يسري نصر الله..يتحدي أفلام العيد "باب الشمس" يفتح في مصر لأول مرة كتب: سمير فريد |
|
تبدأ اليوم سينما 2005 في مصر مع أول أيام عيد الاضحي المبارك. وهو يوم عيد للسينما أيضا. فاليوم يبدأ عرض "باب الشمس" أحدث أفلام فناني السينما المصري العالمي الكبير يسري نصر الله. يفتح باب الشمس في مصر بعد أن فتح لأول مرة في مهرجان كان العام الماضي أكبر مهرجانات السينما. وبعد أن عرض بنجاح في مهرجان قرطاج في تونس ومهرجان مراكش في المغرب. لكل فيلم في العالم هويتان هوية تجارية أي بلد منشأ الإنتاج. وهي هنا فرنسية. وهوية ثقافية. هي هنا فلسطينية رغم أن المخرج مصري. وكاتب الرواية الأصلية الياس خوري لبناني. وأغلب الممثلات والممثلين من سوريا وتونس. مما يؤكد مرة أخري- ولن تكون أخيرة -أن قضية الشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل حقوقه منذ أكثر من مائة سنة عندما قرر المؤتمر الصهيوني الأول إقامة دولة يهودية علي أرض فلسطين هي قضية كل من يؤمن بالحرية والعدل والسلام في العالم العربي والعالم كله. هذا هو ثالث فيلم كبير لمخرج غير فلسطيني عن قضية الشعب الفلسطيني بعد الفيلم السوري "المخدوعون" الذي أخرجه المصري توفيق صالح عن رواية الفلسطيني غسان كنفاني عام 1972. والفيلم الفرنسي "هاناك" الذي أخرجه اليوناني الأصل كوستار جافراس عام 1982. ففي هذه الأفلام الثلاثة رؤي تحليلية عميقة للقضية بكل أبعادها المركبة رغم اختلاف هذه الرؤي. ورغم اختلاف أسلوب التعبير عند كل من المخرجين الثلاثة. وكم عانت قضية فلسطين من الأفلام السطحية الغوغائية قدر معاناة الشعب الفلسطيني من الصهيونية. التبسيط وقد يقال هنا وما هو المركب في قضية فلسطين كان شعب فلسطين يعيش علي أرضه منذ آلاف السنين مثل أي شعب. وجاء شعب آخر. وأقام دولة عليها ليعيش فيها. ولابد أن يعود الحق لأصحابه وهذا بالضبط التبسيط الذي لا يخدم القضية أيا كانت النوايا. وإذا كان "المخدوعون" قد عبر عن مسئولية الفلسطينيين والعرب عن ضياع حقوق الشعب الفلسطيني. وعبر "هاناك" عن مسئولية العالم وأوضح أن الشعب الإسرائيلي ملفق. لكنه شعب. ولابد من دولتين لشعبين علي أرض فلسطين. فإن "باب الشمس" يجسد كم هو ملفق ذلك الشعب الإسرائيلي. وكم هو متمسك بحقوقه ذلك الشعب الفلسطيني. والمركب في قضية الشعب الفلسطيني أنه يتعرض للإبادة منذ خمسين سنة علي أيدي الشعب اليهودي الذي تعرض للإبادة علي أيدي النازيين منذ ستين سنة محققا قول شابلن إن إنشاء دولة لليهود علي أرض فلسطين يعني أن السم العنصري قد تسلل من الجلاد النازي إلي الضحية اليهودية فأصبحت تبحث عن ضحية هي الشعب الفلسطيني. فلماذا يدفع الشعب الفلسطيني ثمن الجرائم النازية التي لم يرتكبها. ولماذا يدفع ثمن شعور من يشعرون بالذنب تجاه اليهود بمناصرة إسرائيل علي حساب حقوقه المشروعة. ويتناول يسري نصر الله في فيلمه ملحمة الكفاح الفلسطيني من حرب 1948 التي أدت إلي إنشاء إسرائيل إلي اتفاقية أوسلو 1994 التي أدت إلي إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. ويؤرخ دراميا لهذه الفترة بكل أحداثها الجسام من الخروج الفلسطيني من فلسطين إلي لبنان. ومن خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان إلي صحراء تونس من خلال قصة حب من أروع قصص الحب في الأفلام الناطقة بالعربية فالمقاومة من أجل الحق فعل حب. والكفاح من أجل الحرية فعل حب. والعاشقة الفلسطينية هي الممثلة التونسية المبدعة ريم تركي التي لا تقارن إلا بأعظم الممثلات في تاريخ السنين. صراع الفلاحين قل ان تخلو سينما في العالم من فيلم كبير عن الأرض. وصراع الفلاحين مع الأرض لتثمر. ومع ملاك الأرض لينالوا حقوقهم. وكم كان شاعرنا محمود حسن إسماعيل بليغا عندما قال عن الفلاح "يضرب كفه في الأرض من ألم فتخضر". وكل أفلام الأرض الكبيرة أصبحت من كلاسيكيات السينما العالمية من أرض دوفجفكو الروسية وأرض جون فورد الأمريكية في "عناقيد الغضب" إلي أرض رينوار الفرنسية وأرض يوسف شاهين المصرية. ويتكون "باب الشمس" من جزءين نشاهد من اليوم جزءه الأول "الرحيل" الذي يعتبر أعظم فيلم عن الأرض الفلسطينية. والذي أصبح بدوره من كلاسيكيات السينما العالمية. لم يصور الفيلم في فلسطين وإنما في سوريا. ولكن الأرض ليست فقط الجغرافيا. وإنما أساسا التاريخ والبشر الذين يعيشون عليها ويحملون هذا التاريخ ويعبرون عنه في حياتهم اليومية. وتتجلي عظمة الفيلم في تعبيره عن ثقافة الفلاحين الفلسطينيين كثقافة عريقة وراسخة بكل جوانبها السلبية والإيجابية. فنحن أمام بشر لا هم ملائكة ولا شياطين. ولا هم آلات مبرمجة سياسيا أو مسلحون يطلقون الرصاص من دون وعي. أناس يعيشون علي أرضهم ومثل كل الناس في كل الدنيا يريدون الحياة بسلام. وبذلك يكشف يسري نصر الله ببساطة وعمق ومن دون شعارات عن الأكذوبة الصهيونية الكبري التي طالما روجت لها إسرائيل في العالم وهي أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب. فلماذا لا يعيش عليها اليهود. وهم شعب بلا أرض. إننا نري في "باب الشمس". ولأول مرة علي شاشة السينما تفاصيل خروج الفلاحين الفلسطينيين من بلادهم عام 1948 تحت ضغط الإرهاب الصهيوني الذي تمثل في إحراق القري وإبادة السكان والاستيلاء علي بيوتهم وأراضيهم ومطاردتهم حتي يعبروا الحدود إلي الدول المجاورة. ونشعر بمدي فداحة المأساة عندما نستمع إلي الفلسطينيين في الخيام وقد تصوروا أنهم سوف يعودون بعد يومين أو ثلاثة. وقد مر الآن أكثر من نصف قرن ولايزالون في المخيمات. ولايزال العالم يتفرج ولايزال يشعر بالذنب تجاه ضحية النازي حتي بعد أن تحولت إلي جلاد نازي وما النازية غير الإيمان بالقوة المسلحة فوق كل شيء والإيمان بالتفوق علي كل البشر. شراء الأرض لم يكن أمام الغزاة الأوروبيين للأمريكتين منذ 500 سنة إلا شراء الأرض بالمال أو الاستيلاء عليها بالقوة المسلحة وإبادة سكانها. وقد أراد نفس الغزاة الأوروبيون لفلسطين أن يكرروا ما حدث في الأمريكتين في القرن العشرين. فاشتروا ممن باعوا واستخدموا القوة المسلحة في الاستيلاء علي أراضي من رفضوا البيع وإبادتهم ودفع من بقي منهم إلي الهجرة. ولكن السكان الأصليين في فلسطين غير السكان الأصليين في الأمريكتين. والعالم اليوم غير العالم من 500 سنة. يقف يسري نصر الله بين مخرجي السينما في مصر صانعا عالمه الفني الخاص والمتفرد منذ أول أفلامه "سرقات صينية" عام 1988. وهو في كل فيلم من أفلامه الخمسة التي أخرجها منذ ذلك الحين يفتح بابا للإبداع في السينما ويقدم تجربة فنية مختلفة محافظا علي قدر هائل من الحيوية الفنية والفكرية. ولكنه في فيلمه الخامس الجديد يفتح باب الشمس ذاته. وما هذه السطور إلا تحية إلي عمل فني كبير يحتاج إلي كتاب كامل لتحليله. الجمهورية المصرية في 19 يناير 2005 |