شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

«فيريديانا» لبونويل:

فيلم العودة من المنفى

ابراهيم العريس

 

 

 

 

 

 

عاش لوي بونويل في المنفى الأميركي أكثر من عشرين سنة، لم يزر خلالها وطنه الأم اسبانيا، على الإطلاق... ولم يكن ذلك باختياره... إذ أنه هو الذي وقف الى جانب الجمهوريين والديموقراطيين. وكان - طبعاً - أقرب الى اليسار، خلال الحرب الأهلية، فآثر أن يسلك درب المنفى منذ العام 1938، بعيداً من اسبانياً فرانكو الفاشية. ونعرف انه لم يكن الاسباني الوحيد الذي عاش في المنفى خلال تلك الحقبة المظلمة من التاريخ الاسباني المعاصر. غير ان بونويل، كان من القلة التي لم تنتظر زوال فرانكو وعهده قبل الرجوع ولو بخطى خجولة. فهو عاد في العام 1961 الى اسبانيا، غير آبه باستتباب السلطة في يد اليمين الفاشي، ولا بالأخطار التي كان من شأنه أن يتعرض اليها. وهو لم يعد، عودة سرية كما حدث بالنسبة الى كثر من رفاق دربه المنفيين سابقاً، بل عاد في شكل علني وقد عزم على أن يحقق - أخيراً - في اسبانيا، أفلاماً جديدة.

منذ ترك الوطن عشية الحرب العالمية الثانية، كان بونويل قد قصد أولاً - بعد عبور فرنسا - الولايات المتحدة الأميركية، حيث توجه الى هوليوود آملاً في أن تتاح له، هناك، فرصة استئناف عمله السينمائي الكبير الذي كان قد لقي رواجاً ثقافياً أوروبياً كبيراً، منذ «كلب أندلسي» و«العصر الذهب». لكن هوليوود التي لم تكن تأبه بمثل هذا النوع من المخرجين المفكرين لم تعطه فرصة جدية لإخراج فيلم كبير - أو حتى صغير أيضاً - بل اكتفت بأن اسندت اليه أعمالاً صغيرة ثانوية الأهمية. وهذا دفعه الى الترحال مجدداً، فتوجه الى المكسيك حيث عاش سنوات طويلة. كانت المكسيك أكثر رأفة به، بكثير، إذ انه حقق فيها عدداً كبيراً من أفلامه. منها ما هو رومانطيقي، ومنها ما هو اجتماعي («مرتفعات وذرنغ» و«المنسيون» بين أعمال أخرى). بل أتيح له أيضاً أن يحقق أفلاماً يستعيد فيها آفاقه السوريالية القديمة (مثل «إيل» و«ناثارين»). نجحت أفلامه المكسيكية نجاحاً كبيراً... ووصل معظمها الى ساحات السينما العالمية.

من هنا، حين وصل بونويل الى اسبانيا ليستأنف فيها نشاطه الاخراجي، كان قد أضحى نجماً كبيراً في السينما العالمية. لذا لم يجد صعوبة في العثور على منتجين، بل شرع من فوره يحقق ذلك الفيلم الذي سيعتبر واحداً من أبرز أعماله وهو «فيريديانا» الذي كتب له السيناريو بنفسه. بيد ان بونويل إذا كان قد بدا، بعد عودته، أكثر رسوخاً وعالمية وتمكناً من فنه، فإنه - في المقابل - لم يبد أكثر عقلانية أو أقل تمرداً على ما هو سائد. ومن هنا عاد «فيريديانا» ليسبب له المشكلات، ليس مع السلطات السياسية والرقابة الاجتماعية وحدهما، بل مع السلطات الكنسية أيضاً. ذلك ان بونويل بدا واضحاً أنه من خلال هذا الفيلم انما يريد «أن يصفي حسابه مع الكنيسة التي كانت وقفت ضده منذ ظهوره الأول على الساحة السينمائية حين كان لا يزال في مقتبل الشباب» بحسب ما يقول الناقد الفرنسي الراحل كلود بيلي.

وقبل أن نتحدث عن هذا نتوقف عند حكاية الفيلم، فهي تدور من حول الصبية الحسناء فيريديانا، التي كانت قد قررت الانخراط في سلك الرهبنة. وإذ أعطيت موعداً للبدء بذلك الانخراط، تتوجه لتعيش بعض الوقت في دارة قريب لها هو الدوق خاييم. بيد ان السيد المذكور يعيش حالة من الاستلاب الجنسي منذ وفاة عروسه ليلة زفافهما... وإذ لا يتمكن من اقامة أي علاقة بديلة تنسيه زوجته واحباطاته، يبدأ مراودة الصبية فيريديانا عن نفسها، لكنها تتمكن من الهرب منه، فلا يكون من شأنه إلا أن يشعر بحزن واستياء شديدين يدفعانه الى الانتحار. والذي يحدث هنا هو ان فيريديانا بصفتها قريبته الأقرب، ترث أملاكه وأراضيه. ولأنها في الأصل فتاة طيبة آلت على نفسها، حقاً، أن تصبح راهبة زاهدة في الحياة الدنيا، تقرر توزيع الأملاك على البائسين، بل تؤوي في الدارة نفسها اعداداً كبيرة من المحتاجين الفقراء.

وهكذا تتحول الدارة الى مأوى لشتى أطياف الناس، أما فيريديانا نفسها، فإنها تعامل مذذاك وصاعداً كالقديسة. ولكن هنا مرة أخرى تجري محاولة لاغتصابها من أحد الأشخاص، لكن ابن عم لها يدعى خورخي، يسارع الى نجدتها وينقذها... ولكن ليس مجاناً لوجه الله، بل مقابل صفقة ومساومة بينه وبينها. وترضى هي بذلك أول الأمر. ولكن، لاحقاً، إذ تفكر ملياً في كل ما حدث وتدرك كم أن هؤلاء الناس انما جابهوا نياتها ومشاعرها الطيبة بأسوأ ما يكون، تقف أمام ذاتها لحظات طويلة وتفكر... وتفكر... حتى تتوصل أخيراً الى قرار تبدأ تنفيذه: لقد قررت أن تمسك أخيراً قواعد اللعبة بين يديها، وأن تضع كل شخص وكل طرف عند حدوده. فالطيبة لا تنفع مع هذا العالم الشرير، الذي تحكمه قوانين لا أخلاقية كانت فيريديانا تعتقدها انها غير موجودة. وهكذا تتبدل فيريديانا كلياً، ويتخذ الفيلم مساراً مدهشاً.

وهذا المسار هو الذي أثار، في وجه بونويل، غضباً كبيراً: غضباً اجتماعياً وكنسياً... من جانب كل أولئك الذين ما كانوا يرون مبرراً، لأن تتحول فيريديانا، ومهما قسى عليها المجتمع من رمز للطهارة ورمز للأخلاق الطيبة والقداسة، الى فتاة شريرة، بدت هنا أشبه بـ«الملاك الفتاك» (وهو عنوان فيلم تالٍ للوي بونويل، سيحققه أيضاً خلال تلك الحقبة)، ولكن بعد أن عاد الى المكسيك ولديه شيء من الاحباط، ليس ازاء تجربته الاسبانية تلك بل ازاء ما جوبه به من ردود فعل عليها. والحال ان بونويل، وحتى حين كان لا يزال في اسبانيا يتابع عرض «فيريديانا» وردود الفعل عليه، وقف يسخر من كل الذين هاجموه... وكان شعاره: ... وهل ثمة ما هو أجمل وأقوى من امرأة من هذا النوع تنقلب لتنتقم من الذين يسيئون اليها، بدلاً من الاستسلام والاذعان لشرّهم!

حقق «فيريديانا» نجاحاً كبيراً حيثما عرض. وكان فاتحة عصر جديد من عصور سينما بونويل. كما كان بداية لتجوال سينمائي جديد، إذ ان مخرجه الذي كان بدأ عقده السبعيني في ذلك الحين، سيحقق بعده فيلمه المكسيكي التالي الذي أشرنا اليه، ثم سيتوجه الى فرنسا حيث حقق «حسناء النهار» و«تريستانا» من بطولة كاترين دونوف... ثم سيتابع في فرنسا نشاطه السينمائي حتى سنواته الأخيرة ورحيله في العام 1983، عن ثلاثة وثمانين عاماً. وسيكون من بين آخر أفلامه «شبح الحرية» و«غرض الرغبة الغامض» و«سحر البورجوازية الخفي» وكلها أفلام كانت من أبرز ما حققته السينما الأوروبية طوال عقد السبعين من القرن الفائت، ووضعت بونويل في مقدمة سينما العالم كأستاذ كبير من أساتذتها، هو الذي كان بدأ نشاطه السينمائي - بعد ممارسات في الرسم والكتابة - منذ سنوات الثلاثين، وبدأ سوريالياً رفيقاً لسلفادور دالي الذي حقق معه «العصر الذهب»، ثم صديقاً لغارسيا لوركا، الذي سيتهم بونويل بأنه انما قصده هو بعنوان فيلمه «كلب أندلسي».

الحياة اللبنانية في 17 يناير 2005