محمد رضا |
"كباريه سعاد" لمحمد سويد.. العطب الجميل للروح عمر عجمي ثمة مفتاحان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، يمكّنان القارىء من معرفة بابَي الدخول الى حياة محمد سويد الفنية: الشغف بالسينما والشغف بالكتابة، وخصوصاً كتابة السينما وفيها وعنها. هذا ما تنضح به قراءة "كباريه سعاد"، روايته الصادرة لدى "دار الآداب". الرواية لكاتبها. وهذا طبيعي بل أكثر من طبيعي. ومهما تكن "الحيل" التي يراوغ بها الكاتب لـ"الاحتيال" على القارىء في التمهيد، فهي لن تجديه نفعاً. فها هنا رواية تفصح عن فداحة ارتماء الراوي في ما يرويه الى درجة التماهي والاتحاد والغوص. ولا سبيل الى تفكيك العرى ولا سبيل الى التخفيف من وطأة الوئام ولا سبيل الى الرؤية إذا عُزل هذا الفعل عن فاعله. الروائي متورط حد التلمظ بما يرويه الراوي. بل حد تقديم الأدلة والبراهين بأنه هو الراوي. كحال العاشق الأعمى الذي لا يرى سوى ما يراه ولا يسمع سوى ما يتناهى إليه. هذا التورط مدعاة الى التملص من "شروط" قد تكون متداولة ومتعارفاً عليها في الكتابة الروائية. فالروائي وإن يكن متخفياً وراء حيله وضمائره وأنواته الأخرى وشخصياته حاضر بشحمه ولحمه، بآهاته وأشواقه، بهلوساته ونظراته، بنقاط ضعفه ونقاط قوته، بأسلوبه ومفاتيح لغته. وهذه كلها أدلة لن تتورع عن الإشارة إليه ورمي التهم عليه. هي تهم الشغف الشديد التبرح، حيث لا خروج من متاهته سوى بالمزيد منه الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. كيف يستطيع الزمن أن يفعل فعله لتهدئة روع هذا الشغف، حين لا يكون ثمة مسافة تهدىء روع الروائي في علاقته بالراوي ومروياته؟ هنا إشكالية تروح تلحّ على القارىء الى أن يجد نفسه هو الآخر وقد انحاز الى الروع نفسه، يضرم ناره ويسعّر أواره الى أن يصير الكل جمراً في جمر الكل. هذا بالضبط ما يجعل الكتابة "حرة" من كل تسمية مسبقة. وهذا ما يجعلها كتابة مفتوحة، لا روائية ولا شعرية، وإنما النوع الذي يشبه نزول الشلال الى جحيمه. هذا ما تنبىء به الكتابة عن سعاد حسني ورحيلها. هذا ما تقوله الكتابة عن عبد الحليم وبرحاء صوته. هذا ما يهمّ بالبوح به شارل أزنافور وداليدا ومارلون براندو وآخرون. وهذا ما لا تنفك تتأوه به المقاطع التي تريد "التأريخ" العاطفي لبيروت ولشارع الحمرا وأهله وصالاته السينمائية، كما للتياترو الكبير، ولطفولة الراوي في خندق الغميق وحي الطمليس. هذه "نماذج" متسرعة ومنقوصة من أحوال شغف سويد بمدينة مراهقته وذكرياته وحربه، ومن أحوال شغفه بالسينما وأبطالها وأمكنتها، تطل على القارىء مثلما تطل أزهار التوليب من تراب الحدائق معلنةً الشغف بالحياة وبالذكريات والأيام المنحلة الى ما يشبه الموت والخواء البارد. لا ضرورة لإعمال سكين التأويل التحليلي والنقدي في حالات كهذه: الشغف وحده هو المعيار. ذلك أن الشغف الذي يصير هجساً ليلياً باختراع الكواكب والنجوم والأقمار والغيوم، يستحيل معه أن ترى الأبطال والشخصيات بعين ليست شغوفة. يستحيل على القارىء أن ينظر نظرة "باردة" الى أيام المراهقة، مراهقة الراوي (الكاتب)، والى سعاد حسني، أو الى قصر البيكاديللي أو الى صالات روكسي ومتروبول وأوبرا والحمرا وسارولا و"خلّي بالك من زوزو"، إذا كانت هذه هي بالذات حدود الوله الذي يلمّ بالراوي. كما يستحيل عليه أن يغض الطرف عن ساحة البرج والساحات الأخرى والشوارع والأزقة وذكرى أفلام ذاك الزمن، وشاشة التلفزيون عندما دخلت على بيروت وبيوتها. هذه "بديهيات" لا سبيل الى التملص من وهج "عواطفها" وطقوسها الراسخة الجذور في أعماق تربة الكتابة لدى محمد سويد. فالكاتب هو نفسه من أهل الشغف، ويريد من كتابته أن تكون شاهداً ليس للسينما وأمكنتها وأبطالها فحسب، وإنما خصوصاً شاهداً للسيرة الذاتية التي عاشها الكاتب متقلباً في أحضان هذه السينما كما في أحضان المدينة التي جعلته وارثاً لفؤادها وجروحها العاطفية. هي كتابة ذكريات وتأريخ ومشاعر ومراهقة وحنين وانتماء الى حياة. هي رواية ذاتية عن أمكنة ومدينة وصورة وحرب وأيام مشلّعة الأغصان والأوراق. لذا يبدو لي أن الكتابة لدى محمد سويد ليست فعلاً ناجماً عن "إرادة" باردة. هي فعل حبّ وعشق وشغف ووجد ووله وتبل وصولاً الى الجنون الناجم عنها أو المرتبط ارتباطاً وثيقاً بها. والجنون هو نفسه نوع من الموت في الأشياء والذكريات والمشاعر من فرط التتيم بها والانتماء اليها وعدم الخروج منها. هذا النوع من الكتابة هو فعل حياة، لا أقلّ. مثله تماماً الفعل السينمائي. كأن قدر هذا الرجل المثقف الرائي العليم الرومنطيقي الرقيق الهش العطوب، أن تعطبه الحياة، حياة السينما وحياة الكتابة وحياة الحياة. هذا العطب يضفي على كتابته عطراً لا يجعلها تتطلب شيئاً سوى أن تلتقي بسيولها وتجري في جحيم أوردتها وصولاً الى حيث تبتغي الوصول. مع "كباريه سعاد" أو مع "ملك السكس"، لا نشعر بأن علينا أن نقرأ شيئاً سوى العطب: العطب الجميل للروح. النهار اللبنانية 27 ديسمبر 2004 |
قال ليون تروتسكي، ذات مرة: "من حق كل رجل أن يكون غبياً بعض الاحيان". ربما قرأ المخرج ستيفن سودربيرغ العبارة حتى كلمتي "بعض الاحيان". المخرج المعروف الذي قدّم في "واجهة كاملة" نوعا من السخرية من الفن لكنه سقط في وحل سخريته، يحاول هنا السخرية من الافلام الترفيهية ويسقط ثانية. "أوشن 12" من افضل الافلام التي تستطيع أن تنام فيها وأنت مرتاح. جرّبه اذا كنت قلقاً فهو فعال. ويجب عدم الاعتقاد أن بقاءك صاحياً سوف يساعدك في فهم قصة مرسومة فوق خريطة من جسور الطرق المتقاطعة. قد تبقى يقظاً في انتظار لحمات قوية وتحديات عظيمة في قصة سرقة اخرى قائمة على مجابهة المستحيل والانتصار عليه. هنا حتى الانتصار يأتي بلا إثارة. أه... صحيح... نتحدث عن فيلم من اخراج ستيفن سودربيرغ. اصحاب الثقافة العالية بيننا لا يزالون يعتقدون أنه حقق فيلماً رائعاً استحق عليه سعفة "كانّ" الذهبية عام 1989 عنوانه "جنس، كذب وأشرطة فيديو". ليس أن قائمته اللاحقة لم تحتوِ على ما يثير الاعجاب، أحدها "كافكا" عام 1991، بعده بسبع سنوات "مختف" و"لايمي". لكن أفلامه التي لا تحقق غاياتها الفنية كثيرة: "شيتزوبوليس" (1997) يذكّرني بوودي ألن في "نهاية هوليوودية" حين يتساءل كيف سيخرج فيلمه المقبل وقد أصيب بالعمى فيرد وكيل أعماله: "ألم تر أفلام اليوم؟". "تهريب" (2000) فيلم آخر حمله النقاد الغربيون فوق أكتافهم حتى قضى وتحوّل الى نعش. "أرين بروكوفيتش" (2000) هو أفضل استعراض تمثيلي قدمته جوليا روبرتس منذ فيلمها الشهير الاول "امرأة جميلة"، لكن هذا هو كل الفيلم. سودربيرغ خطا خطوته صوب التجارة على نحو منفتح من تلك اللحظة وكرر ذلك في العام اللاحق عندما قدّم "أوشن 11": حكاية عصابة يقودها أوشن (جورج كلوني) وتضم احد عشر معاوناً يخططون لسرقة ثلاثة كازينوات في لاس فيغاس في وقت واحد. "أوشن 11" على الاقل احتوى على بعض الحرارة. أما "أوشن 12" فيصل، عملياً، ميتاً. "أوشن 11" سرق قلوب عشاق وجوهه الوسيمة: جورج كلوني، براد بت، مات دامون وجوليا روبرتس (على صغر دورها). أما في "12" فالسرقة الوحيدة الممكنة هي جيوب المشاهدين الذين اعتقدوا أنهم سيحصلون على المتعة نفسها التي وفرها لهم الفيلم السابق فتدفقوا الى الصالات في الاسبوع الاول. بعد لدغة اسبوع الافتتاح تهاوى الفيلم متراجعاً. الكلمة المتداولة من حولي حين شاهدته ثاني يوم افتتاحه يلخصها حوار مشاهدين على مقربة: "هل فهمت شيئاً بوب؟" "لا يا فرانكي. وأنت؟"، "لقد كان إضاعة للوقت". ليّ المستحيل هذا ما حدث. الفيلم السابق سجل 451 مليون دولار. وورنر سألت سودربيرغ اذا كان يكترث لتحقيق جزء ثانٍ. سودربيرغ كان انتهى من تحقيق فيلمين بمنحيين فنيين ("واجهة كاملة" و"سولاريس") أولهما لم يكن ليبيض نجاحاً حتى ولو جلس المخرج عليه دهراً وثانيهما أفضل صياغة، لكن من شاهد الاصل الممهور باسم الروسي الراحل أندره تاركوفسكي يدرك أن سودربيرغ إنما لا يزال خارج الحظيرة. وهو سأل جورج كلوني وباقي المجموعة اذا كانوا مستعدين لتكرار التجربة. الجميع كانوا مستعدين. مع مثل ذلك النجاح الكبير، وتحت غطاء اسم مخرج يعتبرونه مرموقاً من الذي سيرفض؟ "أوشن 12" هو اذاً من افلام السرقة، وشاهدنا في الاعوام الثلاثة الاخيرة ما يكفي منها: نك نولتي يخطط لسرقة كازينو في مونتي كارلو في فيلم نيل جوردان "اللص الطيب". بيرس بروسنان يلوي المستحيلات جميعاً ويسرق لوحة ثمينة في "قضية توماس كراون" ثم بيرس بروسنان، قبل اسابيع قليلة، يعاود لي تلك المستحيلات لسرقة جوهرة فرنسية في "بعد الغروب". ودائماً يتم رسم ملامح اللص طريفاً وخفيفاً وإبن ناس. والمهمة التي هو في صدد إنجازها مليئة بالاخطاء والمصاعب. اما اللوحة او الجوهرة فلا تقدر بثمن. هذا يجعله أشطر قليلاً من اللص السابق. واقل شطارة ممن ستجود بهم أقلام الكتّاب في المستقبل. وحقيقة أن افلام السرقات أتت على كل الحيل الممكنة يجعلها اليوم تلج بنفسها في اللامعقول و"أوشن 12" لا يخلو من ذلك. ليس اللامعقول المحبب في أفلام الخيال العلمي مثلاً، بل اللامعقول الذي ينضح باللا منطق. مثل ذلك المشهد الذي نرى فيه فنسنت كاسل (يؤدي شخصية لص فرنسي اسمه فرنسوا) يتخطى كل خيوط الاشعة الحمراء التي تتلاعب عشوائياً في الغرفة التي تحتوي على الجوهرة التي يريد سرقتها (على شكل بيضة من بيضات سودربيرغ التي لا تفرخ). تراه يقفز ويميل ويستلقي ويقب ويلتوي في الوقت المناسب ليتحاشى كل تلك الاشعة المتراقصة التي اذا أصابته دق جرس الانذار. الجرس الوحيد الذي كان يرن في البال هو أنه مهما تدرّب فرنسوا او سواه على الحركات البهلوانية لا يستطيع أن ينفذ عبر هذه الاشعة الى هدفه. لكن الفيلم يجعله يصل... لمَ لا؟ إنه فيلم. بيضة ثمينة ينطلق الفيلم منتقلاً بين إثني عشر موقعاً مختلفاً ليقدم افراد العصابة، كل في مكانه وزمانه. في اعقاب كل واحد منهم تيري (أندي غارسيا) الذي سرقت العصابة الكازينو الذي كان يديره في الفيلم السابق. الآن هو عازم على استعادة المئة والستين مليون دولار حصيلة العصابة منه (على الرغم من أن شركة التأمين دفعتها) وفوقها الفائدة... شيء يصل الى نحو 193 ألف دولار ولدى ابطال الفيلم ساعتان وخمس دقائق مدة عرض الفيلم ليقوموا بذلك. بعد ساعة ونصف ساعة لم يكن أحد منهم فعل شيئاً بعد، تتساءل اذا كان المخرج لديه ساعة ينظر اليها. جورج كلوني تزوج، بين الفيلمين، بجوليا روبرتس، وبراد بت يعيش مع التحرية كاثرين زيتا جونز، ومات دامون الذي لا يزال يحاول ان يثبت انه اهل للثقة. وهؤلاء الخمسة هم الذين يديرون اللعبة، ما يعني ان دون شيدل وبرني ماك وكايسي أفلك وسكوت كان وكارل راينر واليوت غولد ما هم الا تكملة عدد والواح من الديكور يتبادلون بعض الحوارات ويتحركون في احد المشاهد ثم ينتظرون في الخلفية الى ان يحين مشهد آخر بعد قليل. ولا اعرف ماذا يفعل هؤلاء. ما هو الدور الذي لا يمكن الاستغناء عنه لدون شيدل او كايسي أفلك؟ هل يقع الهرم اذا ما سحبت من بنيانه كارل راينر او اليوت غولد؟ "اوشن 12" لا يشغل نفسه بتفاصيل الخطة لسرقة تلك البيضة (وكان الاجدر تسمية الفيلم "البيضة المسروقة"). يرينا المجموعة ملتفة حول خريطة تشبه خرائط البلدية وأحدهم يشير بأصبعه في هذا الاتجاه وذاك يقول "هنا وهناك". ثم يسأل كلوني اسئلة والجمع يجيبه وانا من المفترض بي ان اصدق ان مواجهة المستحيلات تتم بمسرحية. فوق ذلك لا تراهم يقومون بالمهمة. تراهم في السجن قبل ان تصل جوليا روبرتس لاعبة دور... جوليا روبرتس. لتفسير ذلك جوليا على الشاشة تؤدي شخصية تس اوشن (زوجة داني اوشن الذي هو جورج كلوني) لكن لكي تنقذ زوجها من السجن توافق على لعب دور جوليا روبرتس لأنها تشبهها. حتى بروس ويليس، في دور شرف ومن دون ذكر اسمه في العناوين اللاحقة، يصدق انها هي. هذا الى ان يكتشف امرها فتدخل السجن بدورها، هي ومن كان بقي طليقا. لكن العصابة كلها ستخرج وستفلت وستسرق البيضة الثمينة وسينتهي الفيلم وعلى اللسان طعم مر. سخرية وتهكم لـ"اوشن 12" حسنات. هناك تأسيس صحيح للكاميرا (تصوير بيتر اندروز). استفادة من الشاشة العريضة المختارة له تشغل كل سنتيمتر منها. اللقطات القريبة معبرة وجميلة، والبعيدة اجمل. الازياء لونا وتصاميم من اجمل ما ارتسم على الشاشة هذا العام وتصميم الانتاج (لفيليب ميسينا وهو ما يسمونه مصريا تصميم المناظر) جيد. انها امور مهمة، لكن ما تمنحه للفيلم يبقى ظاهريا. ما يحتاج اليه الفيلم هو كل شيء تحت سطح الظاهر. يحتاج شخصيات عوض الوجوه والحبكة عوض الفكرة، والبعد عوض المناظر الطبيعية. وحين يصل الامر الى ربط الممثلين الرئيسيين بشخصياتهم فانه يكشف عن ضحالة بالغة. في رغبته لأن يبدو الفيلم كما لو كان يقود نفسه الى التهلكة يسمح سودربيرغ لنفسه بالتهكم على ممثليه. ها هو احدهم يتساءل متحدثا عن جوليا روبرتس بعد غمزة عين: "انها مجرد نجمة وليست بابا الفاتيكان الـ...". ربما، والمرء عليه ان يفكر في القصد دائما، كانت الغاية السخرية من افلام الترفيه، لكن حتى لو كانت هذه الغاية حقيقية ومقصودة فهل تعني المضي بهذه السخرية الى حد التسخيف؟ وما الفائدة اذا بدت كل الشخصيات غبية وحمقاء. اذا كانت السخرية هي المقصودة فقد فشل سودربيرغ في معالجتها لتؤدي الغرض الممكن والطبيعي من كل سخرية، وهي ان تلهو وتضحك وتُضحك. اذا كانت الغاية اظهار ان شخصياته سخيفة فانه من شدة لعبه على هذه السخافة وعلى نحو جاف غير مثير او كوميدي، تلون بما يريد لصقه على شخصياته. الفيلم فيه رعونة من يعتقد انه ناجح في كل ما يقدم عليه وبذلك يستطيع ان يغمض عينيه ويفعل ما يحلو له. الآن لنستمع الى باقي حديث بوب وفرانكي: بوب: هل فهمت ما يحاول الجميع القيام به.؟ انه مليء بالثرثرة. فرانكي: اعتقد ان هذا كان واضحا، بوب. كانوا يحاولون تقاضي اجور عالية على حسابي وحسابك. بوب: لقد فهمت اكثر مني اذاً... النهار اللبنانية في 27 ديسمبر 2004 |