاعقة كهربائية وهو في الحمام( يمارس عملية تجميلية نسائية!) فإذا به يتزود بالقدرة علي سماع ما تفكر به كل امرأة يلتقيها, وبذلك ترتفع حواسه النسائية ويفهم, للمرة الأولي, ما تريده المرأة. بصرف النظر عن سخافة الفيلم ككوميديا تنتمي إلي الصف العريض جدا من سينما الركاكة, فكريا وفنيا, إلا أن ما تطلبه المرأة له ذيول نشاهدها في أفلام اليوم. أدام ساندلر مثلا يخفق في التوفيق بين المطبخ والعمل ويبحث عن إلهام لمعالجة بيت زوجي متصدع فيجد الحل في دروس توفرها الخادمة المكسيكية من دون أن تدري وذلك في سبانغليش( جمع كلمتي سبانيش وإنغليش). إيثان هوك في قبل المغيب هو المدان ـ ضمنيا ـ كونه لم يرتق إلي أحاسيس المرأة التي التقي وأحب( جولي دلبي). دنزل واشنطن يتعلم أشياء مفيدة لما تبقي من حياته من طفلة في رجل مشتعل. وبينما قدم فيلم ألفي في السبعينيات شخصية رجل( مايكل كين) ينتقل بين النساء فخورا برجولته, يقدم ألفي الحالي المستند إلي الفيلم السابق شخصية رجل( جود لو) أكثر نعومة وحيرة في شأن علاقاته تلك. شبكة علاقات أحد الأفلام الحالية الأكثر عكسا للعلاقات الرجولية في مجتمعات اليوم هو أقرب, فيلم جديد لم يعرض عالميا بعد, للمخرج البريطاني العريق مايك نيكولز( عمل في هوليوود طويلا) من بطولة كل من كلايد أوورين وجود لو وجوليا روبرتس ونيكول بورتمان. في هذا الفيلم تتشابك خيوط العلاقة بين هذه الشخصيات الأربعة علي النحو التالي: جو لو, صحفي, يلتقي ذات يوم براقصة ستريبتيز أمريكية هي نتالي بورتمان. جود لو كان علي علاقة مع مصورة فوتوغرافية( جوليا روبرتس) غير واثق من أنه يريد أن ينهيها حتي من بعد أن وجد حبا جديدا متمثلا في تلك الراقصة. أيضا هو ذي خصية انثوية من حيث أنه يستطيع أن يوهم الطبيب كلايف أووين, ومن دون أي معرفة سابقة وعن طريق استخدام الإنترنت, بأنه إمرأة تسعي للتعرف عليه. الطبيب مجذوب إلي تلك المرأة بسبب سخونة مراسلاتها وتلقائيتها. لكن حين يصل إلي المكان الموعود يجد أمامه المصورة الفوتوغرافية روبرتس فيعتقد أنها هي من راسلته حتي يتبين لهما أنهما وقعا ضحية لعبة جود لو. هذا اللقاء, علي أي حال, يوطد علاقة عاطفية بينهما ينتهي إلي زواج. لكن السؤال الباقي في مخيلة الطبيب والزوجة هو إذا ما كان الصحافي أشعل في ذات الطبيب الرغبة في الصحافي وليس في الزوجة. يطل هذا التساؤل ويغيب ثم يطل مجددا طوال الوقت. الطبيب خلال فترة زواجه التي لا زالت في بدايتها يتعرف علي الراقصة التي لاتزال زوجها الصحافي, والصحافي يعود إلي جوليا روبرتس التي تخون زوجها معه. إلي جانب بحث الفيلم في شبكة علاقات متهاوية( وإن كان الفيلم مصنوعا علي قدر كبير من التماسك فنيا) يطالعنا بشخصيتي رجلين مترددين وفاقدي الثقة. صحيح أن شخصية كلايف أووين أكثر خشونة من شخصية الصحافي, لكنها خشونة تستر عدم ثقة. أما الصحفي فهو علي الحافة بين الرغبة الأنانية ليكون محور كل العلاقات وبين أن يحدد أي امرأة يريد. حتي جيمس بوند القاريء معذور إذا ما سأل نفسه عما إذا كانت هوليوود هذه الأيام غير قادرة علي توفير شخصية الرجل الذي هو ليس أقل أو أكثر من.... رجل. والقاريء يستطيع ملاحظة أن الجواب ليس سارا في هذه الناحية. التراجع عن تقديم شخصية رجولية كاملة, بخشونتها الطبيعية وليست العنيفة, بحبها للريادة وبراعتها فيها, بتضلعه بالمسئوليات واعتبار نفسه ملزما بإسعاد المرأة التي يحب والعائلة التي يحوي, واضح حتي علي صعيد ما تقدمه الأفلام المصرية ذاتها. الرجل الحائر حل مكان الرجل المدرك. الرمادي حل مكان الأسود ومكان الأبيض. حين يأتينا فيلم كرتوني موجه للصغار بعنوان حكاية قرش ينص علي حق سمكة قرش ذكر في أن يكون مختلفا فإنه يروج لمبدأ قبول الرجال الشاذين. وستلاحظ أن الشذوذ الجنسي بين الرجال( علي الأقل) انتقل من مستوي التعامل معه كحالة تصيب المثقفين أحيانا, إلي وضع اجتماعي منتشر. روبرت دي نيرو قد يأنف في فيلميه قابل الوالدين و(الحالي) قابل عائلة فوكرز مما يعتبره تهاونا في العناصر المكونة للرجل اجتماعيا إلا أن الفيلم يقصد أن ينتقده هو وليس شريكه في البطولة بن ستيلر. كذلك الحال حينما مثل حلل هذا ليكتشف أن فيه توجهات قد تفسر بأنها ناعمة. مبارك إذا ما قبل بها ومنتقد إذا ما رفضها. والتراجع ليس من بنات العام الماضي أو الفترة الحالية من العام الجديد, بل يمكن ملاحظته في مسائل ونماذج لا تتطلب الكثير من المعاينة علي الشاشة. مثلا ليس مصادفة أن يطال الانحسار الجماهيري سلفستر ستالون وأرنولد شوارتزينجر وجان-كلود فان دام وستيفن سيغال في آن واحد. كل من هؤلاء أصبح نجما بسبب تمثيله دور الرجل المحارب المتمتع بقوة بدنية خلال الثمانينات وحتي النصف الأول من التسعينات. بعدها تستطيع أن تشتري جان-كلود فان دام ليكون بطل فيلمك المقبل بـ50 الف دولار زائد وجبات العشاء. وماذا عن بروس ويليس؟ حالما غابت تلك الفترة ذاتها من الطرح الإجتماعي حاول السخرية منها في كل الياردات التسع ثم كل الياردات العشر والمحاولة فشلت والآن لم يعد مطروحا كنجم سائد. وما حل بشخصية جيمس بوند علامة فارقة في هذا الدور الجديد للرجل في عالم اليوم. طبعا لا يزال هو البطل الأول علي الشاشة, لكن أنظر ما فعلوا به منذ أن قام شون كونيري بتمثيله الأحادي وتبعه روجر مور جامعا بين الخشونة وبعض اللين. في أفلام جيمس بوند الأخيرة, مثل العالم ليس كافيا وغدا لا يموت أبدا... البطولة أصبحت شبه متناصفة مع العنصر النسائي وهو بدوره ليس خشنا الا بالصنعة وليس بعمق الشخصية. حتي الإسكندر في فيلم أوليفر ستون أصبح فجأة رجلا شاذا جنسيا أكثر مما هو قائد لا يشق له غبار. فارس المدينة لكن ما يزال هناك أمل برجعة إلي الرجل البطل. ربما الغروق في الرجل الناعم والرجل المتردد والرجل الساخر من نفسه وصل إلي الحد الذي لم يعد يثير الاهتمام ما سيغري بمثل هذه العودة. لكن إذا ما عادت السينما إلي تلك الصورة فسيكون من باب الخيال أكثر مما من باب الواقع. الحياة اليوم تنبذ, باسم التقدم والتحضر والعلاقات السوية بين كل الأطراف( رجالا ونساء وأطفالا) أن ينعم الرجل بخصائصه خالية من كل شوائب. بالتالي, إذا ما أردت مشاهدة كيف كان حال الرجل بالأمس وما حاله اليوم عليك بفيلمي فارس المدينة وكلفتي( كلاهما لمحمد خان). أعتقد أنهما يلخصان كل شيء أفضل تلخيص. الأهرام العربي في 22 يناير 2005 |