شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

مفاهيم الفلم الفنية

بقلم : عدنان المبارك

 

 

 

 

 

كان أرنولد هاوزر قد أسمى القرن العشرين بقرن الفلم . كما إعتبره خير من يمثل الفن المعاصر بالرغم من إعترافه بأن الفلم لا يملك أعلى القيم بعد. وجاء حكم هاوزر هذا في كتابه المعروف ( سوسيولوجيا الفن والأدب ) من خمسينات القرن الأخير . وأكيد أن نصف القرن الفائت هو عصر بكامله للفلم . فمنذها سيطر على وعي المجتمعات نوع جديد من الإتصال والتأثير يتمثل بالتلفزيون. وبات الجميع يعتقد بأن هذا الإختراع الألكتروني الجديد قد طرد الفلم من موقعه كمنّظم للمخيلة الجماعية. وبدأ الكلام عن أزمة السينما والتي تمثلت بإنصراف الجمهور عنها مما يعني التشكيك بماقاله هاوزر عن ريادة الفلم لفن القرن. إنها قضية لاتخلو من التعقيد. فإذا كان معيار الريادة هو شيوع الفلم وتأثيره يكون هو قد خسر النزال مع التلفزيون الذي أخذ يشغل بوتيرة سريعة مكان الفلم منذ خمسينات القرن العشرين . الا أن إنصراف جزء كبير من الجمهورعن إرتياد دور السينما لا يعني إنصرافا عن الفلم الذي بات يحتل المكان الأكبر في البرنامج التلفزيوني . فكما تشير الإستقصاءات وفحوصات الرأي العام في كل مكان ، يكون الفلم المادة التلفزيونية الأكثر جذبا مما يعني أن الأزمة تخص دار السينما وليس الفلم .

أكيد أن الفلم كان ومازال يكسب أكبر المواقع بين هذا الجمهور وذاك حين يقدّم واقعا زائفا ونتاجا من ( مصنع الأحلام ) على حد تعبير إيليا أرنبورغ أو كما قال هاوزر كانت دور السينما وما زالت المكان الذي تتحقق فيه الرومانسية الإجتماعية التي تفشل في إختبار الحياة. وكانت أفلام هذا المصنع نسخا رديئة للأدب. وعامة كان الفلم ، رغم مكاسبه كفن للجموع ، ظاهرة لم تصبح أستيتيكية بعد. أن وضع الفلم كنتاج لمصنع الأحلام تعرض لتبدل جوهري بعد الحرب العالمية الثانمية بشكل خاص حين ظهرت الإتجاهات الجديدة في السينما . وكانت الميزة الأولى لفلم ما بعد الحرب هي إكتشافه .. للواقع. والأشارة الأولى جاءت بها الواقعية الجديدة الإيطالية التي إرتبط مضمونها الجديد بشكلها الجديد أيضا . وكان المضمون متجذرا بالحياة الإجتماعية. وصار بطل هذه الواقعية الإنسان العادي المحروم من الماكياج الهوليوودي. وكما قيل دخل الفلم معه الى الحياة مما أعطاه الحقيقية التي عمقتها وسائط تعبير سينمائية مقتصدة غير متفننة وخاضعة لمنطق السر(الحياتي). وصارت هذه الواقعية أهم حدث في تأريخ سينما ما بعد الحرب وإمتدت تأثيراتها الى أكثرية البلدان وخلقت إنعطافا كبيرا في السينما العالمية صوب الواقع وقضاياه الفعلية. وفي منتصف الخمسينات ظهرت قضايا الواقع ، من جديد ، في الفلمين الفرنسي والأنجليزي بأقوى صورة. عرفت حينها ( الموجة الجديدة ) و( السينما – الحقيقة cinema - verite ) الفرنسيتان و( السينما المستقلة Free Cinema ) الإنجليزية. ولم يكن المنطلق هنا جماليا فقط بل كان بالدرجة الرئيسية ذا طبيعة إجتماعية – سياسية . وقد تبدو هذه النزعات موسمية. الا أن تأثيراتها المضمونية والشكلية صارت أساسية. وكان التحول الأساسي إظهار الواقع بشتى هيئاته وتعقيداته. وعن حق أصبح الفلم مرآة العصر وشاهده وقاضيه في الوقت نفسه. وتجسد هذا بالصورة الأكثر بروزا لدى برغمان وكوروساوا وفيلليني وبريسون وغيرهم ممن قاد الفلم صوب واقع الأنسان والمجتمع.

وطبيعي أن الفلم الترفيهي ما زال يحتل المكان الأكبر. الا أنه صار المادة الرئيسية للتلفزيون. كما أنه تعرض للتطور التقني مستعيرا الكثير من أدوات وملامح الفلم الفني . مثلا تبدل الفلم الميلودرامي والكوميدي والبوليسي باللغة والمضمون : الأول صار يقدم أحوالا أكثر واقعية وحياتية للحب مستعينا بأدوات البسيكولوجيا ومغروزا في واقع إجتماعي ملموس . أما البوليسي فصار أداة تسجيل فنية للواقع السياسي في إيطاليا مثلا، وفي الكوميدي إمتزجت السخرية الإجتماعية ونقد الحضارة الحديثة بمادته وبنيته. وعامة جرى نوع من ( خلط الأوراق ) في الفلمين الترفيهي والفني. فالفلم الإجتماعي لا يعني اليوم أنه بعيد عن مفهوم الترفيه كذلك حين يصبح الفلم تسلية لا يعني تفاديه للمشاكل الإجتماعية. وهناك فريق من علماء الإجتماع يرى أن جمهور الشباب قد أسهم في حسم تطور السينما المعاصرة. فالفلم صار لدى هذا الجمهور ( مدرسة حياة ) وليس ( مصنع أحلام ).

أكيد أن ظاهرة الفلم ليست متجانسة. وفي هذا اللاتجانس تكمن المفارقة. ونلمس السبب في صعوبة العثور على تعريف شامل وصائب للفلم يختصر جميع إمكانياته. الا أننا نقدر ، عامة ، على تمييز ثلاث محاولات للتعامل مع الفلم كفن . وهي:

- الفن السينمائي كتظاهرة وتطوير لحقل تقليدي من حقول الفن .

- الفن السينمائي كفن مرّكب .

- الفن السينمائي كفن مستقل .

وجاءت المحاولة الأولى في زمن ولادة الفلم كفن. وبعد تجاهل كيانه الفني وإعتباره تسلية أسواق جاءت مقولة أنه تشكيل. وكان لها أنصار كثيرون في زمن الفلم الصامت الذي شبّهوه بغرافيك نفخت فيه الحياة. و طبيعي أن الفلم فن الصور المرئية لكن المتحركة. فالحركة تميّز بنيته التي تختلف بصورة أساسية عن بنية الصوة التشكيلية الثابتة. والحركة تعامل في الفلم تكملة طبيعية للصورة التشكيلية. وبذلك صارت الأخيرة تكشف عن إختلافات عن الصورة الفلمية هي أكثر من أحوال الشبه.

وحين أصبحت الحركة الميزة الأساسية لفن الفلم أخذوا يقارنوه بالموسيقى ، وفي حالة واحدة فقط وهي إذا لم يتم تجاهل عنصر الصوت . ف(موسيقية ) الفلم تعامل كنتيجة لنشوء أنظمة وإيقاعات معينة للصور الفلمية الا أنها بالأساس نوع من ( موسيقى الصور) أو ( موسيقى الحركة الصامتة ) أو كما أسماها البعض ( موسيقى قائمة بواسطة العين ). وفي الأساس تنشأ المقارنات بين الفلم والموسيقى من منطلق مجازي وشاعري وليس تنظيري .

أما حقل الفن الذي يقارن ، غالبما ، بالفلم فهو الأدب. فمفهوم الفلم كفن من تحت مظلة الأدب يتحدد في أن السينما هي أدب مرئي ومسموع . وهذه مقولة يصعب تفنيدها أو تقبلها كاملة أيضا . فالفلم يستفيد من الأدب. والفلم الروائي ، شأن الرواية ، له بطله وحدثه وحتى أن الفلم حين أخذ على عاتقه مهمة الأدب صار رواية القرن العشرين أو التيار الثاني للأدب بحكم كلتي الوظيفتين : الثقافية والإجتماعية. ولكن من المشكوك فيه أن تدخل جميع وسائط التعبير الفلمية في إطار الأسلوب الأدبي. فالأدب هو فن الكلمة أما الفلم فهو فن الصورة المرئية والمتحركة. وهذا هو الإختلاف الرئيسي بين هيكلي الفنين.

والحا ل نفسها نلقاها عند المقارنة بين الفلم والمسرح : الأول هو فن الإمكانيات الزمكانية غير المحدودة على وجه التقريب. أما الثاني فهو فن الإمكانيات المحدودة إذا خص الأمر كيانه المعهود بالطبع.

أما المحاولة التالية التي تخص الفلم كفن مركب فهي بمثابة تأكيد على إمكانية واحدة من إمكانيات الفلم وليس على صفة أساسية فيه . فهناك أفلام روائية أو تسجيلية تخلو من عتاصر الأدب والمسرح أو الموسيقى الا أنها أعمال فنية من حقل الفلم . كذلك فعتاصر الفنون الأخرى تفقد خواصها حين تدخل الفلم . فما هو فلمي يكف عن أن يكون مسرحيا أو تشكيليا أو أدبيا . وهذا يدحض بالمحصلة البراهين على أن الفلم فن مركب. كذلك لا يساعد هذا الأمر على مسك خصائص فن الفلم .

ويكرس أنصار مفهوم الفلم كفن مستقل الإنتباه الى مسك هذه الخصائص عند النظر في العلاقة الأساسية بالنسبة لفن الفلم : الفلم والواقع . ففي إطار هذه العلاقة نكشف عن خصيصة الفلم الجمالية بل نعرف متى يصبح الفلم فنا .

وكان رودلف أرنهايم أول من طرح مفهوما متماسكا عن الفلم كفن ، مشيرا الى النطاق الواسع لوسائط التعبير الفلمية المتميزة التي وجدها ضرورية في عملية التحويل الجمالي للواقع. فالفلم هو فن إذا حقق هذا التحويل ويعود الأمر الى أن الطبيعة الخام تتحول نتيجة لما أسماه أرنهايم ب( التقليص الجمالي ) المناسب ، الى عمل من أعمال الفن الفلمي. وفي الواقع كانت هذه الفرضية الأساسية التي يصبح وفقها حقل معين فنا بعد طرح الواقع المحوّل جماليا ، تناسب الوعي الجمالي للفترة التي عاش فيها أرنهايم أول المنظّرين الذين بينوا أن الفلم يملك وسائطه التي تخدم عملية التحويل تلك . وبعبارة أخرى قد يغدو حدث الفلم والمأخوذ من العالم كخامة بدون تحويل، جميلا. غير أن مثل هذا الفلم لم يحقق بعد، هويته كفن مستقل .

وهذه الفرضية صارت قاعدة متينة لدى المنظر الهنغاري المعروف بيلا بالازش الذي يجد الفلم فنا يكشف عما أسماه بالمضمون البسيكولوجي للمعاناة أو التجرية. وهذا الكشف يتم بفضل قانون التشويه أو التحوير الأستيتيكي للصورة الفلمية . وبرأي بالازش لايعيد الفلم خلق الواقع بل هو يخلقه ، إذ أن وظيفته لاتتحدد بإعادة خلق الواقع بل تركيبه وليس الإعتمادالكبير أو البسيط عليه.

في عام 1945 صدرت دراسة للناقد الفرنسي الكبير أندريه بازان عارض فيها شتى مفاهيم الفلم كفن مستقل . فما كان يعتبر تقييدا للفلم وينبغي إزالته ، صار بنظر بازان طبيعة للفلم وقوته الرئيسية. وهذه الطبيعة هي فوتوغرافيته. فالفلم هو طفل الفوتوغرافيا . وبحكم كونه فوتوغرافيا متحركة عليه أن يكون أمينا بشكل مطلق للواقع. ومهمة الفلم هي الإدامة الأكبر أمانة لهذا الواقع ، وبدون إيهام وإضافات. فعدسة الكاميرا تظهر الواقع النقي غيرالمحوّر( بفتح الواو ) الذي يكشف بنفسه عن معناه وأهميته. أما العمليات الشكلية ، وخاصة الحيل المونتاجية ، فهي تشّوه الواقع وتزيّف المعنى المباشر للواقع . وهكذا يرى بازان أن الفلم يصبح فنا عندما يقّدم الواقع بصورة أمينة ويكشف الميزات الجمالية للواقع ذاته. كذلك نجد أن هذا الناقد وأتباعه يرون أن حقول الفن المسماة بالتقليدية مثل التشكيل والأدب لاتظهر الواقع بل تعامله كخامة تفيد في خلق العالم المستقل للفن والذي لايملك أي شيء مشترك مع ذلك الواقع .. فالواقع يختفي في مقاصد وتفسيرات الفنان. والفلم هو أول فن حقيقي يعرفه التأريخ ، ومن هنا تمايزه عن بقية حقول الفن الذي يمكن أن يحرر الواقع من المقاصد والتفسيرات التي ألحقت به بشكل مصطنع ، وأن يظهر الواقع الحقيقي غير المشوّه ويمسك بالتيار الفعلي للحياة . فبقية الفنون تتملق الى الواقع ، بشكل ما ، وهي تخونه في المحصلة . إنها ليست صورة الواقع بل صورة الصورة التي نشأت في ذهن المؤلف.

وفي الحقيقة ليس مفهوم بازان مجرد نظرة جديدة في إمكانيات الفن الفلمي ومهامه بل هو بمثابة تغيير أساسي لإتجاه البوصلة الدالة على الوعي الجمالي . فقد دحض بازان مقولة أن الفلم يقدم الواقع المشوه أستيتيكيا عندما إعتبر أن على هذا الفن أن يخدم ، بسبب طبيعته الفوتوغرافية ،إعادة خلق الواقع reproduction . وبعضهم يجد في هذا الموقع ثورية مفهوم بازان ، والآخر ضعفها. فنحن نحرم الإنسان من إمكانية التعبير والجهر عندما نطلب منه أن يقدم الواقع بأمانة وحرفية ،كذلك حين تكشف القيمة الجمالية بدون تدخل يحرم الإنسان من حق منح الواقع القيمة الإنسانية. وفي الأخير فهذا أمر غير ممكن من الناحية العملية. ففي الفلم وغيره من الفنون أيضا يقوم الإنسان بإختيارما حين يقدم الواقع. وعندما يقوم بالإختيار إنما يتخذ قراره المتضمن حكمه على الواقع. وهكذا فليس الواقع يكشف عن أهميته بل الإنسان من يقرر أهمية الواقع. كذلك فتقديم الواقع ( النقي ) أمرغيرممكن أي تقديمه ككل بدون إختيار وحتى إذا كان ممكنا فسيكون محروما من المعنى.

وبمعزل عن هذه الإعتراضات وغيرها فمفاهيم بازان أثرت كثيرا على الفكر السينمائي. فعندما إعترف بمبدأ ( الإيمان بالواقع ) لفت النظر الى أن فن الفلم ينبغي أن يعثر في الواقع ذاته على أساس متين له. الا أن الواقع ليس هو الخارجي فقط والذي حصر بازان فيه إمكانية الكشف الفلمي عن العالم. والأفلام التي تراقب الحياة بشتى هيئاتها الخارجية ضرورية وقيمّة الا أن هناك الأخرى التي تحاول سبر الداخل الإنساني ومسك عالم المخيلة أو الكشف عن ذلك العالم المعروف والمجهول – عالم الأحلام..

ومن ناحية يكون الفلم الفن الأكثر واقعية ، والأكثر بعدا عن الواقع الفعلي من ناحية أخرى. فالفلم يظهر ، مثلا ،إ لتماع قطرات العرق على وجه إنسان ثم يظهر وحشا عملاقا يلهو بتحطيم المباني .. وهكذا فإلتماع القطرات فلمي ولهو الوحش فلمي أيضا . وهذه الطبيعة المزدوجة ( الواقعية وخارج الواقعية ) هي الطبيعة الحقيقية للفلم . كذلك فحق البقاء يملكه كلا الفلمين : فلم الخلق وفلم إعادة الخلق، إذ أنهما يعكسان واقعا معينا ، والأمانة للواقع ، ومهما كان قدرها ، لا تخلو من صيغة معينة نابعة من الطبيعة البشرية. كذلك فالحقيقة نكتشفها حين تنظر الكاميرا السينمائية الى العالم بعين الإنسان وعندما ينظر الإنسان الى العالم بعدسة الكاميرا أيضا. وفي هذه الجدلية الخاصة بالفلم وفي تكرارها لرؤيتنا للعالم وفي نقضها لهذه الرؤية تكمن أكبر إمكانيات التعرف .

وعند القيام بمثل هذا الإستعراض السريع لمفاهيم الفلم الفنية تكون الحقيقة الأولى أن نظرية الفلم لم تدخل مرحلة التبلوربعد. فإذا كان الفلم مملكة الحركة فإن أرنهايم يجده فنا ذا نطاق خاص من وسائل التعبير يمكن من خلق صورة أستيتيكية للواقع. أما دجيكا فييرتوف المنظر والتسجيلي السوفيتي المعروف فيجد الفلم خالقا لرؤيا فعلية للعالم هي جديدة تماما وتختلف عن الواقع. ويرى سيرغي آيزنشتاين الفلم تركيبا حقيقيا لجميع الفنون، ولاشك أن نظرية أدبية الفلم أو تبعيته للأدب تجد برهانا لها أساسيا في التأكيد على الدور الإجتماعي للفلم في حياة الإنسان المعاصر في حين أن مفهوم الفلم كفن فوتوغرافي مهمته كشف وإكتشاف المظهر الموضوعي للواقع الفعلي قد تكرست له أعمال بازان وكراوزر. وصار ( إمتدادا ) معدّلا لها مفهوم أرفين بانوفسكي فيلسوف الفن ومؤرخه الكبير الذي كانت فكرته الرئيسية هي أن مهمة الفلم التقديم غير المحوّر للواقع والذي يكتسب بالنتيجة أسلوبا. أما أدغار مورين فيلفت النظر في كتابه الشهير ( السينما والمخيلة ) الى أن دورا كبيرا تلعبه عناصر المخيلة في خلق العالم الفلمي .

ويجد القائلون بمفهوم الفلم كمملكة للحركة أنه رصد مرئي لتعامل الإنسان مع المادة . وما يكونه المنظر الطبيعي بالنسبة لمفهوم المكان يكونه الفلم لمفهوم الزمان. ففي الفلم تتكشف فكرة الحركة الصرفة. كذلك ليس هناك فن لايحوي عناصرا من الفنون الأخرى . وهؤلاء يجدون أن السينما تجاور ، من طرف ، الدراماتورغيا ، ومن طرف آخر التصوير. ومرة تهيمن عناصر الأولى وفي أخرى عناصر الثاني . الا أن الحال شبيهة بالأخرى في التصوير : ليس الحدث الجاري بالأمر الجوهري بل هو مجرد حجة لكشف أسرار الظل والضوء. كذلك ليس الحدث في السينما بالأمر الهام بل كشف أسرار الحركة من خلال نزع ( أقنعة ) الحدث. ومرة قارن هنري برغسون العقل ( وكان يكن له الإحتقار ! ) بالسينما ذاكرا أنه ليس بإمكان العقل أن يكشف لنا عملية النشوء بل هو يلصق آليا جزيئات الواقع المنتزعة من الكل. الا أن برغسون لم يكن منصفا حين تجاهل صفة مشتركة بين الأثنين وهي أن العملية الفلمية سريعة وخاطفة مثل عملية التفكير ذاتها ..

ولدى أرنهايم يكون الفلم ، شأن التصوير والموسيقى والأدب والرقص ، وسيطة تعبير يمكنها وليس لزاما عليها ، أن تكون مستغلة لخلق التأثير الفني . ويقول إن الفلم ليس إعادة خلق آلية للواقع ولايمكن حرمانه من مكانه في معبد الفن ، والأكيد أن الفلم يصلج كأداة تقريرية تقوم بمسح العالم الخارجي موضوعيا الا أن هذه صفة من صفاته حسب. وهو هنا شبيه بالأصباغ التي تستخدم لأغراض عملية أو أخرى كتلوين لوحة فنية مثلا . كذلك فمنفذ الفلم لايقدم صورة موضوعية للعالم بل أخرى ذاتية أيضا. وفي مؤلفه ( أنا – السينما – العين ) يكتب فييرتوف أننا لا نحتج حين تزين السينما بالريش ، الأدب أو المسرح بل نؤيد تماما إستغلال الفلم في جميع حقول العلم ، ونحن نسميها وظائفا جانبية كتفرعات من الجذع الذي هو التحسس الفلمي بالعالم. ويرى فييرتوف أن الكاميرا أكثر كمالا من العين عند فحص فوضى الظواهر المرئية التي تملأ المكان . ف( السينما – العين ) تحيا وتتحرك في الزمكان ، تراقب وتثبت الإنطباعات بشكل مغاير لما تقوم به العين. ويذكر بأننا لانعرف كيف نحسّن عيوننا الا أن الكاميرا يمكن تحسينها الى ما لانهاية . كما أنه يدافع عن الكاميرا من خلال الهجوم على العين التي أرغمت الكاميرا على تقليد وظيفتها. بل نجده يدعو الى إخضاع العين لما أسماه بأرادة الكاميرا. ويقول : أنا أرغم المتفرج على أن يرى الظاهرة بالصورة التي قررت إختيارها , أي أن طريقي يمضي صوب خلق إدراك وتقبل جديدين للعالم ..

أما آيزنشتاين فيرى الفلم أعلى درجة تعبير لإمكانية كل فن من الفنون ومطامحه, بل يقول إن الفلم هو آخر وأصدق تركيب لجميع وسائل التعبير الفنية. و يذكر أن مثل هذا التركيب كان مطمح الكل .. فديديرو أراد أن يجده في الأوبرا وفاغنر في الدراما ، ويقول إن الفلم بالنسبة للنحت هو سلسلة من الأشكال البلاستيكية التي كفت في الاخير، وبعد قرون طويلة، عن أن تكون جامدة غير متحركة . وبالنسبة للتصوير ليس الفلم مجرد حل لمشكلة الحركة في الصورة بل وصول الى أشكال جديدة غير متوقعة لفن الرسم الذي هو شبيه بمجرى طليق يغير الأشكال والتكوينات والصور ويمزجها مما كان لغايتها وقفا على التصوير. وبالنسبة للأدب يعني الفلم توسيع حدود الكلمة والتي وصلها الشعر والنثر كما يعني فتح هذه الحدود أمام مملكة جديدة تصبح فيها الصورة المنشودة مجسّدة بشكل مباشر في الإستقبال البصري – السمعي. وهكذا فإلفلم قادر، لوحده ، على أن يجمع في وحدة حقيقية هذه العناصر المستقلة للتقديم المرئي . ومثل هذا التقديم أراد المسرح منذ قرون إعادة خلقه. الا أن الحظ لم يحالفه بل حالف الفلم الذي وجد آيزنشتاين فيه وحدة فعلية عضوية لاتقوم على الدمج والخلط. وتكون ميزات الفلم لدى هذا الفنان في أنه ( سيمفونيا الألوان التي تكملها سيمفونيا الأصوات ).. كذلك وجد الفلم ( تحريرا حقيقيا وكاملا للغنائية المسجونة في الأشعار ). بل يمضي أبعد عند القول : ( إن طريقة الفلم المدركة كما ينبغي وكاملة تعيننا في خلق مفهوم خاص بطريقة الفن عامة ).

يرى بازان أن تركيبية آيزنشتاين لا تخص جوهر الفلم الذي هو مسجّل موضوعي للواقع بفضل ميزته الفوتوغرافية حيث تعتمد أصالة الفوتوغرافيا بالمقارنة مع التصوير الفني ،على عنصر الموضوعية . فالعدسة حلت محل عين الإنسان. وللمرة الاولى تظهر بين المادة وتقديمها مادة أخرى حيث تتشكل صورة العالم بصورة أوتوماتيكية وبدون توفر نية الخلق. ووفق قانون السببية تكون مهمة حامل الكاميرا الوحيدة هي القيام بعملية الإختيار ورسم الإتجاه أو تحديد المغزى ( التربوي أو غيره ) للظاهرة موضع الوصف. ويقول بازان أن جميع أصناف الفن تعتمد على إسهام الإنسان عدا الفوتوغرافيا التي تستغل غيابه فيها. فهي تؤثر فينا كظاهرة ( طبيعية ) شأن الزهرة وذرة الثلج التي يرتبط جمالها بشكل لافكاك منه بانحدارها المعدني. وهذا الطابع الأوتوماتيكي للفوتوغرافيا قد نسف جذريا بسيكولوجيا الصورة. فموضوعية الفوتوغرافيا تمنح الصورة قوة المصداقية والتي لا تتوفر في الأعمال البلاستيكية الاخرى. ومهما كانت شكوكنا ، يقول بازان ، ماعلينا الا الإيمان بوجود الشيء القائم بين الواقع وصورته التي تقدمها العدسة. الا أن بازان يصيغ في الواقع المقولة بشكل آخر : تكمن الأمكانيات الأستيتيكية للفوتوغرافيا في إكتشافها للواقع. إن الفلم هو لغة ، أي أداة موضوعية ولو أنها تجيء أحيانا ذاتية. فحالها حال اللغة التي تكون موضوعية في العلم وذاتية في الشعر. وترجع المسألة هنا الى حقل أستخدام اللغة. أما زيغفريد كراوسير الذي يعد أكبر مؤيد لنظرية بازان فيوضح ويضيف الكثير لنظرية الفلم كفن الفوتوغرافيا . ونجده يؤمن بأن التصوير والأدب والمسرح وغيره من الفنون لا تقدم الطبيعة وحتى لو كانت تتكلم عنها . فهي تستخدمها كخامة لبناء مؤلفات مستقلة. كذلك فدخول الفن الى الفلم يخنق إمكانيات الثاني الذي هو قائم تحت تأثير الفنون التقليدية ولذلك يتجاوزالوا قع الفيزيقي بأسم النقاء الأستيتيكي. ويذكر أن مخرجي مثل هذا الفلم يضيعون الفرصة الوحيدة المتوفرة في الوسيلة الفلمية. ولربما تستطيع أفلامهم أن تقدم الواقع المرئي الا أنها لا تظهره. فاللقطات تخدم مسألة واحدة لاغير وهي بناء شيء عليه أن يكون عملا فنيا ، وفي مثل هذه الأفلام ،يقول كراوسير ، تفقد المادة المأخوذة من الحياة طابعها كخامة. وبرأيه أن هذا الأمر لايحصل فقط في الافلام ذات الطموح الفني أو التجريبية كفلم ( الكلب الأندلسي ) لبونويل ودالي بل في الأفلام التجارية التي تقلد المسرح رغم أنعدام القيم الفنية فيها. وشأن بازان يجد كراوسير أن الفن في الفلم هو عامل معيق لأنه يفترض الوجود الدائم للمعتقدات التي ( تحجب ) الواقع المادي. كذلك فشتى أصناف الفلم الروائي ، الفني والتجاري والتجريبي وغيره ، لا تقوّي إلا عادة النظر التجريدي الى العالم. أما الأفلام الأخرى ، أفلام الحقائق العارية وأشرطة الأنباء والريبورتاجات والفلم التسجيلي ، فهي تنبذ ( كذب ) الفن الذي يمثله الفلم الروائي أي التأليفي. ويجد كراوسير أن هذا الفلم ، سواء أكان ( المدرعة بوتيومكين ) لآيزنشتاين أم ( رفاق السلاح) لرينوار أم ( لوس أوليفدادوس) لبونويل ، يعتمد على الطاقة الإيحائية للمادة التي تقدمها. ويسوق هنا قولا معروفا لفيلليني : ( الفلم الجيد لا يسعى صوب إستقلالية العمل الفني . ففيه ينبغي أن توجد الأخطاء التي نلقاها في الحياة والناس). ويستخلص كراوسير نتيجة مفادها أن الواقعية الفوتوغرافية والفن قطبان متنافران. فالفلم هو الفن الوحيد االى جانب الفوتوغرافيا والذي يكشف مادته الخام .

أما إرفين بانوفسكي فيكتب في مؤلفه المعروف ( دراسات في تأريخ الفن ) بأن الفلم صار ظاهرة إجتماعية يومية مما لايعني ، بالطبع ، إبتعاده عن الفن. ويسوق هذا المثال على ( إنتشار ) الفلم في الحياة الإجتماعية : لو أن القانون أمر الشعراء والمؤلفين الموسيقيين والمصورين والنحاتين بالكف عن العمل لأدرك ذلك جزء ليس بالكبير من الجمهور ولأسف جزء أصغر منه على هذا الأمر. لكن لو مسّ هذا القانون السينما لكانت العواقب الإجتماعية بحجم الكارثة ..

ويشبّه بانوفسكي الفلم بكاتدرائية القرون الوسطى حيث يناسب دور المنتج دور الأسقف ، والمخرج المعماري الرئيسي ، وكاتب السيناريو المستشارين السكولاستيكيين الذين يحددون البرنامج الإيكونغرافي للعمل الفني ، أما جهد الممثلين والمصور والمونتير ومهندس الصوت وصانع الماكياج وغيره من الفنيين فيشبهه بجهد النحاتين وصانعي النوافذ الزجاجية والبرونز والبنائين والنجارين وقاطعي الأحجار وغيرهم ..

ويجد بانوفسكي أن السبب في قلة الأفلام الجيدة ، وبالمقارنة مع عدد الكاتدرائيات ، هو في تجارية السينما وكون السينما الفنية إستثناءا وليست قاعدة وحتى أنه يقول بأن متطلبات الإتصال السهل تجعل من الفن التجاري أكثر حيوية من الآخر. وبرأيه صارت السينما في الحياة المعاصرة ذلك الشيء الذي كفت عن أن تكونه الأشكال الأخرى من الفن ، أي صارت ضرورة وليس زينة. وكما يقول إن منح الواقع أسلوبا وقبل أن يكون قد مسك يعني تجاوزا للمسألة .

ويعالج أدغار مورين ما أسماه بجدلية الفعلية واللافعلية من خلال تناول القضايا المتعلقة بالفلم الروائي الذي أسماه بفلم الوهم fiction الذي يجده مرتبطا بالدرجة الأولى بنشاط المخيلة. ويقول أن طبقة المخيلة قد تكون رقيقة أو شفافة بل يمكن أن تكون مجرد حجة لقيام صورة موضوعية. والعكس صحيح أيضا .. فلكم هناك من نوع فلمي لهذا الوهم ولكم من درجة هناك للفعلية واللافعلية. ويذكر مورين أن الحاجات الشعورية والأخرى العقلانية تتداخل لكي تخلق هياكلا وهمية معينة. و المعنى الأساسي للفنتازيا يعتمد على عقلنتها. وكلما كانت عملية العقلنة متقدمة كان الفلم أكثر واقعية. كذلك فالواقعية التي ترفض المصطنع وتمكن من الإسهام الأكمل في الوهم ليست الا نوعا من الجائزة التي تدفع للوعي الذي يخشى الإتصال بالسحر ولا يعرف كيف يملك أحلام اليقظة ..

إن الفنتازيا تعقلن السحر وتموضعه لكن يبقى جوهرها الذاتي على حاله. والواقعية هي تظاهر موضوعي للفنتازيا بينما الفلم هو بناؤها الذاتي.

ويكون التحول والصهر الدائميين للفعلية والوهم أو الحلم خصيصة للسينما التي تبحث عن جوهرها الذي يكون ، في الحقيقة ، إنعدام الجوهر .. وما أمر السينما الا حركة جدلية دائمة بين محوري الفعلية ( الواقع كواقع ) واللافعلية ( الحلم كلاواقع مباشر ). وكما لاحظ معظم الباحثين يكون مستقبل االفلم في نبذه الصلة الوثيقة بفن الكلمة ، ومسك جوهره كفن الحركة بشقيها المكاني والزمني ..  

بعض المصادر الرئيسية :

·         جورج سادول – تأريخ الفن السينمائي . منشورات مكتبة المعارف , بيروت ,1956

·         S. Eisenstein – The Film Sense , Faber , 1943

·         S. Eisenstein Film Form , New York 1949

·         R.Arnheim – Film jako sztuka , Warszawa , 1961

·         D. Wiertow – Wybor pism , Warszawa ,1976

·         A.Bazin – Film i rzeczywistosc , Warszawa, 1963

·         S. Kracauer – Teoria filmu , Warszawa, 1975

·         E. Panowski Studia z histori sztuki , Warszawa, 1972

·         E. Morin –Kino i wyobraznia. Warszaw, 1975 – 1960

·         B.Balazs –Wybor pism , Warszawa, 1960

موقع "القصة العراقية" في 6 يناير 2005

من يومياتي مع الفن السابع

عدنان المبارك 

11/12/2004

إستعرت بعض الأفلام القديمة التي لا أعرف من أين جاءتني الرغبة ، وكانت لا تقاوم ، في مشاهدتها من جديد. بعضها من أصناف متباينة في المنحى و المضمون والتقنية. مثلا أيّ رابط بين أفلام مثل (حياة لويس الرابع عشر) لروبرتو روسيلليني و(كونراك) لمارتن ريت و (أماركورد) لفريديريكو فيللليني و (شبح الحرية) للويس بونويل (عدا فلمي أندجي فايدا " إنسان من مرمر " و " إنسان من حديد“)؟

أخذت أنبش في الذاكرة و الأوراق القديمة قبل الدخول الى عوالم هؤلاء الفنانين:

في عام 1966 أخرج روسيلليني للتلفزيون الفرنسي ( حكم لويس الرابع عشر) و في عام 70 جاء فلمه ( سقراط ). في الفلم كان الملك الفرنسي إنسانا قبل كل شيء حمل كل الصفات البشرية لملك سمّي بالشمس. روسيلليني أكد على شعور الخجل لدى هذا الملك. قال بأن هذا الشعور كانت تستره العجرفة كما كان هناك ضعفه المتختي وراء مظاهر القوة. معلوم أن فكرة روسيلليني هنا هي تبيان أن فترة حكم هذا الملك مرتبطة بمركزية السلطة و بدايات المجتمع الحديث أيضا. تذكرتُ نقاشا خاضه هذا المخرج الإيطالي كان موضوعه هذا الفلم . وقف أحدهم وهدده بإصبعه : ( أنت متفائل ). أجابه روسيلليني : ( إذا كان التفاؤل يسمى الإيمان بالإنسان فأنا إذن متفائل. أنا أؤمن بالحقيقة حسب ، و إعتراضي هو على غلقي في إطار ما أو إلصاق صفة ما بي ! ينبغي على المرء أن يكون متحررا من كل أنواع التوفيقية والموضة أيضا و أن يبقى على طريقته .- لكن يا روبرتو أيّ حالات للتوفيقية هذه ؟ - تلك التي أردت كشفها في فلمي ( سقراط ) - الديمقراطية التي تتعفن و بداية الخدعة الكبرى . أنظر الى التأريخ : الناس كافحوا دائما من أجل الحرية و المساواة و الأخوة. هذه الكلمات الثلاث مكتوبة فوق أبواب دور البلدية لكنها فقدت معناها. أنا أفكر بأننا جميعا سذج و لكننا سذج ببطولة. في هذا العمر بعد أن بلغت الثامنة و الستين صار الضعف البشري يؤثر فيّ أكثر من القوة. رغم كل شيء نحن نحيا فترة رائعة من تأريخ البشرية: موت حضارة معينة. فالحضارة الغربية في إضمحلال ، وهو أمر يدعو الى الإثارة و بالغ الإنفعال..

هكذا كان روسيلليني الى النهاية : فنانا لم يرد الإبتعاد عن براكين المعاصرة !

 

12 /12 2004

كانت قد إرتفعت الضجة مرة أخرى حول لويس بونويل بعد عرض فلمه ( شبح الحرية ). في عام 1975 قد تخطى الرابعة و السبعين . أسموه بأصغر المخرجين روحا و إبتكارا و خيالا. مشاغب وجريء رغم تقدمه في السن بل الأكثر جرأة في السينما العالمية آنذاك. كل هذا صحيح. فبونويل بقي ( وقحا ) وكله تهكم و هزء ..
الغريب أنهم لم يصفوا فلمه بالعنيف. ربما لأن العنف كان ولايزال الخبز اليومي للسينما الغربية.

في آيار 1968 كان الطلبة الفرنسيون يلغطون بشعار ( كل السلطة للمخيلة ). وكان بونويل ، كما يبدو ، يلغط به أيضا. تذكرت ماكتبه أندريه بريتون الأستاذ القديم لبونويل : المخيلة هي الخلاف فقط..

أكيد أن السوريالية ، و بونويل من أطفالها الموهوبين ، كانت من ينابيعه المهمة بدءا ب( الكلب الأندلسي ) و إنتهاء ب( شبح الحرية ). في الحقيقة إنتفت حاجة بونويل الى ستر رؤاه في هذا الفلم وراء قناع الأحلام وكما فعل في فلمه ( سحر البوروجوازية الخفي ). فنحن نجد أنفسنا، في ( شبح الحرية ) في عالم ملموس لكن من خلال أضواء بونويل الخاصة. لايملك هذا الفلم عقدة روائية مبنية وفق القاعدة الكلاسية. ليس هناك من صعود درامي للحدث. فالقصة تتصدع وتنقذف في جميع الإتجاهات.إنه فلم مكون من سكيتشات و أحداث غريبة تتعاقب فيها شخوص لا جامع بينها. قال بونويل بأنه لم يرد البرهنة في الفلم على أيّ شيء أو نزع قناع ما. أكيد أن هذا تهرب من الجواب. وهو لم يجب فيه بشكل واضح على سؤالين أساسيين : هل الحرية شيء يظهر فجأة و يختفي بشكل غامض ؟ هل هي حلقة وصل بين أنوع مختلفة من القهر ؟
يبدأ الفلم بمشهد هو مسرحة للوحة غويا الشهيرة ( إعدام ثوار الثالث من آيار 1808 في مدريد ). الثوار يهتفون قبل إطلاق النار عليهم : ( تسقط الحرية ! ). هل كانوا يريدون القول بأنهم يفضلون طغيان حكومتهم الملكية على ( ليبرالية ) نابليون الذي غزا إسبانيا آنذاك ؟ أو هل من الممكن ، كما قال جان كلود كارير واضع سيناريوهات أفلام بونويل إنه يمكن التعرف على الحرية الحقيقية في العمل ، في الخلق الفني و في مخيلة الفنان؟

من الصعب سرد أحداث الفلم الذي هو بمثابة شعر خالص صاغه أخلاقي يلجأ الى الغموض عن عمد كي يقوم بتبديده بعدها ! ففي الفلم يستعرض بونويل كوميديات ونكت ومقالب ووقائع غير مألوفة كي يذكر المشاهد ( وهو الغربي في كل افلام الإسباني ) بأنه يعيش في عالم وهمي تختفي الحقيقة والواقع وراء المظاهر الزائفة. إن النظام و المنطق والمباديء الأخلاقية والإجتماعية والشعورية رهينة كلها بسلوك الإنسان .. وعالم فلم ( شبح الحرية ) يأتي نتيجة لتكديس التقاليد والعادات كما لو أنها في كومبيوتر يبرمج الحياة أفسده بونويل عامدا وقلب برامجه رأسا على عقب حيث كشف الترهات بالترهات : من أعلى ناطحة سحاب في باريس ( برج مونبرناس ) يطلق مجنون النار على المارة. يقتل أكثر من عشرة. يعتقله البوليس وتجري محاكمته حيث يصدر الحكم بالموت لكن سرعان ما يطلق سراحه بعد النطق بالحكم مباشرة . الكاميرا تصورّه هنا ضاحكا يوقع الأوتوغرافات. ولماذا ؟ لربما يقف العالم على رأسه ! وبهذه الصورة يكون الفلم تعاقباً لأحلام ورؤى بونويل الفلسفية و الأخلاقية ..

 

13/12/2004

يعود فيلليني في ( أماركورد – وتعني بإحدى اللهجات الإيطالية : أتذكرُ ) مرة أخرى الى سني طفولته و شبابه مثلما فعل في أفلام سابقة مثل ( المتسكعون ) و( ثمانية ونصف ) و ( روما ) و (ساتيركون ). في ( اماركورد )يصور فيللليني سنوات الثلاثين في بلاده تحت الحكم الفاشي. و إستخدم هنا أسلوبين متباينين : الإتهام الدراماتيكي و السخرية. في الحقيقة كانت الفاشية مجرد خلفية للفلم. فالقصة الحقيقية هي قصة فيلليني نفسه. وهي منسوجة كالعادة بتلك الشاعرية و ذلك الصنف الفيلليني المتميز من واقعية عين الصقر!

رغم ذلك كان محقاً أحد النقاد عندما قال : لاينبغي البحث عن أيّ حقيقة عن تلك الحقبة و مجتمعها عدا حقيقة فيلليني الخاصة.. ففي المكان الأول هناك المؤلف نفسه وذكرياته و أحلامه وغموضه و أشواقه. كل ذلك يعرضه فيللليني بزخمه المعهود وإنتقالاتٍ ( لاهثة ) تكشف عن قدرة هذا الفنان الكبير في الإبتكار. في هذا الفلم ينتظم كل شيء بسخرية مرّة ، سخرية ذاتية وعاطفية متوقدة. إلا أنه إنطباع خاطيء بأن فيلليني أراد تسلية النظارة بتصوير مغامراته الروحية وحقائقه و أكاذيبه عن نفسه و العالم.


14/12/2004

يسحرني الفلم الإجتماعي الأميركي دائما.فصانعوه هم أساتذة ومنفذون ذوو مهارة مدهشة. و فيه متقنة الأركان الفلمية الأربعة ( الإخراج ، السيناريو ، التصوير ، التمثيل ).ولهذه الأسباب مجتمعة ، ولربما غيرها أيضا ، إستعرتُ فلم ( كونراك ) لمارتن ريت. في هذا الإنتاج إلتحمت قضيتان : التمييز العنصري و الروح الحديثة في التعليم. وكانت موهبة ريت تنضج بعد تجاربه في المعهد الفني الطلائعي ( ستوديو الممثل Actor Studio ) و العمل التلفزيوني. وبروحها ومضمونها تبتعد أفلام ريت عن نمطية هوليوود المعروفة.

إعتمد سيناريو ( كونراك ) على سيرة ذاتية كتبها بات كونوري ( الماء عريض ). و يتحدث الفلم عن معلم شاب يصل جزيرة معزولة عند سواحل كارولينا، سكانها من الزنوج. ويبدأ عمله كمعلم في مدرسة إبتدائية هناك ظروفها بائسة. تطلعه مديرة المدرسة على أسلوب الدراسة وكيف ينبغي على أطفال الزنوج أن يتعلموا الخوف قبل كل شيء. تسلمه عصا غليظة وتنصحه بإستخدامها في أغلب الأحايين ! إلا أن كونراك ( وهو الإسم الذي أطلقه الأطفال على معلمهم الجديد ) يتصرف بشكل غير مألوف هناك.. في البدء يفشل . فالأطفال الذين علموهم في ظل الخوف و العصا يستخفون بهذا المعلم الذي لايضرب و يتصرف معهم بحرية ومباشرة. شيئا فشيئا يقتلع كونراك الخوف من نفوس الصغار و يجعلهم يتصرفون كأطفال حقيقيين - بطمانينة وعفوية. بالطبع إعتمد أسلوبه على رفض تلك الطريقة و تأكيده على العلاقة الصريحة و الحميمة بين المعلم و التلميذ. فهو لايلقي درسه على حشد مجهول الهوية بل يرينا الفلم كيف يعمل على إثارة ملاحظة التلاميذ و يعلمهم كيف يلاحظون الأشياء من خلال التفاصيل، مظهراً لهم الجذور المشتركة للظواهر حتى أنه لايشعر بالحرج من أسئلتهم عن قضايا معينة كالجنس و أسراره التي تتجنب المدرسة ( و ليست المدرسة فقط ) الحديث عنها. الجديد في تلك المدرسة أن كونراك ينبذ التعليم الشفوي. فهو يعلم التلاميذ كيف يتعرفون على الثقافة عبر الإنصهار الحسي بها. و في الفلم يقدّم ريت صورا مؤثرة لمرض العنصرية المزمن في الولايات المتحدة. فهناك مشهد البحث الطويل عن فندق يقبل إيواء الأطفال السود اثناء سفرة مدرسية. كذلك دفع كونراك ثمنا غاليا على كل ( أفعاله المريبة ) التي إعتبرت عملا ذا عاقبة سيئة وعموما ما فائدة هذه المعرفة ( المعقدة ) لزنوج صغار، وما فائدة هذه التوعية ( العالية ) ؟!

لقد نزع ريت ، بجرأة وحساسية فنية ، القناع عن وجه قبيح للعنصرية و الروح التقليدية الأميركية. في الحقيقة كان العنصر الحاسم في نجاح الفلم فنياً أداء الممثل المعروف جون فويت بطل فلم ( كاوبوي منتصف الليل ) و الذي جاء رائعا ومثيرا حين فسّر بطريقة أصيلة شخصية هذا المعلم الذي يحمل الكثير من ملامح مناضلي أميركا الصامتين. فمعلمنا كان يدرك جيدا أنه لايقوم بواجبه المهني حسب بل بمهمة ذات رسالة خاصة . بمساعدة فويت خلق ريت صورة سايكولوجية ل(بطل إيجابي ) منتزع من دوامة الحياة الأميركية..

 

15/12/2004

في تلك الأزمان ( الإشتراكية ) كان الفلم البولندي يمثل الإستثناء للقاعدة. ففيه كان بالغ الخفوت صوت الواقعية الإشتراكية و لم تكن كثيرة فيه أفعال ذاك البطل الإيجابي .. ومن لم يعش في هذا البلد يبقى في غاية الإستغراب : كيف هم يسمحون ؟ ومن أين هذا التعارض بين الأقانيم الرسمية وهذه ( الخروقات ) الفنية ؟ حصل الإنعطاف الكبير في كل القطاعات بعد تشرين أول عام 1956 . وقبلها حصلت إنعطافات صغيرة كانت ميزتها أنها عرفت كيف تكبر .. وكان كل شيء يختمر ببطء الى أن أخذت العجينة شكلها شبه الليبرالي في آب عام 1980 حين صعدت موجة ( التضامن ) العارمة.. وفي عام 1989 نزعت بولندا رداءها الأحمر..

قبلها في السبعينات جاء فلم أندجي فايدا ( إنسان من مرمر ) الذي تحدث عن الحقبة الستالينية بلغة غير مألوفة في ذلك ( العالم الإشتراكي ) . أكيد أن أصالة فايدا تكمن في قدرته الكبيرة على هضم و تمثل إنجازات السينما في العالم . فهو لايزال يستفيد من السيناريو المتقن لفلم العنف الأميركي ومن الحدث المحبوك في الفلم السياسي الإيطالي آنذاك. من ناحية أخرى ثمة تطوير ملموس لتجاربه حين عمل أفلاما بارزة مثل ( القنال ) و ( رماد وجواهر ) و ( كل شيء للبيع ) و ( إصطياد الذباب ) و ( بدون تخدير ) و غيرها.

يذكر فلمه ( إنسان من مرمر ) من ناحية الهيكل الروائي بفلم أورسون ويلز الإنعطافي ( المواطن كين ). لكن المهم و المثير في فلم فايدا كان ذلك الخرق المصدم للتابو البولندي .. ويتحدث الفلم عن آليات العمل في تلك ( الإشتراكية الفعلية ) وكيف أن كل شيء خاضع للخطة و منظم مسبقاً : بطل العمل الإشتراكي تحوّل الى دمية مشدودة بأكثر من خيط واحد. وفي الفلم كان هو عامل بناءٍ ضرب الرقم القياسي إلا أنه سرعان ما يكتشف كامل خدعة الأرقام القياسية وكيف أن ( بطولته ) تأتي وفق سيناريو معد بشكل متقن ، و أن وراء هذه الواجهة البراقة لايزال الواقع الفعلي على حاله : حرمان و إرهاب و تسلط على العقول و المشاعر عبر عملية كبرى لغسل الأدمغة ..

 

17/12/2004

كان الفلم الثاني لفايدا ( إنسان من حديد ) فصولا تالية من حياة ( إنسان من مرمر ).وقفت الناس صفوفا طويلة أمام شباك التذاكر كي تشاهد هذا الفلم الذي أصبح رمزا لحقبة جديدة . فاز بالجائزة الكبرى ( النخلة الذهبية ) لمهرجان كان ، ومعلوم أن هذا المهرجان ذو طابع فني – تجاري لكنه لم يصمد أمام الإغراء في أن يكون سياسيا أيضا ..ففلم فايدا هذا رغم نضوجه الأسلوبي و الفني عامة يبقى فلما جيدا حسب وكانت قد منحته القضية البولندية آنذاك أضواءا إضافية. كانت الحال شبيهة بما كانت عليه في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات حين منحت الجوائز لبعض الأفلام السوفييتية ( الجريئة ). أكيد إن إستقبال المجتمع البولندي ل( إنسان من حديد ) بمثل هذه الحرارة و الحماس كان سياسياً قبل كل شيء. فالفلم لم يكن له مثيل في كامل تأريخ سينما الكتلة السوفييتية. إنه يتكلم و يسرد و يصور ،مباشرةً ، تلك المقاومة التحتية ، ومنذها صارت علنية ،لسياسة السبعينات في بولندا والتي إعتمدت على عناصر غريبة بينها القروض الأجنبية ( كان كل ثالث رغيف خبز في البلاد من تلك القروض..). و أنا أذكر كم كانت الصدمة عنيفة لمن إعتاد على تلك المضامين غير المباشرة و المليئة بالإيماءات فقط ، في الفلم البولندي. وهو أمر واضح أن فايدا حرّك فلمه هذا على سكة الفلم السياسي ، الإيطالي خاصة.

ما يميز فلم ( إنسان من حديد ) أن فايدا أخذ بشتى أساليب الأخراج ( الوثائقية و التعبيرية والريبورتاج السينمائي ) كي يترجم واقع السبعينات لغاية أحداث آب 1980 حين أدى الإحتجاج العمالي الى توقيع ( عقد إجتماعي ) جديد بين السلطة و المجتمع.

كان السبب الرئيسي في منح جائزة مهرجان كان لهذا الفلم هو أنه مسك التاريخ أثناء مسيرته. وهذا رأي صحيح. فالفلم صوّر أحداثاً فعلية لم تكن قد إنتهت بعد ، وقام بمزجها بالعناصر الروائية حتى أن بعض ابطال آب البولندي كالزعيم العمالي فاوينسا و زميلته فالنتوفتسش قاما بأداء أدوار ( إضافية ) في الفلم ( كانا شاهدي زواج بطلي الفلم ). وكانت صحيفة ( لي ماتين ) الفرنسية قد كتبت بعد عرض الفلم في المهرجان بأنه سيكون حدثا في تأريخ السينما مبرّرة نبوءتها بالقول إنه لم يحصل أن مسك الفلم أحداثا تأريخية كبيرة لم تنته بعد. فما قدّمه الفلم يحدث في الواقع الفعلي. معلوم أن فايدا كان من أقطاب حركة ( التضامن ) . وكان قد قال حينها : أعتقد أن ما يقرر نجاح الفلم ، كل فلم ، هو الموقف الإنفعالي للمخرج أزاء موضوعه. إلا أن الإنفعال ينبغي أن يتحول الى علاقة ملموسة بالموضوع و الأحداث ذاتها، أزاء أبطال تلك الأحداث. وهكذا فكامل المسألة تعتمد على أن يقوم هؤلاء الأبطال بنقل حالة الإنفعال التي رافقت ما عاشوه في آب 1980 الى صالة العرض ومن خلال الشاشة. وما كان الأصعب في هذا الفلم الذي ولد في عذاب حقيقي هو البنية الفنية. من السهل تشييد بنية فنية أو إشباع الفلم بمختلف الأفكار الفلمية المبتكرة أو خلق مفارقات كما كان الحال في فلم ( إنسان من مرمر ) أو اللجوء الى الهزء. نعم هذا أسهل بكثير من نبذ كل هذه الأمور والوقوف أمام تلك المادة الفلمية العارية ومخاطبة النفس و الجمهور : هكذا أجد نفسي أمام القضية ، وهكذا أسهم فيها. وفي الأخير هل كان ممكنا نقل ما حدث في آب بصورة فوتوغرافية ؟ إن ما حدث في مهرجان كان هو مسألة ثانوية بالنسبة لي. فالأولى هي تلقي جمهورنا للفلم. و قد أُتهَم بأنني لجأت الى أساليب ومسكات معروفة لإثارة المشاعر. لا بأس. فالكبار أمثال تشابلن وكلير وكارنيه و فيلليني في ( لاسترادا ) عملوا ذلك أيضا. فهذه هي ( طبيعة السينما ).

إن بناء مثل هذا الجسر الإنفعالي بين الفلم والجمهور هو أمر لا يخلو من المجازفة رغم كونه فرصة لا تقدر بثمن لمثل هذا الفلم .. فما حصل في آب 1980 لا يمكن أن تختصره المعادلات الرائجة آنذاك في بولندا : سياسة خاطئة سببّت التمرد العمالي ثم الدخول في مرحلة ذات نوعية جديدة. إن ما حصل يخضع لقوانين التغيير بكل حالات إنسجامه وتناحراته في الداخل. وككل فنان كبير يستدرك فايدا معلنا عن عزمه على إخراج فلم جديد أكثر إلتصاقا بالواقع ويريده أن يكون التكملة النهائية لإنسانيه المرمري و الحديدي. وبالفعل جاء الفلم الجديد ( دانتون )بعدها ببضع سنوات. وكان عن الثورة التي تأكل أبناءها الذين وضعت روؤسهم تحت المقصلة ( دانتون و بروبسبير )..

ذكرني ( إنسان من حديد ) بفلم ( زد Z ) الشهير . وكانت براعة فايدا قد أفلحت في إعطاء هذا التنوع تجانسا ومتانة خاصة مما يعني أن هذا المخرج لا يتبع الآخرين بل يتابع مسيرتهم حسب ..

وأذكر أن فايدا إعترف مرة بأن ( إنسان من حديد ) هو فلم ساذج شأن الأحداث التي قام بعرضها، فهي أحداث تملك في ذاتها سذاجة عميقة ، أما أناسها وصانعوها فهم ، في الواقع ، سذج .. المقصود هنا هذه السذاجة التي يمكن أن تكون القوة الدافعة الأكبر ، ففيها تكمن قوة التجارب الأولى و الأفكار البكر ، و في نطاقها يوجد أيضا إكتشاف الأشياء الجديدة وغير المتوقعة. أكيد أن ما يقصده فايدا بالسذاجة هنا هو مواجهة الواقع المعقد بأفكار بسيطة تتعلق بأوليات الحياة. ولديّ شكوك بأن فايدا كان يمتلك هذه النظرة أو الفلسفة عندما نفّذ فلمه الذي كان قبل كل شيء وثيقة إتهام سياسي يكشف مضمونها عن ميول مؤلفها. فالفلم لم يكن مجرد فتح إعتباطي للعدسة على ما أمامها بل كان بناء موقفٍ على أساس إنتقاء أو خلق عناصر معينة من الواقع بمعناه المجازي. وكنتُ قد كتبتُ حينها أن جميع أحوال الإعتراض و التساؤل لاتغير شيئا في حقيقة أن فلم فايدا ظاهرة إنقلابية في ثقافة ذلك الجزء من العالم ، وهناك أمور كثيرة توميء بأنها ليست ظاهرة موسمية بل من المعالم الرئيسية لما سميّ حينها في بولندا بالتجديد الراديكالي .. وهذه لم تكن نبوءتي الخاصة ، فإشارات السماء و الأرض كانت توميء الى مثل هذا المستقبل ..

 

18/12/2004

ها أنني أواصل نبش الأوراق القديمة ! على أيّ شيء عثرتُ اليوم ؟ تقرير عن لقاء صحفي مع عمر الشريف أثناء زيارته لوارشو في ربيع عام 1987. كان قد جاء للإشتراك في فلم جديد لأندجي فايدا معتمد على ( أبالسة ) دوستويفسكي. في الحقيقة كانت هذه زيارته الثانية . الأولى جاءت في الستينات عندما إلتقطتْ مشاهد من فلم أناتول ليتفاك( ليلة الجنرالات ) الذي مثل فيه الشريف أيضا.

كان اللقاء معه في ناد طلابي إلا أنه سرعان ما تحول الى مؤتمر صحفي. ما أدهشني انه أجاب على كل الاسئلة ، المحرجة والأخرى.. قال مثلا : لقد مثلت ُ في أفلام رديئة كثيرة . و الأسباب أكيدة : من أجل المال الذي أنا بحاجة دائمة إليه و لأنني أنفق الكثير..

كانت الأسئلة كثيرة ومتنوعة ، فنية وشخصية ، ذكية و سطحية. إلا أنه أجاب عليها كلها بذات الإهتمام و الجهد ! :

·         أيّ أفلام من أفلامك تحبها أكثر من البقية ؟

- تلك التي جاءني العمل فيها بالمتعة. هناك تلك الأفلام التي أنفر من الحديث عنها و تذكرها. مثلا لا أحب الذكريات من العمل في فلم ( الدكتور جيفاغو ). فقد إستمر عاما بكامله. كنت أشعر بالبرد طوال الوقت. أما الأجواء فكانت مغايرة تماما حين مثلت ( فتاة مسلية ) مع بربارا ستريسلند. حينها لهوت بصورة رائعة و في ظروف جيدة. فالمشاهد صوّرت في الأستديو وحولي الملابس الجميلة و الفتيات الحلوات..

·         أين كان التمثيل أكثر سهولة ، في مصر ، أم في الولايات المتحدة أم في أوربا الغربية؟

عندما كنت أمثل في مصر تكلم النقاد عن لكنتي الغريبة رغم أن العربية هي لغتي الأولى. كنت أتعلم آنذاك ثلاث لغات. و الآن أنطق بسبع . و أعتقد أن نطقي ليس سيئا. لا أحد يدرك أنني غريب عن البلد حين أتكلم بلغته و بنطق سليم ..

·         سأله صحفي عن علاقته بالمسرح :

- صار المسرح عندي كل شيء الآن. عندما بدأت أمثل في السينما كنت فخورا جدا. فأن تكون ممثلا يعني هذا الكثير. الناس تذهب الى السينما كي تشاهد همفري بوغارت أو كلاك غيبل ، أما اليوم فالمخرج هو الأهم ، و الممثل يشعر بأنه دمية. في السينما يقول لي المخرج : تدخل الغرفة و تجد زوجتك مع رجل ما. ويبدأ بتوجيه الكاميرا صوبي. أنا أدخل و أُبدي رد الفعل أزاء ما يجري في الغرفة. ويقول المخرج في اللحظة المناسبة : ستوب !. بعدها حين أشاهد الفلم أجد أن كل ما فعلته كان معتمدا على مزاج المخرج. أما في المسرح فأنا أقف على الخشبة متحكما في الإيقاع و أعرف أن بقدرتي أن أمثل بصورة أسرع أو أبطأ، كما انني أسمع وأرى رد فعل الجمهور.

·         أنت ممثل معروف و لاعب بردج ماهر أيضا. أي ّشيء هو الأهم : التمثيل أم البردج ؟

- التمثيل . الممثل يعمل خلال شهرين أو ثلاثة و بعدها لاعمل لديه بقية السنة. و إذا لم يتفرغ لأمر ما فمصيره الجنون.. الممثل يخشى أن تضيع عليه فرص التمثيل ، و أن لا أحد يقترح عليه أدوارا. و أغلبية الممثلين الذين أعرفهم هم غريبو الأطوار يسيطر الخوف الدائم عليهم. لذلك لابد من هواية ، من غرام آخر عدا التمثيل.

ففيه الإنقاذ و العون..

·         في الستينات مثلتَ في أفلام تاريخية ضخمة وميلودرامية . ألا تحن إليها اليوم ؟

- نعم هذا حصل في نهاية الستينات. وفي السينما جاءت تغيراتكبيرة سبببها الرئيسي سياسي في الولايات المتحدة. فالحرب الفيتنامية أثرت للغاية على وعي الشباب الأميركي ، وهذا كان لديه شيء لقوله. حينها جاءت أفلام كبيرة ذات بعد سوسيولوجي تتحدث عنهم وعن بلادهم. منذها بدأت متاعبي في العثور على الدور المناسب . آنذاك كانوا في الولايات المتحدة يحتاجون الى ممثلين أميركان وليس أجانب.

·         و الذكريات الطيبة مع أيّ مخرج كانت ؟

- مع ديفيد لين الذي مثلت في فلمين من أفلامه. كما لي ذكريات طيبة مع فريد زينيمان الذي مثلت في فلمه ( أنظروا الى الحصان الأشهب ) دور قسيس كاثوليكي شاب.قبل تصوير الفلم قضيت شهرين في إحدى المدارس الدينية و عشت حياة طلابها ، فقد كنت أستيقظ في الخامسة صباحا و أدبر شؤوني بنفسي و أحضر الدروس و القداس. أما فطوري فكان فنجان قهوة و قطعة من الخبز. هكذا عشت دوري في الفلم حقا و أعتقد أنه افضل دور مثلته في حياتي . وكان قد مثل معي غريغوري بيك وأنتوني كوين.

·         ما رأيك بالسينما المصرية ؟

- للأسف مقياس النجاح فيها كمية دموع المشاهدين. والفلم يكون جيدا إذا كانت أرضية دار العرض رطبة .. لاشيء قد تغيّر . فالناس تحب أفلام الميلودراما . و بعضها مسروق من الأدب العالمي و لاأحد يعترف بالسرقة. السيناريست يقول إن كل شيء من إبتكاره. وحصل هذا الشيء مع ( آنا كارينينا) وغيرها.

·         نحن لا نعرف الكثير عن الممثلين العرب ذوي الشهرة العالمية . فهل إختارك الحظ للسينما العالمية ؟

- أظنه الحظ . أروي لكم كيف حصلت على دوري في فلم ( لورنس العرب ). المخرج قال لمساعده أن يحضر صور جميع الممثلين العرب. كان العدد ألفي صورة.

رمى الكثير منها و إختارني ..

عن دوره في فلم فايدا قال إنه رائع رغم قصره. فهو يشمل أربعة مشاهد فقط ( لكنني لم أملك أبدا في حياتي مثل هذه المشاهد الجميلة. سأصاب بالخيبة إذا تبين بأنني لم أقم بها جيداً ). وعن هذا الدور قال أيضا : أمثل دور مثقف ثوري شاخ وكف عن أن يكون رجل عمل.

·         سألته إحدى الصحفيات عن أحب شيء الى نفسه.

أجاب على الفور : النساء الجميلات ، الخيول الجميلة ، البردج .

·         عندما وجهت إليه سؤالا آخر : لو عاش في جزيرة غير ماهولة أيّ أشياء سيأخذها معه.

أجاب : فرسا جميلة تعرف لعبة البردج أيضا !

وجاءه سؤال ثالث من هذه الصحفية :

·         أنت صاحب نكتة . لماذا لا تمثل إذن في الأفلام الكوميدية ؟

- أنا مغرم بهذه الأفلام. مثلت مؤخرا دورا كوميديا لكنهم في السينما لا يريدوني ممثلا كوميديا. ربما لأني عجوز. و أولئك الذين يقررون مسألة الأدوار يفكرون بأن الناس سيبكون ولايضحكون حين يروني على الشاشة..

·         وعن حياته الزوجية أجاب على سؤال :

- كنت قد تزوجت من شريكتي في التمثيل السينمائي. كنت أحبها للغاية. وكنا من السعداء طيلة عشر سنوات. بعدها صرت ممثلا عالميا و هي بقيت في مصر.

إنفصلنا قبل عشرين سنة ومنذها لا أملك صديقة حقيقية. أنا لا أعامل مغامراتي العاطفية بصورة جادة. وأنا حزين لكوني لا أملك حياة خاصةغير أن لي إبنا عمره اليوم 30 سنة. و كان السؤال الأخير :

·         هل ستختار الطريق نفسه لوترك لك الخيار ؟

- لا أعرف. هل انا سعيد؟ السعادة هي لحظة عابرة..

لولا هذه الأوراق القديمة لما تذكرتُ الكثير عن هذا اللقاء مع فنان أضاف الى قدراته صراحة و عقلا مفتوحا ..

موقع "القصة العراقية" في 6 يناير 2005