من يصنع سينما 2005 في العالم؟ حصاد عام 2004 السينمائي باريس-صلاح هاشم |
فيلم "الرحلة ألكبري" لإسماعيل فروخي: رحلة إلي مكة المكرمة تصالح بين جيلين وثقافتين في فرنسا الرحلة ألكبري.. تصالح بين جيلين وثقافتين في فرنسا باريس- صلاح هاشم من أجمل الأفلام العربية التي تعرض حاليا في العاصمة باريس فيلم "الرحلة ألكبري" لإسماعيل فروخ- مخرج فرنسي من أصل عربي مغربي- وكان قدم إلي فرنسا مع أسرته في سن مبكرة, وأستقر معها في الجنوب الفرنسي المشمس, وتربي مثل بقية الجيل الثاني من أبناء المهاجرين, في أحضان ثقافة بلاد ألغال, بتراثها وتقاليدها وقيمها, وعاني كما أبناء جيله ومازال, من عذابات التوزع والتشتت والتمزق- وبدرجات متفاوتة عند كل فرد- بين ثقافتين, الثقافة الفرنسية والثقافة العربية- وبين جيلين, جيل الآباء من المهاجرين , وجيل الأبناء من الجيل الثاني,.. وهي مشكلة أولادنا جميعا الذين ولدوا هنا في الغربة, ونعاني, ونحار ايضا في تربيتهم وتعليمهم. ويحسب اولا لهذا الفيلم الجميل الذي اعجبنا, توقيت خروجه الذكي, اذ يخرج الي الناس, وبخاصة الفرنسيين , خلال فترة حرجة, ومرحلة اختبار, يمر بها دين الاسلام في فرنسا والغرب, بعد ان ألصقت به العديد من التهم الباطلة, وقدم من اصحاب النفوس المغرضة التي تكره الاسلام والعرب والمسلمين , وتعتبرهم يهددون مصالحها, وبخاصة اذا صارت تأثيراتهم أكبر, وأكثر فاعلية في المجتمع الفرنسي, قدم علي أنه دين يشجع من خلال مفهوم الجهاد, يشجع علي الإرهاب, ويحض علي العنف, ويتشبث بالغيبيات والخرافات التي عفي عليها الزمن. غير أن الاسلام كما نعرف جميعا, هو بتعاليمه وتسامحه وانسانيته, اصلا براء من كل هذه التهم.. "الرحلة الكبري" تتواصل مع الجيل الثاني وبحثه عن هوية ولذلك يأتي الفيلم , ليدخل من خلال عرضه منطقة ملغومة, ويقوم بتطيرها من ألغامها, اذ يعلي من قيم دين الإسلام, ويتسامي بها( وبخاصة في المشهد الاخير عند لحظة التنوير في الفيلم, حين يطل الابن في النهاية من نافذة السيارة برأسه ويأخذ نفسا عميقا ويكون يقينا قد تغير) عندما يأخذ الفيلم الفرنسيين, ومنذ اول لقطة, في رحلة الي مكة المكرمة, يدلفون من خلالها الي قلب الاسلام, وروحه وتعاليمه, رحلة قد يعودون منها ربما , وقد اغتسلت نفوسهم, وتطهرت ارواحهم, بأنوار المحبة والايمان, وقيم احترام الآخر والتفاهم والسلام, التي تشع من هذا الفيلم الجميل. الذي يعلن في ذات الوقت عن موهبة مخرج عربي جديد, متمكن من ادواته, وواعد.كما يحسب للفيلم, انه يقدم صورة عصرية للإسلام, تتواصل مع " الحساسية الجديدة " عند الشباب, وبحثه عن هوية , صورة تبرز, كما يوحي هذا الفيلم " الرحلة الكبري " بأكمله, أن الدين في النهاية هو سلوك حضاري انساني, وليس مجرد تعاليم صماء مجردة , او محفوظات سرية غامضة للترديد والتلقين.يحكي الفيلم عن الشاب المراهق " رضا " الذي نراه في اول لقطة من الفيلم يركب دراجة, ويذهب الي مقبرة السيارات التي يعمل بها اخيه , بالقرب من مدينة اكس اون بروفانس في الجنوب, وذلك لمساعدته في تركيب باب قديم, منتزع من حطام سيارة في المقبرة, تركيبه في سيارة بيجو جديدة, ونلاحظ من خلال تصرفات المراهق رضا-17 سنة-أنه عصبي, ويكره الاوامر, وعنيد, و"موتور" او متوتر, مثل كل شباب هذه الايام علي مايبدو, اذ يتكلم بسرعة, ويمشي بسرعة, و يأكل بسرعة, ويعيش حياته علي عجل, مثل أغلبية المراهقين من امثاله, وعندما يعود رضا الي البيت, يفاجيء بأن الاب العجوز قرر ان يقود رضا السيارة الي مكة, لتأدية فريضة الحج, بدلا من اخيه, وعلي الرغم من ان الاب يعلم, وكذلك الام, انها فرصة رضا الاخيرة للتقدم لامتحان البكالوريا- الثانوية العامة الفرنسية- بعد أن فشل من قبل في اجتياز ذلك الامتحان.. الإسلام أسلوب حياة وفلسفة حضارة كما ان الرحلة الي مكة سوف تقطع صلته بحبيبته " ليزا " التي لاتكف عن ارسال رسائل له عبر الهاتف, وتتوسل اليه ان كلمني ,ولذلك يقبل رضا الامر الواقع ,ويرضخ لمطالب الاب رب الاسرة, وتنطلق بهما السيارة البيجو علي الطريق يقودها رضا, في رحلة علي الاسفلت والرمال, داخل الغابة والجبل والثلج, من مدينة اكس اون بروفانس في اقصي الجنوب الفرنسي , الي مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية, مرورا بايطاليا وبلغاريا وسلوفينيا وتركيا وسوريا , ونتوقف معهما عند عدة محطات علي سكة السفر الطويلة التي يقطعان خلالها اكثر من 5000 كيلومترا, ومن خلال المواقف او بالاحري الصدامات التي تقع بين الاب العجوز والابن, نتعرف علي الهوة التي تفصل في فرنسا بين جيلين وثقافتين, ورغبة مخرجنا اسماعيل فروخي الشاب , في تجاوز هذه الهوة, واقامة نوع من التواصل والتفاهم, يكون بمثابة جسر يعبر عليه ابناء المهاجرين من الجيل الثاني الي اصالة الاسلام وروحه, ويقرب من وجهات النظر المتعارضة. فيلم " الرحلة الكبري " يقدم ايضا بانوراما للعديد من الشخصيات التي يلتقي بها الاب والابن المراهق رضا , في رحلتهما الكبيرة الي مكة المكرمة, لعل ابرزها ذلك اللقاء مع تلك السيدة العجوز, ثم اللقاء مع محتال علي حدود تركيا, وهو يكشف من خلال بعض المواقف الطريفة عن حس فكاهي لدي مخرجنا, تخفف يقينا من حدة الصدامات التي تقع بين الطرفين , وعناء ومشقة الرحلة, الي أن ينفتح في النهاية علي "لحظة التنوير" الكبري, بعد تأزم الصراع , علي ارض مكة المكرمة, وهنا تكون المصالحة الكبري, حين يقع للاب مايقع, ويعود الابن الي فرنسا, ويكون له مااراده من قبل(بعدما أهان الاب, وهدد أكثر من مرة علي السكة, بأن يترك ابيه "الامي" , ويعود الي وطنه فرنسا, وحبيبته ليزا, وفرصة اجتياز امتحان البكالوريا التي لا يجب أن تضيع عليه بأي ثمن) , لكن الفرق, انه يعود هذه المرة الي فرنسا, بعد ان يكون قد "تغير" تماما , وفهم معان كثيرة, لم يكن يستطيع ان يفهمها ويقدرها ويحترمها, ويعتبرها نبراسا لحياته, الا بعد ان يكون" تطهر" واغتسل بالصفاء ,في رحلة الحج هذه , وفي صحبة الوالد. وأدرك من خلال الرحلة, معاني قيم المودة والشفقة والبذل والعطاء, التي تعكس روح الاسلام, ونورانيته, وروحانيته العميقة, وتقربنا أكثر من انسانيتنا. ويحسب لهذا الفيلم , الذي لايخلو مثل كل عمل سينمائي أول من عيوب بالطبع, يحسب له بساطته, وقدرته من خلال بناء درامي محكم ومتماسك, علي ان ينفذ مباشرة الي قلوبنا, ومن دون ان نشعر بأي ملل, خلال تلك " الرحلة الكبري " اكثر من 5000 كيلومترا في اكثر من ساعة و45 دقيقة. كما يحسب له تعاطفنا مع شخصياته, و حضور "المنظر الطبيعي" الساحر في الفيلم, وبخاصة عند الوصول الي مدينة مكة المكرمة, وروعة تصوير مشاهد الحج في المدينة , وربما كانت تلك المشاهد ,من اجمل مشاهد الحج التي قدمت في تاريخ السينما, لا لتعكس ديكورا أجوف أو بهرجة مشهدية زائلة , بل لكي تعلي من قيم أسلوب في الحياة وفلسفة حضارة ودين تأمل, وهي تتسامي بروح التقوي والبذل والمحبة والعطاء. تحية الي اسماعيل فروخي علي فيلمه البسيط الجميل, الذي نعتبره مهما وضرويا, و يستحق المشاهدة عن جدارة.. الأهرام الدولي في 18 يناير 2005 |
تعرض حاليا في باريس مجموعة "أفلام فرنسية "من اصل عربي, إذا صح التعبير, تفتح من جديد إشكالية جنسية الفيلم العربي وهويته, حيث أن البعض يفضل ان يطلق علي أفلام الإنتاج المشترك مع فرنسا او الدول الأوروبية وبخاصة ألمانيا أو هولندا, أفلاما فرنسية, لجهة إنتاج الفيلم, في حين أننا نعتبر أن موضوع الفيلم والهموم والمشاكل والرؤى التي يطرحها ولغة الفيلم, هي التي تحدد, من حيث التوجه, جنسية الفيلم. حيث انه من السخف ان يطلق المرء علي فيلم يناقش قضايا ومشاكل المجتمع المكسيكي, وناطق بالمكسيكية, فيلما فرنسيا ,لانه من انتاج فرنسا. ولذلك يظل فيلم " معارك حب " للمخرجة اللبنانية الواعدة دانيال عربيد, وفيلم " اغترابات " للمخرج الجزائري الموهوب مالك بن اسماعيل, وفيلم " باب الشمس " ليسري نصر الله , والاخير من انتاج قناة آرتيه الفرنسية, وعلي الرغم من انها من انتاج شركات انتاج فرنسية, تظل افلاما عربية, لأنها ناطقة باللغة العربية, وتناقش مشاكل عربية في الصميم , وهذه المشاكل هي كما نعرف بالطبع نتاج لواقع وتناقضات مجتمع معين ومحدد, هو المجتمع العربي, والمشاكل المتعددة التي تعيشها مجتمعاته, مثل مشكلة الحرية والديمقراطية وحرية التعبير, وتنعكس أيضا في أفلامه, وتكشف الي جانب تسليطها الضوء علي مشاكلنا, تكشف عما اذا كانت السينما العربية في بلادنا معزولة عن, او متصلة بحركة وتطور السينما في العالم, كما توضح او تجيب علي السؤال الضروري والاساسي التالي: الاوهو تري هل تتقدم السينما في بلادنا أم تتأخر, واذا كانت تتأخر, اذن ماهي الاسباب. والواضح , من واقع متابعاتنا لافلام السينما العربية في المهرجانات العربية والعالمية ل" ايلاف " وعلي شاشة باريس , ان السينما العربية تتأخر للأسف, وهذا التأخرعلي مستوي الانتاج السينمائي, ومستوي الطرح الفني ايضا, له كما نعرف اسباب كثيرة , لايتسع المجال لذكرها, الا انه يمثل صورة من صور التخلف والتدهور العام الذي نعيشه في بلادنا ,علي كافة المستويات, وانحسار الفكر والتفكير عن مجتمعاتنا, وتفشي الفكر الغيبي ,الذي يريد ان يعود بنا الي ظلمات العصور الوسطي, وبخاصة بعد ان رفعت او نفضت الدولة يديها عن السينما, وتركتها نهبا للتجار الحقراء, فصاروا اوصياء علي ذوق العامة, يصنعون للجماهير الافلام التي ترضي غرائزها, وتتلاعب بعواطفها, وتهبط الي الحضيض بفكرها, وتحركها في الاتجاه الذي تشاء من أجل بقاء واستقرار الاوضاع. ولاشك ان مناخات كهذه , لاتشجع بالطبع علي عمل افلام, ناهيك عن العيش والبقاء في الوطن, الذي صار يمثل قوة طرد , بالنسبة للعديد من السينمائيين والمخرجين الشبان في بلادنا, فكان من الطبيعي, في بحثهم عن تمويل لافلامهم , بعدما انكسروا في اوطانهم , وداخوا السبع دوخات, اللجوء الي الانتاج المشترك , ليس حبا في الانتاج المشترك بالطبع , بل لان الانتاج المشترك, والحصول علي دعم من أي نوع, لايمكن ان تجده الآن الا في بلدان اوروبا, وبخاصة بعد تدهور قيمة العملة المحلية في ظل اليورو والدولار, وارتفاع تكاليف انتاج الافلام العربية بشكل مرعب, ومن ضمنها اجور بعض النجوم , الذين صاروا الآن يطالبون بأجور فلكية باهظة. ولأنك لن تجد, ودعنا نتكلم بصراحة, لن تجد منتجا في بلادنا يهتم بانتاج فيلم, ليقول أي شييء , كما في افلام من نوع " معارك حب " او " اغترابات " لمالك بن اسماعيل أو فيلم " الطوفان " للسوري عمر اميرالاي, بل ان القيم الفنية والاخلاقية الجميلة النبيلة , التي يمكن ان تروج لها بعض الافلام الجيدة في بلادنا, مثل الافلام المذكورة , تقضي عليها في يوم, للأسف برامج ومسلسلات التلفزيون العربية الرديئة الهابطة السخيفة التي لاتكف محطاته عن قصفنا بها في كل لحظة, لتغريبنا عن واقعنا, حتي صرنا مسخا في بلادنا. "معارك حب" وذاكرة الحرب فالفيلم الاول لدانيال عربيد, وقد احببناه, وأعجبنا به , يقدم سينما خالصةpure cinema وحديثة بنت عصرها وزمنها, ويطرح تساؤلات ويحمل هما, يناقش الحرب الاهلية في لبنان, ويطعن في مقدسات المجتمع اللبناني, ويحكي عن طفلة مراهقة, تتمرد علي العائلة والدين , وترفض ان تعيش حياتها كما اراد لها المجتمع والاسرة , وفي الفيلم , الذي هو اقرب مايكون الي افلام السيرة الذاتية, والمذكرات الشخصية, من النوع الذي يستأثر باهتمامنا وأعجابنا كما في افلام الايطالي ناني موريتي , والايراني عباس كيارستمي, تتحدث دانيال عربيد في الواقع عن طفولتها, وتجارب عاشتها وخبرتها , وكانت لها تأثيراتها في تشكيل كيانها الانساني , وفكرها وعواطفها, كما تحكي عن اناس ماتوا, في حرب انقضت, وتقول لنا هكذا كانوا, وتستحضرهم من ذاكرتها, وربما يكون بعضهم , او جميعهم ماتوا بالفعل, والجميل في هذا الفيلم " الشخصي " , أن الشيء الذي يمنحه تفرده واصالته, انه يتحدث عن الحرب , وذاكرة الحرب في لبنان , من دون أن تسمع فيه طلقة رصاص واحدة, او صوت مدفع رشاش, ويمضي فيه كل شييء فيه, بشكل هاديء سلس رصين, وسينمائي ايضا بالضرورة, أي بلغة الصورة التي تفصح وحدها , ومن دون حاجة الي ثرثرات, وترهلات وآهات افلامنا العربية, وضجيجها الذي يجلب لك الصداع, يامؤمن, ويجعلك تقرف من حياتك. كما أن فيلما كهذا, في رأينا, كان من الصعب جدا ان يتحمس له منتج لبناني, و لم يكن من الممكن ان يشجع موضوعه أي منتج عربي " مستنير " علي تمويله, لخلوه من مناظر الخلاعة والرقص, ومشاهد الجنس والعري, ومتبلات السينما العربية المعهودة , في افلام السينما العربية السخيفة الممجوجة, التي ملها الجمهور في بلادنا .وقد تختلف او تتفق مع مخرجته , في الصورة التي طرحتها اللبنانية دانيال عربيد عن حربها, والويلات التي افرزتها , لكنك لا يمكن ان تنكر أو تتجاهل, كونه فيلما جميلا وبديعا ومؤثرا. بل لعله من أحسن الافلام العربية التي خرجت للعرض في فرنسا هذا العام, بسبب قيمته الفنية أولا, التي تجعله يستحق المشاهدة عن جدارة, معلنا عن ميلاد مخرجة روائية عرية موهوبة وواعدة حقا, وكانت مخرجته حققت العديد من الافلام التسجيلية والروائية القصيرة المتميزة من قبل, ولكن, لم يكن من الممكن ان تصنع فيلما كهذا في وطنها الاصلي لبنان, وعليه فأنه من السخف أن نطلق عليه, كما يفعل بعض نقاد السينما العرب, فيلما فرنسيا, حين يناقش مشاكل عربية , وينطق بلسان أهل البلد. ليس المهم جنسية الفيلم الذي يستطيع بجواز سفر فرنسي ان يسافر في العالم, لكن المهم " هويته ".. "اغترا بات": خذوا الحكمة من أفواه " مجانين " الجزائر كما انه من السخف ايضا ان نقول عن فيلم " اغترابات " للجزائري مالك بن اسماعيل, الذي يعرض حاليا في باريس, انه فيلم فرنسي, لأنه من تمويل فرنسا, لأن توجهات الفيلم ولغته وموضوعه عربية, وكان من المحال ان يسارع الموظفون المسؤلون عن السينما في بلادنا الي الترحيب به وتشجيعه وتمويله, لأنه يناقش ببساطة موضوعا خطيرا , كالموضوع الذي يناقشه, الا وهو موضوع غربة الانسان, واستلابه داخل مجتمعاتنا العربية, هذه الغربة, او بالاحري " الاغترابات " التي تجعل الانسان العربي في الجزائر يفقد قواه العقلية, ويصبح مجنونا, ويروح يهذي في مستشفيات الامراض العقلية, فتضطر معها السلطة الي اعتقاله وحبسه. ان موضوع كهذا يقينا لم يكن ان يرحب بتمويله أي مسئول في اطار سياسات الانتاج التي تهيمن عليها الدولة, وتفرض عليها الرقابة في بلادنا, ولابد من تصويرها في صحبة مخبر. ومن الصعب علي أي مخرج العمل بالطبع في ظل مناخات القهر والقمع هذه, لابد ان يحتال علي أي مخبر كي يصنع فيلمه, أي ان تلك الظروف تجبره علي السرقة. وهناك "حجة " أو ذريعة,تأتي علي لسان بعض المسئولين عن السينما في بلادنا, من أنه لايجب تشجيع مثل هذه الافلام, مثل فيلم " اغترابات " من النوع التسجيلي, الذي يحكي عن المجانين في مصحة عقلية جزائرية, لأنه يطرح مشاكل الواقع, وينشر غسيلنا القذر, ويسيء الي سمعتنا في الخارج. لكن, متي كانت افلام مخرج هندي كبير مثل ساتيا جيت راي مثلا, لانها تنشر غسيل الهند القذر, وتحكي عن المجاعة والبؤس, قد منعت الناس من مشاهدة افلامه ؟. بالعكس ان افلام ساتيا جيت راي , علي الرغم من " وساختها " او " قذارتها " هذه, في نظر البعض فقط من المسئولين والموظفين الحكوميين الهنود, هي التي وضعت اسم الهند علي خارطة السينما العالمية, واصبحت من " كلاسيكيات " السينما العظيمة , ولم تمنع الناس ابدا من زيارة الهند والتدفق السياحي عليها. بالعكس, ان فيلم " اغترابات " الذي يستغرق عرضه زهاء ساعتين, و نرشحه هنا للمشاهدة عن جدارة مع فيلم " معارك حب ", من ضمن الافلام العربية المعروضة حاليا في باريس, فيلم ضروري وأساسي , لأنه يشرح العلاقة بين المواطن الجزائري والسلطة, وعلاقته بالبوليس, ويناقش وظيفة الطب والاطباء , وتكمن قيمته الاساسية في انه يقدم تحليلا جريئا للمجتمع الجزائري الآن, علي لسان نزلاء مصحة عقلية في قلب الريف الجزائري, ولسوف تكتشف في الفيلم, صواب الحكمة العربية القديمة, ان خذوا احيانا الحكمة من أفواه المجانين, وليس من افواه الموظفين. ومن اروع مشاهد الفيلم ذلك المشهد الذي تحكي فيه سيدة جزائرية عن عذاباتها , فتقول انها لم تعد تقدر علي الكلام مع الناس, ولم تعد تثق في كلامهم, لأنهم تغيروا, فصارت لاتسعد المسكينة الا بالحديث مع جثث الموتي, حين تروح تغسلهم في مشرحة المنطقة, ولاتجد سلوي الا في مخاطبتهم. وبالعقل , أي موظف او مسئول عن السينما في بلادنا, كان يمكن أن يتحمس لصنع هذا الفيلم؟ , أليس من السخف ان نطلق عليه فيلما فرنسيا؟. فيلم " معارك حب " لدانيال عربيد , وفيلم " اغترابات " لمالك بن اسماعيل, فيلمان عربيان انتاج فرنسي, شاركا في العديد من مهرجانات السينما العربية والعالمية , وحصلا في بعضها علي ارفع الجوائز, فالاول حصد جائزة الفيلم الاوروبي المتميز في مهرجان " كان " 57 في العام الماضي, وجائزة أحسن فيلم في مسابقة مهرجان السينما العربية من تنظيم معهد العالم العربي, كما حصل الفيلم الثاني علي جائزة من مهرجان سينما الواقع في باريس, والجائزة الكبري لمهرجان الاسماعيلية للسينما التسجيلية في مصر, ونحن نرشحهما, حيث يعرضان حاليا في باريس, للمشاهدة عن جدارة. وللمقال بقية موقع "إيلاف" في 17 يناير 2005 |