بسبب التمويل الأجنبي وشروطه مخرجون عرب يشوهون صورة العربي وحضارته عدنان مدانات |
|
ثمة سؤال إشكالي في عالم صناعة السينما يتعلق بطريقة تحديد هوية الفيلم، أو بمعنى أدق، لمن يجب أن ينسب، فهل ينسب إلى الدولة التي تم فيها إنتاج الفيلم، أم ينسب الفيلم إلى المنتج الذي صرف عليه الأموال، أم تجب نسبة هوية الفيلم إلى المخرج، إن كان المخرج من دولة ثانية؟ وهناك سؤال إضافي لا يقل أهمية أو إشكالية، وهو ما العلاقة بين مضمون الفيلم ورسالته وبين الجهة أو العنصر المسؤول عنه، أو بالأحرى، من الذي يحدد مضمون الفيلم ورسالته بغض النظر عن الموضوع الذي يتناوله، أهو صاحب المال أم المخرج؟ يكتسب هذا السؤال أهميته وراهنيته بشكل خاص من العلاقة مع حاضر ومستقبل السينما العربية حيث تتنامى باطراد ظاهرة التمويل الأجنبي للأفلام العربية التي تتخذ في معظم الأحيان صيغة الإنتاج المشترك بين شركات الإنتاج السينمائي العربية الخاصة الصغيرة المحدودة الإمكانات التمويلية أو حتى السينمائيين الأفراد وبين المؤسسات المنتجة في دول أوروبا، وذلك في ظل التقليص المتزايد للدعم المحلي للسينمائيين العرب سواء من قبل مؤسسات القطاع العام أو مؤسسات القطاع الخاص. تعرضت ظاهرة الإنتاج السينمائي المشترك منذ خطواتها الأولى قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن للكثير من الاتهامات التي يمكن حصرها إجمالا في اتجاهين، الأول منهما ذو طبيعة ثقافية يدور في اتجاه اعتبار أن الإنتاج المشترك مع أوروبا يؤدي إلى أن تطرح السينما العربية المواضيع التي تهم الغرب وتعكس السينما العربية القضايا العربية من منظور الجهات الأوروبية الممولة وإلى أن يتحول السينمائيون العرب إلى مستشرقين، والثاني منهما ذو طبيعة سياسية إلى حد ما ترتبط بقضية الصراع العربي “الإسرائيلي” الصهيوني ولو بشكل غير مباشر، حيث لوحظ أن العديد من الأفلام العربية التي قامت على قاعدة الإنتاج المشترك أقحمت ضمن بنيتها شخصيات يهودية وقدمتها من منظور إيجابي مقابل الكثير من النقد السلبي الموجه للشخصيات الرئيسية العربية. يخلق هذا الوضع، في بعض الأحيان، نوعا من التشابه أو التقارب في المنظور إلى القضايا العربية بين السينمائيين العرب سواء منهم المقيمون في الدول العربية أو المهاجرون ممن يحملون جنسيات أوروبية أو أمريكية حتى، وبين السينمائيين الغربيين الذين يتطرقون في أفلامهم إلى واقع وحضارة العالم العربي ويقدمون فيها نماذج من شخصيات عربية معاصرة. ومثلما يدافع السينمائيون العرب عن أنفسهم وينفون الاتهامات التي توجه لهم ويؤكدون أن أفلامهم تعكس وجهات نظرهم الخاصة، تدافع الجهات الأجنبية الممولة أو الداعمة عن براءة نيتها وتؤكد موضوعيتها في التعامل مع مشاريع الأفلام التي تقترح عليها من قبل السينمائيين العرب وتؤكد باستمرار أن المعايير التي تعتمدها في الحكم على المشاريع ذات طبيعة فنية محض وأنها لا تفرض على السينمائيين أية شروط تؤثر في اختيارات المواضيع أو مضامين الأفلام. الممول الفرنسي غير أن هذه الدفاعات المطروحة من الجانبين لا تنفي حقيقة أن الاتهامات لا تخلو، في معظم الأحيان، من أساس، فكما يقال : لا دخان بلا نار. وقد التقيت أثناء مهرجان الأيام السينمائية في قرطاج بناقد فرنسي كان عضوا في إحدى اللجان التي تناقش المشاريع التي تبحث عن التمويل، تربطني به معرفة سابقة عندما قام قبل بضع سنوات بجولة في بعض دول المشرق العربي بهدف الترويج للإنتاج المشترك والتعريف بطبيعة الجهات الفرنسية الداعمة والممولة لأفلام سينمائيي العالم الثالث. وقد أبلغني أنه تحول إلى منتج للأفلام وأن آخر فيلم قام بإنتاجه هو لمخرج تونسي شاب مقيم في فرنسا. وعندما قلت له مازحا إنني آمل أن ينتج فيلما أردنيا، رد بجدية قائلا إنه سيفعل ذلك بسرور بشرط أن نقدم له “مشروعا جيدا”. وعندما عقبت على كلامه بالقول “وبعض النقود أيضا”، رد قائلا إن النقود ضرورية، غير أن الأهم منها هو “المشروع الجيد”. جرى هذا الحديث في الصباح. أما في المساء فقد اتجهت إلى صالة السينما لمشاهدة الفيلم “التونسي” الروائي الطويل الذي قام المنتج الفرنسي بإنتاجه ونصحني بمشاهدته. والفيلم هو “باب العرش” وهو العمل الأول للمخرج التونسي مختار العجيمي. بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم خرجت غاضبا أبحث عن زميلي الفرنسي الذي أنتج الفيلم وفي ذهني سؤال واحد أود أن أطرحه عليه وهو: ما الجيد الذي وجدته في مشروع هذا الفيلم وجعلك تتحمس لإنتاجه؟ غير أنني لم أعثر عليه، وهكذا لم احصل على إجابة منه. وفي الحقيقة فالجواب متضمن في الأفلام ذاتها، ذلك أن واحدة من صفات التمويل الأجنبي للأفلام السينمائية العربية هي أن أهدافه لا يمكن تغطيتها فهي تكشف نفسها بنفسها من خلال مضامينها ومواضيعها الخاصة. لم يعجبني فيلم “باب العرش” الذي بدا لي ضعيفا في بنيته وغير مقنع، كما لم يعجب من سألتهم عن رأيهم من الزملاء النقاد الذين عبروا عن موقفهم منه في الصحف، بل أكثر من ذلك فهو أثار استياء العديد من المشاهدين التونسيين الذين اعتبروا أنه مسيء. وقد كان من بين الأمور السلبية الكثيرة التي أخذوها على الفيلم أنه يركز بشكل مفتعل على حكاية كاتب صحافي شاب يعاني من أزمة نفسية لأنه لا يسمح له بالكتابة بالحرية التي يريد (الحديث هنا عن غياب حرية التعبير في العالم العربي، علما بأن الموضوع الذي يريد بطل الفيلم الخوض فيه بحرية سطحي بحيث لا يمكن أن يعترض عليه أي رقيب)، وحين يجبره أهله على الزواج من قريبته التي لا يحب (نقد التقاليد الاجتماعية المتخلفة)، يزداد تأزمه النفسي مما يجعله عاجزا عن أداء واجبه الزوجي ليلة الدخلة فيهرب من البيت. وهذه الحكاية تمثل الوجه الآخر من الحكايات النمطية الرائجة التي تنتقد ظاهرة إجبار الفتيات العربيات على الزواج ممن لا يرغبن بهم. ولا يتوقف الفيلم عند هذا الحد إذ يصور الفيلم مشهدا طويلا منفرا إلى درجة كبيرة يصور بتفصيل شديد العروس المهجورة وهي تقوم بفض بكارتها بنفسها، بعد أن تخلى العريس عنها وتسلل هاربا من المنزل، كي تعرض دمها على المنتظرين في الخارج وتبرىء نفسها من التهم (وهذا الفعل المتعلق بالفض الذاتي للبكارة بسبب عجز الزوج وخوفا من التهمة، سبق وإن استخدمه قبل نحو عقدين من الزمن المخرج الفلسطيني المقيم في بلجيكا ميشيل خليفي في فيلمه المعنون “عرس الجليل” ولكن بقدر أقل من التفاصيل وأخف أذى على مشاعر المشاهدين. العلاقة الملتبسة يتشابه فيلم “طيارة من ورق” للمخرجة اللبنانية رندة الشهال صباغ والممول فرنسياً، مع الفيلم التونسي “باب العرش” من حيث طرح الموضوع التقليدي الذي يدور حول إجبار الفتاة أو الشاب (أو الاثنين معا) على الزواج من شريك لا يرغب فيه اتباعا لتقاليد اجتماعية بالية، ولكن فيلم “طيارة من ورق” يزيد على فيلم “باب العرش” بمقاربته لموضوعه من ناحية السياسة. فبطلة الفيلم الصبية التي تنتمي إلى قرية عربية سكانها من طائفة واحدة غير أنهم متفرقون، لأن نصف القرية محتل يقع في الجانب “الإسرائيلي”، تزف من دون إرادتها إلى ابن عمها الذي لا تعرفه لأنه يعيش في الجانب المحتل، وتعبر الحدود وحيدة سيرا على الأقدام لتلحق بعريسها. وحين تصبح في حضرته يقول لها إنه مثلها لم يرغب في الزواج، فيتفق الاثنان على جعل الزواج شكليا وليس حقيقيا. بالمقابل ترتبط العروس بمشاعر حب غير معلنة تجاه جندي “إسرائيلي” من حرس الحدود، كلما عبرت الحدود جيئة أو ذهابا تبادلا النظرات التي تشي بخفقان القلب، يقدمه الفيلم للمشاهدين بصورة إيجابية منذ بداية الفيلم عن طريق تصويره وهو يقوم، من خلال موقعه فوق برج المراقبة على الحدود، بتحذير الصبية التي سقطت طائرتها الورقية في الجانب الآخر من الحدود فاخترقت الأسلاك الشائكة لاستعادتها خوفا عليها من الدوس فوق أحد الألغام المزروعة في المنطقة. ولا يصل الفيلم في نهاية المطاف بهذه المشاعر إلى مرحلة التحقق من خلال علاقة حب فعلية، بل إنه يجعل هذه العلاقة مشروعا محتملا ولكنه مستحيل بسبب واقع الاحتلال. في مواجهة الانتقادات التي وجهت لفيلم “طيارة من ورق” من قبل نقاد عرب بررت المخرجة مشاعر الحب الملتبسة بين الفتاة العربية الدرزية وبين الجندي “الإسرائيلي” بكون الأخير ليس “يهودياً” بل هو درزي مثلها، غير أن هذا التبرير يفتقر إلى المنطق، حيث أن هذه المعلومة لا تتوفر في سياق الفيلم للشابة العاشقة فهي لا تعرف أنه درزي، وهذه المعلومة تتوفر فقط للمتفرجين من خلال مشهد لا علاقة له بالفتاة مباشرة. حاز فيلم “طيارة من ورق” على جائزة مهرجان البندقية الكبرى. وقد ألقت المخرجة أثناء تسلمها للجائزة خطبة ذات موقف سياسي وطني واضح وصريح. وكانت أعلنت موقفا لا يقل وطنية وصراحة قبل ذلك بعامين عندما رفضت علانية تسلم جائزة منحت لفيلمها الأسبق “المتحضرات” من مهرجان كان مناصفة مع فيلم لمخرج “إسرائيلي” معارض. وبالنظر لهذين الموقفين المعلنين من منبرين دوليين شهيرين، فإنه من غير العدل التشكيك بالنوايا الوطنية لمخرجة الفيلم، إنما نحن هنا معنيون بقراءة الفيلم من خلال بنيته الملتبسة ومن خلال موقف الجانب الممول الذي يرحب بأي طرح في السينما العربية يقارب مباشرة أو بصورة غير مباشرة مسائل التطبيع أو الحوار بين العرب و”الإسرائيليين” أو مجرد اليهود. الرؤية الاستشراقية السكونية تتكرر في فيلم “باب الشمس” للمخرج المصري يسري نصرالله، والممول فرنسياً الإشكالية ذاتها، فعلى الرغم من المواقف الوطنية المعروفة والنوايا الطيبة لمخرج الفيلم ولشريكه في كتابة السيناريو إلياس خوري، وهو في الوقت نفسه مؤلف الرواية التي اقتبس عنها الفيلم، إلا أنه يصعب عدم ملاحظة نوع من التقارب بين بعض ما ورد في الفيلم من مضامين ومواضيع فرعية، وتحديدا في الجزء الثاني منه، وبين بعض ما يتحمس له التمويل الأجنبي من مواضيع ومضامين. ففي حين أن الجزء الأول من الفيلم يسرد بموضوعية المأساة الفلسطينية في فترة الأربعينات وحتى النكبة وتأسيس دولة “إسرائيل”، فإن الجزء الثاني منه يتجاوز مراحل التاريخ لينتقل فورا إلى فترة الثمانينات ليقدم صورة عن أوضاع المقاومة الفلسطينية في لبنان. ويتضمن الفيلم شخصية امرأة فلسطينية ستصبح شخصية رئيسية في الجزء الثاني منه، تم تزويجها إلى رجل خشن الطباع ينتمي إلى المقاومة الفلسطينية وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وهي ستنفصل عنه بسبب العنف الجسدي والنفسي الذي كان يمارسه عليها. ويرتبط بقصة هذه المرأة جانب آخر، فهي بعد ليلة حب مع عشيق جديد ستقوم باغتيال رجل في المخيم كانت عشيقته ورفض الزواج منها. وفي المشاهد الأخيرة من الفيلم ستنحو هذه الحادثة منحى آخر. فقد اتفق رجال من المقاومة المسلحة ينتمون إلى مختلف العشائر الفلسطينية على أن يشكلوا فريقا واحدا من أحد عشر رجلا، يكمنون لها في الطريق ويطلقون عليها النار في الوقت نفسه انتقاما لصديقهم الذي اغتالته، وذلك كي يتفرق دمها بين العشائر، فلا ينتقم لها أحد. وهذه الحكاية المرتبطة بالعادات العشائرية ومنها الأخذ بالثأر والبعيدة كل البعد عن واقع المقاومة الفلسطينية زمن أحداث الفيلم تنسجم مع الرؤية الغربية الاستشراقية السكونية للواقع العربي. ومن ناحية ثانية فإن الصورة التي يقدمها الجزء الثاني من الفيلم للفلسطينيين سلبية جدا ليس فيها أي جانب إيجابي. الإرهاب.. عربي إسلامي وفي العام 2002 يجيء من أمريكا فيلم لمخرج شاب فلسطيني أردني الولادة أمريكي الجنسية هو المخرج غازي البوليوي الذي يقدم فيلمه الطويل الروائي الأول بصفته مخرجا وأحد المنتجين وممثلا في الفيلم الذي حمل عنوان “الضفة الغربية.. بروكلين”. والفيلم، كما يمكن أن يفهم من عنوانه، يتطرق إلى الموضوع الفلسطيني من خلال عائلة فلسطينية مغتربة تعيش في بروكلين. ومن مصادفات الدهر أن يعقب إنتاج هذا الفيلم الأمريكي عن قضايا تهم العرب، والذي يحمل توقيع مخرج عربي الأصل، إعلان من مؤسسة أمريكية نشر في بعض الصحف العربية يشير إلى أنها قامت بدعم إنتاج أفلام روائية طويلة لمخرجين من العالم العربي وأنها على استعداد لدعم مشاريع أفلام أخرى. والمؤسسة تحمل اسم “بيت الحرية” (فريدوم هاوس). وتشير المعلومات التي نشرت على شبكة الانترنت إلى أن من بين أعضاء مجلس إدارة هذه المؤسسة الأساسيين الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جيمس وولسي، والسفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة جين كيرباتريك والتي سبق لها وأن صرحت بأن إقامة دولة فلسطينية ستكون كارثة وبأنها ستكون خطراً على “إسرائيل”، هذا إضافة إلى صاموئيل هنتنجتون صاحب الكتاب السيىء الصيت “صراع الحضارات” وهو الذي يعتبر بمثابة الأب الروحي للجناح المعادي للإسلام في حركة المحافظين الجدد. الخليج الإماراتية في 17 يناير 2005 |