"إسكندر" أوليفر ستون صيّاد كحولّي وحيد فهل هو نسخة قديمة للكاوبوي الأميركي
صفوان حيدر |
|
مسكون بالهواجس النزقة باتجاه الموت، وبالمخاوف القلقة باتجاه القضاء والقدر، وباحث عن الألوهة في ذاته المنشطرة بين مطامح أمه اوليمبيا وأبيه الملك فيليب، وسابرٌ طريق فتوحات شاسعة حافلة بالأخطار، من اجل إخضاع العالم القديم وامتلاك كنوزه وخيراته، هكذا ظهر الاسكندر المقدوني (كولين فاريل) في فيلم المخرج الاميركي أوليفر ستون من خلال ملحمة سينمائية تحتشد فيها الاستعراضات المدوية، في بذخ وإسراف <<عسكريتاري>> تخطى العشرين ألف زي وثلاثة آلاف حربة طويلة وقصيرة واربعة آلاف درع وحشود عسكرية لا يمكن عدها تماما. كلفت ديكورات هذا الفيلم وإكسسواراته مبلغ مئة وخمسين مليون دولار، متنقلة بالكاميرات بين إيسوس جنوب شرق تركيا وغوغاميلا شمال غرب إيران حيث حسم الصراع العسكري الطاحن مع داريوس الثالث، ملك الفرس، لصالح الاسكندر. المشاهد الملحمية صوّرت في المغرب وتايلندا كما استعملت ديكورات فخمة في تصوير دخول الاسكندر الى بابل، حيث فخامة الجنائن المعلقة وضخامتها، كما استعملت الفيلة في معارك الاسكندر الدامية في الهند، وبين الادغال، فهل نال الاسكندر ما يستحقه من خلال كل هذه التكاليف الباهظة إخراجا وإنتاجا وتمثيلا؟. بين الضحية والقائد السؤال الاول الذي يطرحه المشاهد للفيلم: هل كان الاسكندر ضحية نزوع مثلي مفترض مع صديق صباه ورفيق معاركه <<هيغايشسون>> (جاردليتيو) وضحية علاقة تنافرية هوسية مرضية بأمه اولمبيا (انجلينا جولي) على الطريقة الاوديبية الفرويدية، وضحية علاقة <<هملتية شكسبيرية>> بأبيه الملك فيليب الثاني المقدوني (فال كيلمر)، أم ان هذا الفيلم الذي يستعمل المأساة السوفوكلية الشكسبيرية قد شوّه صورة الاسكندر بوصفه قائدا تاريخيا عظيما يبحث عن التوافق الفلسفي والتوحيد الإلهي وهو تلميذ أرسطو وناشدا للعدالة عن طريق التوزيع العادل للمغانم، مثلما هو ممدوح في القرآن الكريم (من الآية 81 الى الآية 97 من سورة الكهف) بصفته المعروفة <<بذي القرنين>>؟ مع ان المخرج ستون يشير إلماحا في الفيلم الى تأثير الفلسفة اليونانية على الاسكندر فإنه بقي عاجزا عن التعمق في هذا التأثير، كذلك يُلمِّح ستون الى ان الاسكندر لم يكن محبا لأنانيته التملكية، بل كان سخيا في توزيع المغانم والثروات على رفاقه المقاتلين، بينما والحق يقال، كان الاسكندر اول فاتح كبير يمارس التخلي عن نرجسيته الشخصية لصالح بناء امبراطورية جديدة، تحتضن وتستوعب هذا الكم الهائل من تنوع الثقافات والحضارات القديمة انطلاقا من أثينا مرورا بتركيا وسوريا ولبنان ومصر وإيران وافغانستان وباكستان والهند وصولا الى حدود الصين. عجز كولن فاريل أما السؤال الثاني، فيتناول المكونات الأساسية لشخصية الاسكندر، التي يلقي الفيلم عليها شباكا مضللة ومربكة، فيبدو الاسكندر ضحية المخاوف والهواجس والسحر الشيطاني (تصوير العلاقة بين الأفاعي والنساء) ورجلا وحيدا، وأحيانا خائبا رغم باهر انتصاراته ومحبا للرجال اكثر من حبه للنساء، محكوما بعقده النفسية المأزومة من أمه التي شاركت في اغتيال ابيه الملك فيليب ليتسلم العرش ابنها الاسكندر. وقد عجز كولين فاريل عن رسم الملامح الكاملة لشخصية الاسكندر، وأبرز بعضا قليلا منها فقط، لأنه ممثل شاب قاصر عن تحمل دور <<شكسبيري>> ضخم ومعقد يطمح أوليفر ستون لتقديمه عن الاسكندر. التساؤل الثالث، يتناول العبقرية العسكرية للاسكندر التي لم تظهر كما ينبغي ان تظهر، إلا في التركيز على الشجاعة القتالية فقط، في معركة غوغاميلا مع ملك الفرس داريوس الثالث، بينما تعتبر تلك المعركة الهامة نموذجا احتذي به في معركة واترلو في بلجيكا بين نابليون وولنغتون. كما يتجاهل الفيلم ويهمل حصار الاسكندر لمدينة صور وكيفية فتحه لها في ملحمة قتالية استمرت ستة أشهر شاركت فيها السفن القرطاجية واليونانية في قتال دؤوب وشرس ومرير، تجلت فيها صلابة الاسكندر وحنكته العسكرية في آن، وصبره وعناده المميز الذي أدى الى تفوقه على امبراطورية القرطاجيين البحرية. فهل إغفال معركةصور والتركيز على صراع الاسكندر مع بلاد فارس وافغانستان هو نوع من الاستجابة لحاجة الاميركيين اليوم لنوع من التماهي مع <<بطولات>> حروبهم الراهنة ضد العراق وضد الخطر الايراني الافغاني الآسيوي الذي، ربما، بنظر قادة البنتاغون، يحتاج الى قيادة عسكرية اميركية (امبراطورية) تحمل في فوهات <<اسكندرييها>> شراسة الاندفاعة الحصانية التي امتطاها الاسكندر، وركزت كاميرات الفيلم مرارا عليها، والتي تبدو، للأسف، شبيهة بشراسة الكاوبوي الاميركي الممتطي للخيل، مطاردا فلول الهنود الحمر، ومنكلا بهم، تنكيل الاسكندر بالآسيويين؟ صياد وطريدة أليس اسكندر اوليفر ستون شبيها بالكاوبوي الاميركي، الشرس والعنيف، الذي يحمل السيف بديلا من المسدس؟ ومع ان الفيلم يشير ولو بشكل سريع الى انسانية الاسكندر ونبله الفروسي في التعامل مع خصمه داريوس الثالث حين وجده محتضرا، <<كصدام حسين، في براري آسيا>>، وفي اختياره <<الثوري>> المتمرد لروكسانا الافغانية، زوجة له، ضد ارادة المقدونيين، الا ان الفيلم لم يتعمق في تقصي وتصوير هاتين الحادثتين، بل جعل علاقة الاسكندر بروكسانا علاقة الصياد بالطريدة، وحمّل ستون تلك العلاقة عنفا سلوكيا مشكوكا بصحته التاريخية. أما السؤال الرابع، فيتناول اسراف الاسكندر في شرب الخمور، الذي سبّب وفاته، بينما يؤكد اغلب المؤرخين ان الاسكندر مات مسموما. <<فالغول الكحولي>> السكران دائما، يتنافى مع ما استلزمته قيادة الاسكندر لأكبر امبراطورية في العصر القديم، من عقل يقظ دائما وقدرة متفهمة وقادرة على ادارة هذا الكم الكبير من الفتوحات، مع ما يستتبعها من تنظيمات واشتراعات جديدة ومبتكرة، تتناسب مع دور <<الرسالة التمدينية>> التي حملها الاسكندر، والتي يبدو الفيلم مشوّها لأصالتها، ومتجاهلا لعراقتها، وهذه الرسالة كانت تتويجا عسكريا امبراطوريا لحضارة اليونان القديمة في ذراها الاجتماعية السياسية الثقافية الدينية المعمارية. ايضا يتجاهل هذا الفيلم الاميركي اهمية الحضارة الفارسية القديمة الزرادشتية ولا يتناول مآثرها وإنجازاتها، بينما يستفيض في تشويه الحضارة المقدونية الاثينية، يبدو داريوس الثالث مقاتلا جامد الملامح، بلا خلفيات حضارية ثقافية، بينما والحق يقال، ان الحضارة الفارسية ايام الاسكندر، كانت تتويجا ووريثا لحضارات عريقة سالفة، كالفينيقية القرطاجية، وقبلها الكلدانية، وقبلها الاشورية، وقبلها البابلية، وقبلها الفرعونية. ولقد تجاهل فيلم ستون اعطاء تلك الحضارات ما تستحقه من تصوير واهتمام، بل اهمل تأثيرها ودورها في تفتح الحضارة اليونانية وبلوغها ما بلغته من نهوض وتوسع. وكأن الاسكندر الذي كرّمه وامتدحه القرآن الكريم، ليس، بنظر اوليفر ستون، الا نموذجا مرتبكا بسلوك نفسي أهوج ومريض. ولكن من حسنات هذا الفيلم، ان المشاهد يرى صورة حية باهظة التكاليف، للنزعة الفردية التأليهية الاميركية الهوليودية، الساعية الى التسلط على العالم المعاصر وامتلاكه، مثلما امتلك الاسكندر العالم القديم! عقلانية وجنون أخيرا، ربما كانت صورة الراوي بطليموس (انطوني هوبكنز) رفيق الاسكندر الذي حكم مصر بعد وفاة الاسكندر، والذي يقص في الفيلم قصة الاسكندر على تلميذه قدموس، هي الصورة الاكثر عقلانية في هذا الفيلم العابق بالجنون، بينما سائر الشخصيات الاخرى في الفيلم جعلها ستون ادوات لتأكيد الطابع الانتحاري الرومنطيقي لشخصية الاسكندر، المدججة، في الفيلم، بأسلحة القلق والانحراف الوثني، وهو أسلوب صار سائدا في هوليوود، يسعى لتشويه ومسخ القادة التاريخيين الكبار، الذين لم يصنعوا التاريخ بالعنف الدموي فقط، بل بالحزم العنيد، وبالصبر القوي القادر، وبالصلابة الممزوجة بالحكمة وحسن التدبير، وبالإيثار والتخلي الممزوج بالحنكة السياسية، وهي صفات لم يكن الاسكندر الكبير بعيدا عنها، بل أبعده عنها هذا الفيلم المشبوه. السفير اللبنانية في 6 يناير 2005 |