أوليفر ستون الذي فضح التاريخ الأميركي سقط تحت هالة "إسكندر"
نديم جرجورة |
للأسبوع الثاني على التوالي، تستمرّ العروض اللبنانية ل<<إسكندر>> للمخرج الأميركي أوليفر ستون، في صالات <<كونكورد>> (فردان) و<<الزوق>> و<<ستارغايت>> (زحلة) و<<أبراج>> (فرن الشباك) و<<سيتي كومبلاكس>> (طرابلس) و<<سينما روز>> (برمانا). تمثيل كولين فاريل وآنجلينا جولي وأنتوني هوبكنز وفال كيلمر وجاريد ليتو. مزج الفيلم، في سرده محطّات من سيرة إسكندر المقدونيّ، بين الأسطوري والتاريخي في هذه الحكاية المُلتبسة المعاني والرموز والحقائق، مطعّماً إياها بلحظات عدّة من النزاع الذاتي الذي ألمّ بالقائد الشاب، في صراعه العاطفي والنفسي وفي تمزّقه الروحي والإنسانيّ. في خلال أقلّ من ثلاث ساعات بقليل، يُمكن لهواة النوع التاريخيّ الأسطوريّ الملحميّ أن يتابعوا تفاصيل متنوّعة من هذه السيرة المشحونة بالجنون والتشرذم العائليّ والهوس بالمجد والسلطة والخضوع اللاواعي للتاريخ الإغريقي المقدونيّ المشبع بالعلم والفلسفة والأنانية. هنا كلمة نقدية عن الفيلم، غلب عليها البحث في الأداء والتمثيل. على نقيض المتوقّع من سينمائيّ مشاغب وحادّ في قراءته الواقع والتاريخ، وفي معاينته الذات الإنسانية ومتاهاتها القاسية والملتوية والمخيفة، لم يصدم أوليفر ستون في فيلمه الأخير <<إسكندر>>، كعادته في صدم الجمهور والمجتمع والمؤسّسات السياسية والثقافية والإعلامية. مواقفه المغايرة للسائد انتقادية لاذعة. تشريحه الحكاية/الأسطورة عنيف. لا يأبه بالمتعارف عليه، ولا يخشى تدمير المقدّس. يوجّه سهاماً قاسية نحو من يعتبرهم مسؤولين عن حدث أو مصيبة. يستعيد التاريخ كي يعيد بناءه، ويقتبس من الواقع ما يعينه على إعادة صوغ المشهد الإنساني. يأخذ من الماضي تفاصيل وأحداثاً كي يطرح الأسئلة النقدية الخاصة بالسلطة ومعناها وشهوتها وقوّتها الجاذبة إلى التدمير الذاتي والعنف المبطّن. هذا ما فعله ستون (مواليد نيويورك، 15 أيلول 1946) في أفلام عدّة له، ك<<ذو دوورز>> وثلاثية فيتنام: <<الفصيلة>> (1986) و<<مولود في الرابع من تموز>> (1989) و<<الجنّة والأرض>> (1993)، من دون أن ننسى فيلماً قديماً له بعنوان <<العام الأخير في فيتنام>> (1971). هناك أيضاً <<وول ستريت>> (1987) و<<قتلة بالولادة>> (1994) و<<يو تورن>> (1997) و<<يوم أحد عاديّ>> (1999) وغيرها، وصولاً إلى أفلامه السياسية المباشرة، المتمثّلة بفيلمين روائيين طويلين هما <<ج ف ك>> (1991) و<<نيكسون>> (1995) وفيلمين وثائقيين هما <<شخص غير مرغوب فيه>> (2003) و<<البحث عن فيديل>> (2004). غير أنه لم يرتق ب<<إسكندر>> إلى المستوى نفسه الذي وصل إليه في إعادته سرد حكايتي الرئيسين الأميركيين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، أو في مقابلته القائدين التاريخيين الفلسطيني ياسر عرفات والكوبي فيديل كاسترو. في <<ج ف ك>> و<<نيكسون>> لم يكن مهموماً بالسيرة الذاتية إلاّ بمقدار ما يُمكنها أن تعينه على تشريح الحدث والروح في وقت واحد، وعلى إعادة رسم صورة مغايرة للسائد في الوعي الفردي والجماعي. وفي <<شخص غير مرغوب فيه>> و<<البحث عن فيديل>> ذهب بعيداً في تقديم شيء من الواقع وبعض الحقيقة عن قائدين فاعلين في مجتمعهما، ومؤثّرين في الخريطة السياسية العالمية بشكل أو بآخر. وإذا توصّل ستون إلى مواجهة فيديل كاسترو ومحاورته والبحث معه عن الصورة الإنسانية للقائد التاريخي، فإن ياسر عرفات ظلّ في خلفية المشهد زعيماً لا يُستهان به، وإنساناً يُعاند القدر ويتحدّى الموت مراراً كي يستعيد وطنه من براثن النسيان. أما في <<إسكندر>>، فبدا مسعاه الفنيّ والنقديّ مرتبكاً وملتبساً، على الرغم من قوة الفعل الدراميّ في شخصية القائد المقدونيّ، ربما لأن شخصية إسكندر نفسها بأبعادها التربوية والنفسية والروحية والانفعالية، ومجريات الحدث التاريخي المرافق لها بجانبيه السياسي والاجتماعي، قابعة في الالتباس الأجمل وفي الأسئلة المعلّقة. أو ربما لأن ستون أراد أن يُسقط عن إسكندر الهالة الإلهية والجانب المقدّس في أسطورته، فإذا بهذين الجانب والهالة يفرضان حضورهما الأقوى فيمنعان المخرج من اختراقهما. ملحمية من دون ممثل بدا <<إسكندر>> أوليفر ستون، الذي أثار غضب يونانيين عديدين بسبب تركيزه الدراميّ على علاقة الحبّ بين القائد المقدونيّ وصديق عمره هيفايسثيون، فيلماً ملحمياً تميّز بضخامة الإنتاج (150 مليون دولار أميركي) وبمشاهد المعارك المصوّرة بالحرفية المعتادة في هوليوود، وبجمال ديكوراته (خصوصاً مقدونيا وبابل)، وبالأداء الجميل (وإن المعتاد) لأنتوني هوبكنز في شخصية بطليموس العجوز. إلى جانب هذا، أخفق مخرج <<إسكندر>> في الاستفادة القصوى من درامية الشخصية التاريخية ونزاعها الداخلي الدائم بين متناقضات ومشاعر مختلفة، ربما لأن اختيار الممثل لتأدية هذا الدور لم يكن موفّقاً. ففي مقابل القامة الكبيرة والمؤثّرة لهوبكنز، والحضور الجميل لآنجلينا جولي (والدة إسكندر)، والتمثيل الجيّد لفال كيلمر (فيليب المقدوني)، <<فشل>> كولن فاريل في تأدية إسكندر الشاب المهووس بالسلطة والمجد، والمشحون بعاطفة جيّاشة لصديقه، والمنذور دائماً لمواجهة القدر والأسطورة، وعاشق الحروب والتسلّط، والمجنون بمعاندة السلطة الخفيّة والقاسية لأمه والذاكرة الغنيّة بأفعال والده، والرافض العنيف للواجب الاجتماعيّ والحاجة المَلَكية. لم يستطع فاريل أن يحمل على عاتقه مسؤولية امتلاك الكيان الإنساني المُعَقّد والمُلتبس الذي صنعه إسكندر، فبدا تمثيله صغير الحجم إزاء سطوة الصورة الأصلية، وظلّ أداؤه عادياً للغاية لا يتلاءم مع عظمة القائد المقدونيّ وضخامة إنتاج الفيلم. في الجانب التمثيلي أيضاً، بدا أداء أنتوني هوبكنز أفضل وأجمل، على الرغم من أنه لم يتبدّل كثيراً في <<إسكندر>> ستون. إنه هنا بطليموس العجوز الذي يروي لقدموس حكاية إسكندر المقدونيّ. إنه العجوز الواقف عند الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، والسارد بشغف وقلق وألم روحي قصة شاب عانى قسوة الأب وسطوة الأم وسلطة القدر وقوة الأسطورة، وذهب بعيداً في أحلامه القاتلة له وللمحيطين به، وقراراته <<المجنونة>> وهوسه المُدمِّر والدموي بالحروب ومطاردة الأعداء واحتلال أراض وشعوب، وأثار حوله غضباً وسخطاً وحبّاً في آن واحد، وصادق أناساً انتموا إلى مجتمعات منبوذة في الوعي المقدونيّ. هذه التفاصيل كلّها التي صنعت إسكندر لم تظهر واضحة وجميلة في أداء كولن فاريل، بقدر ما بدت أجمل وأعمق في حكاية أنتوني هوبكنز/بطليموس العجوز، بكتفيه المنحنيين قليلاً ونظرته التي يلقيها في البعيد بعينين مكسوتين بالحكمة والهدوء وقوة المعرفة والمُشاهدة، وبمشيته المأخوذة بقدسية المكان (مكتبة الإسكندرية) وسحر الزمان الذي اخترعه إسكندر قبل موته مقتولاً كغالبية الذين يكتبون التاريخ، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره كمعظم الذين يعيشون على حافة القدر، ويمضون حياتهم القصيرة وهم يلعبون مع الموت. هوبكنز الرائع كلّما أردتُ الكتابة عن الأداء الجميل لأنتوني هوبكنز، أنساقُ إلى إعادة رسم صورة ما لإسكندر. كأن أنتوني هوبكنز صاغ إسكندر على الشاشة. أو كأن إسكندر لم يكن قادراً على الظهور إلاّ من خلال أنتوني هوبكنز. بدورها، ساهمت الجميلة آنجلينا جولي في إظهار شكل أنسب وأقوى للشخصية نفسها، بفضل أدائها الباهر دور أولمبياس المتسلّطة والقاسية والساعية إلى امتلاك السلطة من خلال ابنها. امتلكت جولي سحراً لافتاً للنظر في حضورها أمام الكاميرا، وفي تأديتها دوراً مزج الأمومة المَهووسة بالسلطة والأنوثة المتماهية بأصالة الآلهة والمرأة المتّقدة شهوة بالمُلك وشفغاً بالمجد. في هذا الدور تحديداً كوالدة إسكندر، منحها جمالها مزيداً من ألق السحر والجاذبية اللذين تمثّلا في قوة أداء درامي كشفته بحركات وجهها ونظرات عينيها المليئتين بالالتباس البديع بين كونها إنسانة ومتحدّرة من أصل إلهيّ في وقت واحد. في أكثر من مشهد، أثبتت آنجلينا جولي أنها قادرة على جعل دورها مرآة لابنها الذي ربّته منذ صغره على شهوة السلطة والمجد، والذي عاش معها في غرف مليئة بالأفاعي. في حين أن أوليفر ستون أبدع هنا في مقاربة درامية لافتة للنظر بين المرأة/الأم/الإلهة وما ترمز إليه الأفعى من دهاء وحنكة وقوة سامة للقتل، أبدعت جولي في اقتباسها بتصرّف أو بكلمة أو بحركة أو بنظرة أو بسلوك. قدّم أنتوني هوبكنز دوراً جميلاً، كما فعل سابقاً مع أوليفر ستون أيضاً في تأديته دوراً أعقد وأقسى، هو دور الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. في فيلم <<نيكسون>>، أبدع هوبكنز في إعطاء الشخصية الحقيقية أبعادها الدرامية المختلفة، ووجوهها الإنسانية المتناقضة بين ادّعاء قوة في الظاهر وانكسار روحي في الداخل. وفي مواجهة نيكسون المخاوف والشياطين كلّها الكامنة في ذاته وروحه المُعذّبتين، تعاون الممثل والمخرج في إبراز هذه المشاهد في أجمل صُورها السينمائية، وفي أبهى لحظاتها الانتقادية العنيفة. في <<إسكندر>>، هناك كمّ لا بأس به من اللحظات نفسها: فالقائد المقدونيّ عانى مخاوف كثيرة، وظهرت له شياطينه الدموية والعنيفة. لكن المَشَاهد الخاصّة بهذه اللقطات وإن صيغت بشكل دراميّ جميل إلاّ أنها محتاجة إلى أداء أفضل لممثل آخر. السفير اللبنانية في 6 يناير 2005 |
باسم الآب نديم جرجوره لا يحتاج أحدٌ إلى حادثتي <<بحبّ السيما>> لأسامة فوزي و<<بنت من شبرا>> لجمال عبد الحميد، ليتأكّد من أن التشابه فظيعٌ بين التزمّتين المسيحي والإسلامي، ومن أن ما هو أبشع من التخلّف الأصوليّ الإسلاميّ تخلّفٌ مسيحيٌ يلتحف بشعارات دينية باهتة، ويستمدّ <<قوة>> حضوره في المجتمع من الله، ويتّخذ أحياناً من أحداث اجتماعية وسياسية، وإن كانت خطرة، دافعاً لتصرّفات مرفوضة، كممارسة الرقابة على الفن والإبداع. ذلك أن <<خطيئة>> هذين الفيلم والمسلسل المصريين كامنة في تشريحهما النقديّ الحادّ آلية تربية دينية مسيحية متزمّتة وصارمة بتبيان نتائجها المدمّرة على الفرد، وفي بحثهما الدراميّ في جذور الأصوليّة المتحجّرة التي تقود الناس إلى خرابهم الروحيّ وتمزّقهم الإنساني بحجّة الدفاع عن المقّدس. كأن الفن منذورٌ لترويج ساذج لما تريده السلطة، بدل أن يكون مرآة حيّة للمجتمع والفرد والجماعة والواقع. أو كأن ما يُفرزه هذا الواقع من تحوّل سلبي، وما ينتجه من مآزق وأزمات، يُمكن إخفاؤه بالمنع والقهر والعنف. قبل أشهر قليلة، شنّ رجال دين ومحامون ومتطرّفون أقباط حملة إعلامية وقضائية ضد فيلم أسامة فوزي لانتقاده التزمّت الديني الخانق في داخل العائلة، وتأثيره السلبي على التربية والوعي والذات والروح والعلاقات. لكن الحملة فشلت في منعه من العرض التجاري، على نقيض حملة أخرى شُنّت ضد <<بنت من شبرا>>، إذ إن وزير الإعلام المصري رفض عرضه في المحطّات التلفزيونية المصرية الأرضية والفضائية بناء على <<توصية>> من مثقفين وإعلاميين <<أصدقاء>> له، مدعومة بتقرير أصدرته الكنيسة حذّر <<من مغبة عرضه>>، خصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر، في إشارة إلى اعتناق زوجة أحد القساوسة الدين الإسلامي وارتدادها عنه، وما نتج عن ذلك من ثورة وغضب شعبيين. فالمسلسل، المقتبس عن رواية لفتحي غانم بالعنوان نفسه (1986)، صوّر التناقض الشاسع بين ممارستين مختلفتين للدين الإسلامي، تمثّلت الأولى بالتسامح والانفتاح والتواصل (رجل مسلم يتزوّج كاثوليكية)، وظهرت الثانية في التزمّت والأصولية والتحجّر (الحفيد المنتمي إلى جماعة أصولية). أعاد هذا السلوك إزاء العملين الفنيين مسألة تعنّت رجال الدين وتخلّفهم الثقافي في فهمه وتزمّتهم الاجتماعي و<<الإيمانيّ>> في ممارسته إلى واجهة الحدث، وطرح مجدّداً سؤال الاختراق الديني الأصوليّ الرجعيّ قواعد النظام الحياتي والأخلاقي والمجتمعي، ب<<مباركة>> السلطة السياسية الرسمية وتشجيعها أحياناً، فإذا بهاتين السلطتين تتشاركان في التسلّط على الحرية الفردية والجماعية، وفي مراقبة اليوميّ والذاتي، تارةً بحجّة الحفاظ على الأخلاق العامة واحترام المشاعر، وتارةً ثانيةً بنيّة الدفاع عن <<صورة>> الوطن في الخارج، وتارةً ثالثةً برغبة مزعومة في حماية <<السلم الأهلي>> و<<العيش المشترك>> من المؤامرة الخارجية (!). وكما في مصر كذلك في لبنان. أم إنكم نسيتم مواقف السلطتين الدينية والسياسية من الحرية والإبداع والثقافة النقدية؟ السفير اللبنانية في 6 يناير 2005 |