من الذاكرة المعطوبة الى لورانس على الطريقة الفرنسية عمان - رسمي أبو علي |
ضمن احتفالية الأفلام الفرنسية الكلاسيكية التي تقيمها اللجنة السمعية البصرية في السفارة الفرنسية في عمان شاهدنا أول أفلام هذه الاحتفالية وهو فيلم «تذكر الأشياء الجميلة» للمخرجة زابو براتيمان. هذا الفيلم ينتسب إلى ما يمكن تسميته بالأفلام السوسيولوجية التي تعنى خصوصاً بمشكلات المرض وانعكاساتها على المصاب والمحيطين به وهي أفلام شاهدنا الكثير منها في السينما الأميركية، إذ شاهدنا مشكلات المدمنين أو المصابين بالإيدز أو السرطان... إلخ. «تذكر الأشياء الجميلة» يقع ضمن هذه الأفلام، لكنه، وإن حمل نفساً شبه تسجيلي، يظل فيلماً إبداعياً يعكس بعض الحالات الخاصة للمصابين في ذاكرتهم سواء كانت الإصابة طبيعية أم بالوراثة أم جاءت نتيجة حادث مؤلم. تدور معظم أحداث الفيلم في مصح مخصص لعلاج مرض ضعف الذاكرة لدى المسنين وغيرهم، ويشرف على المصح طبيب مقيم في المستشفى على علاقة غرامية بإحدى الممرضات - لكن هذه العلاقة لا تعني شيئاً أو لا تعكس نفسها على عمل الطبيب أو مجرى أحداث الفيلم - ولعل المخرجة أشارت إليها لتؤكد أن الطبيب مكتفٍ حتى من الناحية العاطفية والجنسية وأن عالمه الوحيد هو المصح الذي يشرف عليه. هناك رجال مسنون ونساء مسنات يعاني معظمهم من «الزهايمر» أو خرف الشيخوخة... لكن هناك أيضاً عدداً كبيراً من الشبان والشابات... من هؤلاء (بطلة) الفيلم الآنسة حسون وهي فتاة جميلة رقيقة، يبدو من اسمها أنها عربية ولكن هذه الحقيقة لا تعني أي شيء بالنسبة الى محيطين بها، إذ لا يترتب عليها أي رد فعل خاص الأمر الذي يشير إلى النظرة الإنسانية للمخرجة نفسها. ذاكرة معطوبة الآنسة حسون هذه تعاني مشكلات في الذاكرة، إذ أنها تصاب بنوبات نسيان متكررة تعزوها شقيقتها الكبرى التي تقيم معها، إلى أنها في أحد الأيام الممطرة وبينما كانت تتنزه في إحدى الغابات ضربتها عاصفة رعدية أثرت في ذاكرتها في ما بعد. لكن يتضح أن ذلك الحادث ليس السبب الحقيقي لمرضها، إذ أنها ورثت المرض عن والدتها التي ماتت بسبب هذا المرض، وهي، أي الفتاة تخشى أن تنتهي مثل والدتها. تأخذ الفتاة بالتردد على العيادة، ولكن بعد أن تتعرف الى شاب مصاب تقرر أن تبقى في العيادة مخالفة رأي شقيقتها التي لم تكن ترى سبباً لبقائها طيلة الوقت في العيادة. هذا الشاب، وليكن اسمه فرانسوا أو انطوان، يعاني آثار حادث سيارة مؤلم أدى إلى مقتل زوجته وطفله عندما كان الشاب يسوق السيارة، ولهذا فهو يعتبر نفسه مسؤولاً عما حدث. وهو ينفجر غاضباً في أحدى المرات عندما يقول إن ما يضاعف من ألمه أن الطبيب ومعاونيه لا يلحظون عليه أي أثر للندم... على حين أنه يعاني من حصر عاطفي بسبب أثر الحادث وليس بسبب البلادة أو انعدام الشعور. وهو يعاني أيضاً من الكوابيس اذ يستيقظ ليلاً وهو يصرخ بعد أن يداهمه كابوس حادث السيارة. تقترب منه فتاتنا وتبدأ بالإصغاء إليه، وبأسلوبه غير المترابط في الحديث يحشر جملة تأتي في غير السياق مطلقاً «لدي رغبة في تقبيلك» ثم يكمل حديثه معدداً أسماء بعض الأشياء. تستوقفه الفتاة وتسأله عما قاله باهتمام، مشيرة بالطبع إلى رغبته في تقبيلها فيكرر طلبه في السياق نفسه غير المترابط. وهنا يغيبان في قبلة عميقة تقود إلى ارتباط كامل يتطور بتشجيع الطبيب ومساعديه فيقدم لهما شقته الخاصة بعيداً من المصح ليقيما فيها الأمر الذي يحمل مجازفة إذ أن كلاً منهما غير طبيعي. وعندما يبدءان حياتهما الجديدة فإن الطبيب يزود الفتاة جهاز تسجيل صغيراً يرشدها بالتفصيل إلى الطريق إلى البيت أو لشراء بعض الحاجات. ولكن الأمر لا ينجح إذ تدهمها نوبة النسيان في إحدى جولاتها حيث ينتهي بها السير غريزياً إلى إحدى الغابات القريبة فتصل في حال يرثى لها بسبب المطر، ولكن حبيبها الشاب وبغريزة الحب أيضاً يستطيع إيجادها وهي تجلس مذهولة منتشية وكأنها في حال وجدانية متحدة بالطبيعة والأشجار والشمس التي عادت إلى الشروق. فكأن المخرجة أرادت بهذه النهاية أن تقول إن الذاكرة الصحيحة قد تكون عقبة في طريق الإحساس العميق بالطبيعة والحياة... وكأنها أرادت أن تقول أيضاً إن الحب يمكن أن يعوض من كان معطوباً حتى في ذاكرته والتي هي أهم مرجعيات الإنسان في الحياة. لورانس بطبعة فرنسية الذين شاهدوا فيلم «لورانس العرب» لدايفيد لين قبل أربعة عقود، لاحظوا دون عناء أن فيلم «قلعة ساغ وهو الفيلم الفرنسي الثاني الذي عرض في الاحتفالية، يعتبر إلى حد كبير مقاربة ملحوظة للفيلم الإنكليزي من دون أن يقصد المؤلف أو المخرج ذلك بطبيعة الحال. ولكن ربما كانت طبيعة المرحلة الكولونيالية في مطلع القرن الماضي هي التي أنتجت أبطالاً يجمعون بين قدرتهم المصممة التي لا تعرف حداً مقرونة بالشجاعة الخارقة لتحقيق طموحات بلدانهم الاستعمارية، وبين اللمسة الشخصية التي تظهر هؤلاء الأبطال إنسانيين محبين للقبائل البدوية التي حاربت وتحالفت معهم. فكما أن فيلم «لورانس العرب» مأخوذ من كتاب لورانس «أعمدة الحكمة السبعة»، فإن «قلعة ساغان» مأخوذ بدوره عن رواية تحمل الاسم نفسه للمؤلف الفرنسي لوي فاريلو والكتاب هو السيرة الذاتية لوالد المؤلف الذي كان جندياً محترفاً في صفوف الجيش الفرنسي وبسط سيطرته على الصحراء الشاسعة جنوب المغرب والجزائر والتي تعادل مساحتها ستة أضعاف مساحة فرنسا. إذاً فالتماثل كبير في الفيلمين ما عدا أن القبائل البدوية المسلمة التي يتعاطى معها الكولونيل ساغان تبدو وكأنها لا طموحات سياسية لها في حين أن الملك فيصل وجماعته من محاربي القبائل العربية كانوا يسعون إلى الاستقلال وإنشاء مملكة عربية في المنطقة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. أما «قلعة ساغان» فهو فيلم تاريخي يسجل وقائع بسط فرنسا سيطرتها على الصحراء الكبرى حيث يلعب الملازم ساغان الدور الأساسي في بسط هذه السيطرة بفضل شجاعته ومواهبه الإنسانية في كسب محبة البدو العرب وثقتهم وإعجابهم. يذكرنا هذا الضابط أيضاً ومن بعيد بنابليون الذي جاء بدوره من أصول فلاحية بسيطة - مع فارق أن ساغان كان ينفذ أوامر الدولة ولم يكن له أي طموحات سياسية. إنها إذاً قصة صعود هذا الجندي الفلاح الشجاع والذي لا حدود لشجاعته وقدرته على التحمل والذي يتقدم الصفوف دائماً في جميع معاركه الأمر الذي يثير أقصى درجات الإعجاب والولاء من المحاربين البدو والذين يظهرهم المخرج كمحاربين نبلاء لا يترددون في أداء الصلاة حتى في أكثر الأوقات حرجاً. أما القبائل التي يتعاطى معها ساغان فتبدو متنافرة تتقاتل على النفوذ وتمارس عمليات الإغارة التي يلحقها النهب والقتل وسبي الأسرى من الأطفال والنساء أحياناً... وباستثناء قبيلة واحدة فإن القبائل وزعماءها يبدون متعاونين ومتحالفين مع ساغان لبسط نفوذه على تلك الصحراء الشاسعة. لقد رسم المخرج صورة حية للصحراء الكبرى بتنوع مناظرها وبهذا السكون العميق، إذ كما يقول ساغان «الصحراء تجعل منك أنت نفسك طوال الوقت». وربما بسبب هذا السكون المهيب للصحراء فإن المخرج آلان كورنو استوحى إيقاع فيلمه من هذا السكون ليأتي إيقاع الفيلم بطيئاً ومضاداً تماماً لما يسمى أفلام الأكشن... فيلم يجري بطيئاً وعلى مدى ثلاث ساعات كاملة. الحياة اللبنانية في 7 يناير 2005 |
السياسة وبؤس الواقع نجما الشاشة الصغيرة بيروت - فيكي حبيب مشهد اول: الأمواج تغمر المدن... والأرض تبتلع أولادها. مشهد ثان: أبو عمار يبتسم للكاميرات في رحلته الأخيرة... من دون كوفيته وزيّه الزيتي. مشهد ثالث: صدام حسين حاكم بلاد ما بين النهرين... يسحب من حفرة صغيرة. مشهد رابع: جثث مبعثرة وأطفال عراة يهرولون راكضين في مدرسة بيسلان. مشهد خامس: نيران مشتعلة في سيارة النائب اللبناني مروان حمادة. ... وتتواصل المشاهد من الطينة نفسها. وتتتابع الصور... عنف، قتل ودماء... تنبشها الذاكرة، فيختلط بعضها ويتشابك بعضها الآخر. ومع هذا، تبقى هذه المشاهد الابرز لا بل الوحيدة العالقة في رأسك حين تقرر ان تراجع المشهد الفضائي للعام 2004 . في تلك اللحظات تنسى «ستار اكاديمي» ويومياتها المسلية. تنسى الكليبات وصرعات بطلاتها. تنسى «طاش ما طاش» وبرامج الكوميديا (على قلتها) وتتذكر الدموع، دموع لن تنساها حتماً طالما وثّقتها الصورة واختزنتها الذاكرة. في تلك اللحظة بالذات تقتنع اكثر من أي وقت آخر بأن الأحداث السياسية والأمنية هي الحقيقة الوحيدة وكل ما تبقى هوامش. الحدث هو الاساس، لأن الحدث اضحى فيلماً تلفزيونياً على طريقة تلفزيون الواقع. والسياسة هي النجم لأن الأحداث فرضتها... من الانتخابات الاميركية والانتخابات اللبنانية، الى اعتقال صدام حسين وموت «الختيار» والاعدامات الجماعية، وصولاً اخيراً الى زلزال العصر والامواج التي أغرقت اليابسة واوقعت آلاف القتلى.. نجم السنة السياسة اذاً، هي نجم العام ، والسياسيون ومقدمو البرامج السياسية في الواجهة. ولا نغالي ابداً ان قلنا ان التلفزيون بات مسرح اللعبة. في لبنان مثلاً، لم ينتظر اصحاب الشاشات جلاء «المعركة» الانتخابية الرئاسية التي لم تحصل على أي حال... بل واكبوها من قبل الاعلان عنها حتى، كل على طريقته، بعد ان جندت محطات برامجها السياسية لتغطية الحدث، فيما استحدثت محطات اخرى برامج جديدة خدمة للغاية نفسها، أي اما الترويج للتمديد او معاداة الفكرة من اساسها. وفي هذه الاجواء برز اثنان من هذه البرامج، لم يكتف اصحابهما بمتابعة الاحداث فقط، بل يمكن القول انهما ساهما الى حدّ كبير في صنعها، كما يليق بالتلفزة ان تفعل. مارسيل غانم من خلال حلقات «كلام الناس»، وعلي حمادة الذي حقق لـ«المستقبل»، حلماً لم تتمكن في السابق من تحقيقه ابداً - اذا استثنينا فترة تواجد ماغي فرح في صفوفه - أي ان يكون للمحطة ندّ لمارسيل غانم تدخل عبره السياسة المحلية اللبنانية، من باب الموضوعية وليس من باب مصالح المحطة... تعرية معركة انتخابية اخرى جرت على التلفزة، عنينا طبعاً الانتخابات الاميركية. هنا ايضاً لعبت الصورة دوراً مهماً... من دون ان يكون الدور الذي يتوخاه اصحابها. لعبت لمصلحة بوش الذي بدا بالنسبة للأميركيين اكثر اثارة للطمأنينة (وفي هذا كل المفارقة)... صورة اخرى لعبت لمصلحة الرئيس الاميركي وعودته الى البيت الابيض: فيلم مايكل مور «فهرنهايت 9/11». قد يتعجب كثر من هذا ويظنون ان في الامر لغطاً ما، لكن الحقيقة ان فيلم مايكل مور وعلى رغم تحامله على بوش كما يبدو في الظاهر، بل بسبب تحامله عليه تحديداً، شكل مادة قوية للدعاية للرئيس الاميركي، من دون ان ننسى ما اثاره من رفض اميركي ابيض... عبرت عنه الشاشات التلفزيونية، وأفقد كيري كل حظوظه. وهنا مرة اخرى لعبت السياسة عبر الصورة المتلفزة وليس عبر البرامج الانتخابية. عرفات بدوره كان نجماً تلفزيونياً. بل لنقل كان نجماً لما يمكن ان نستعير له اسماً رائجاً اليوم: تلفزيون الواقع. هو المحاصر من الاسرائيليين، و الرائج الكلام عنه وعن مرضه تأكيداً وتكذيباً... «الختيار» صاحب الكاريزما الواضحة الذي سواء كنت معه او ضده لا يمكنك الا ان تقرّ بنجوميته التلفزيونية واتقانه لاصول اللعبة... في حضوره وفي غيابه، الى درجة ان وداعه الاخير لفلسطين كان عبر الشاشة: الشاشة التي رأته لمرة نادرة من دون اكسسواره، هذا الاكسسوار الذي كان يشكل دائماً جزءاً اساسياً من شخصيته: الكوفية الفلسطينية التي تزين رأسه واللباس النضالي الذي لا يخلعه... في تلك اللقطة شوهد عرفات «عارياً» لمرة نادرة، وفي يقيننا ان كثراً احبوه هكذا... تعاطفوا معه ورأوا فيه خارطة فلسطين الحقيقية. «عار» آخر وإن بلحية كثة كان صدام حسين... هذه المرة لم يحبه احد، لا انصاره ولا يتاماه المعتادون. اللحية عرّته بدلاً من ان تكسوه. بدا نقيضاً تماماً لعرفات... في تلك اللحظات زالت عنه الاسطورة... بدا شخصاً عادياً يرتجف، يجوع، يخاف... ربما يمكن ان نقول: بدا انساناً لمرة نادرة وربما اخيرة في حياته! وكذلك اتت مشاهد محاكمته المبتسرة. صورة الحرب العراقية لم تكن افضل حالاً من صورة قائدها المخلوع. صورة منتخبة على شاشات عربية اكتفت دائماً بتصوير الخراب والألفي «مقاوم» وتجاهلت ملايين العراقيين الآخرين... نسيت ان تقول لنا من هم؟ كيف يعيشون الآن؟ ماذا يريدون من الحياة؟... صورة مكرورة، صورة هي هي دائماً، تماماً كما كان حدث للحرب اللبنانية. أترانا نبالغ ان قلنا ان صورة الحرب العراقية برزت من خلال غيابها؟ مشهد أخير: في بيروت عائلة هادئة آمنة تشاهد التلفزيون... فجأة يقاطعها مقدم البرامج السياسية بنبأ زلزال المحيط الهندي. تعاطف واضح من اهل البيت مع المنكوبين. يتألمون لحال هؤلاء ثم بعد لحظات يتناسون كوارث الطبيعة. وحدها «نغارا» (خادمة المنزل السريلنكية) تشعر بالسوء. تضيء شمعة وتنتظر ان يرن الهاتف. السفير اللبنانية في 6 يناير 2005 |