پولانسكي يصوّر "أولير تويست" في پراغ
ترجمة: ليليان حاتم |
كان رومان پولانسكي يحلم بإخراج فيلم لاولاده، وليحقق حلمه صوّر فيلم "أولير تويست" لتشارلز ديكنز (يت وقع عرضه في تشرين الأول 2005 ) في استوديوات باراندوف في العاصمة التشيكية حيث اعاد بناء احد شوارع لندن القديمة. تقول كاترين هوك قلقة: "احذر الاصابة بلفحة شمس"! وهي السمراء الجميلة الطويلة القامة مربية بارني كلارك الصبي المتأنق كاللورد الذي غادرها بلا استئذان. أشعة الشمس محرقة في منتصف شهر ايلول ولا يستطيع اولير تويست ان يسمح باسمرار بشرته وهو يتيم رواية ديكنز التي يقتبسها پولانسكي في فيلم يصوّره منذ واحد وخمسين يوماً. وعد الصبي ذو الاحد عشر عاماً واللطيف المستعجل ان يحترس من اشعة الشمس، وهرع مسرعاً الى الملعب الأكثر روعة الذي لم تطأه قدماه قط في واد حيث يبسط احد شوارع لندن الرئيسية القديمة احياءه الصغيرة وازقته وطرقه المسدودة ومفارقه. نحن في استوريوات باراندوف، فوق تلة مشرفة على پراغ يلفها ضباب حار. عند سفح التلة، في عاصمة بوهيميا الجميلة قطيع من البقر البلاستيكي نشره معرض فني معاصر في جاداتها وصولاً الى جسر جورج. أما في الاعلى، فلا أبقار بل رسم وهمي رائع لكلاب متنوعة وحشد من الاولاد المبتهجين الذين يعتبرون انفسهم الهنود الاباش الحمر. من يستطيع مقاومة تلك المباني العديدة المتلاصقة المصنوعة من الخشب والحجارة، ومن اللبن والآجر، المعوجّة او الممشوقة، المتصدعة او الجديدة؟ نرى من الخلف روافد مشبكة تدعم السراب وكأنها دعائم منجم. التأثير مدهش حين نقف وسط الشوارع على بلاط استقدم من اقاصي بلد طرقه معبّدة. لا يخطئ الاولاد حين لا يطيلون الاقامة في الكواليس بل يفضلون الوهم على ورشة النجارين والبنائين التي لا يتوقف فيها العمل. يراقب هذه الاعمال ألان ستارسكي مهندس الديكور المفضل لدى رومان پولانسكي. نظرة هذا البولوني الاصل، شأنه شأن مموّله، ساخرة مثل نموذجه الذي ابتكره الاخوة ماركس. فهو لا يفارق المسرح حرصاً على خلو الاعمال من اي عيب. لم يبن ستارسكي مدينته اللندنية في يوم واحد. امضى عاماً مفكراً فيها، باحثاً في المتاحف، مستمتعاً بعمق رسوم غير مطبوعة كي يصف زمن ما قبل التصوير الشمسي، خاصة رسوم غوستاف دوريه التي ساعدته كثيراً في رسمه الحكائي. تطلّب منه بناء هذا المسرح ثلاثة اشهر وفريق عمل من اربعمئة شخص حيث اقتضى كما قال ستارسكي "التأرجح بين الواقعية والحلم، ورؤية لا انعكاس الماضي فحسب بل الرؤية التي تمكّن عيني الولد الصغير اولير من تصور المكان". كما ينبغي الوفاء لحب پولانسكي الهوسي بدقة الاصالة. اراد المعلم ان تظهر كل المباني من القبو حتى السطح، وان يصعد الدخان من كل مدفأة وان تعمل المصابيح حقيقة على الغاز. تفحّص ستارسكي السماء فوجدها زرقاء صافية الى حد ان اللقطات ستستغرق وقتاً طويلاً. اختار التصوير في الحظائر العالية التي تضم منازل شخوص الفيلم جميعها، معللاً: "لكل ديكور ان يظهر مكان وجود الشخوص تماماً". عودة الى اشعة الشمس التي لا تنفك تزعج المصورين والتقنيين الذين اختاروا التصوير عند غروب الشمس عوضاً عن شروقها. يتوافد الممثلون في فيلم "أولير تويست" لتناول الطعام وطغى عليها اللونان البني والرمادي الدالان على القذارة. امهات معتمرات قبعات لكن منتعلات احذية "نايكي" يدفعن عربات تؤوي اطفالاً من قماش يصرخون. في احدى زوايا المسرح تتحقق الشقراء أنّا شيپرد من حسن تناسق ازيائها. تعاونها الثاني مع مواطنها پولانسكي يسرها كثيراً اذ يتفاهمان بالاشارة الى حد انه تمت الموافقة على تصاميمها كلها بلا استثناء من النظرة الاولى، مما يشكل حدثاً نادراً بالنسبة الى مجموعة ملابس تزيد على الثمانمئة قطعة. كي تعد ازياء تشبه الحقيقية، بحثت أنّا في جميع متاجر الملابس الرثة في لندن واستدعت خياطاً صينياً متخصصاً في الموضة الفكتورية. لكن حيازتها العناصر الجيدة لم تقها من بعض الحوادث الطارئة المزعجة. وقف معدمون صغار قرب مطاعم المسرح يتناولون شطائر كبيرة. لم يُعرف من اعطى الاشارة، لكن الحشد بدأ يسير فجأة وصهلت الجياد وانتظم كل شيء. انها السابعة مساء، رُشت الطريق بخراطيم المياه فأمست زلقة وموحلة. وصرخ رجل بمكبر الصوت وعزف مهندس الصوت على البيانو معتمراً قبعة بحّار على شعر طويل مربوط. وتمر فترة من الوقت، اذ يستغرق تحضير اللقطات السينمائية ساعات طويلة. يركض الاولاد في كل اتجاه. التحقوا بصف اليوم كالعادة، ثم علمهم مارتن رولاند الخفيف اليد دس ايديهم الصغيرة في جيوب البورجوزايين لسرقة اموالهم. وتم تبريج هؤلاء الصغار فبدوا شاحبي الوجه، وها هم يصغون الى ارشادات المخرج الذي شاهد اللقطات المصوّرة في الليلة السابقة. عاد پولانسكي في سيارة الغولف يقودها في طيش، وها هو يمثل المشهد ايماءً متسلقاً السلالم التي سينزلها الاولاد لاحقاً في صخب. پولانسكي في كل مكان وهو الجميع في آن واحد. يقلّد كل اصوات الممثلين بالانكليزية في نبرة قاطعة مظهراً كل إمالة صوتية حتى الدقيقة منها. حلّ المساء ملتحفاً وشاحاً ضبابياً، فانتقل جميع المشاركين من شارع كينغ الى احياء البؤساء اللندنية، وتمركز فريق العمل في طريق مسدود موحل تضيئه مصابيح ضخمة ساطعة. تجمّع حشد من الفاسقات والحافيات القدمين امام الحوانيت الصغيرة، بينما جلس البعض في مطعم. فجأة يظهر فاجين، فينتصر الوهم مع هذا الاحدب الملتف بقماش رثّ يغطي رأسه وينسدل على كتفيه. لا بد انه كان معطفاً قبل خمسين عاماً. يستحيل التعرّف الى السير بن كينغسلي مقنعاً، كما يصعب ايجاد ممثل يفوقه سعادة. ففي عصر ذلك اليوم، احتج كينغسلي في مقابلة قصيرة اجراها قبل ان تحوّله مبرّجته الى عجوز على العصر الذي ينظر الى هؤلاء اليافعين يتنشقون المخدرات من دون ان يطلق اي "ديكنز" صفارة الانذار، وافتخر بمشاركة صديقه پولانسكي في التجسيد العصري لأب "الآمال الكبرى" كما تحدث كينغسلي لاحقاً عن الرسالة الرائعة التي وجهها المخرج الى فريق عمله والتي يطلعهم فيها على طموحه الى انتاج فيلم لأولاده واهمية ألاّ يخذلهم، ورغبته في صنع هذه الهدية لأجيال المستقبل. فمع مساهمة فاجين البارع جداً، تعد الهدية بأن تكون ملكية. (من "لوفيغارو ماغازين") النهار اللبنانية في 20 ديسمبر 2004 |