كريستيان غازي عن السينما فنّاً كاملاً ولغة حياة:
رانيا الرافعي |
أَلَمُ سينمائيٍٍّ منسحب جورج كعدي لم أقرأ لسينمائي كلاماً ينضح ألماً كالذي قرأته للسينمائي اللبناني كريستيان غازي في الحديث معه أدناه، ونادراً ما نقع على مثل هذا الكلام الأليم والعميق والعارف والمثقف في آن واحد لدى الكثير من سينمائيينا الذين لا يتملكهم القلق الذي يهجس به غازي ويحضّ عليه محرّكاً وحافزاً. والمأساة تتجلّى بدءاً في فَقْد كريستيان غازي افلامه – ما خلا واحداً منها هو "مئة وجه ليوم واحد" – التي انجزها في ستينات القرن الفائت وانطوت على نظرة اجتماعية وسياسية ذاتية جريئة استدعت من السلطة الجاهلة الاقدام آنذاك على حرقها، فمن غير المسموح لسينمائي في مجتمع متخلّف، ضيّق الصدر والفهم، محتقر للفنّ وأشكال التعبير الحرّة، ان يعرض نظرته المختلفة الى الأمور، وإن في شريط وثائقي أُريدَ أن يكون سياحياً ذا صورة "زهرية" عن الوطن، فتجرأ كريستيان غازي وولّف نظرته الخاصة من فقراء مزارعين وأثرياء يرتادون الكازينو لتبذير أموالهم على موائد الميسر الخضراء. عوقب السينمائي على صدق نظرته اذن، وكانت بداية المأساة. كريستيان غازي، منذ سنين عديدة، رمز السينمائي المنسحب الى المقهى وهامش العيش والانتاج، قرفاً واحتجاجاً على جهل مستفحل في اوساط الجمهور، وعلى سلطة لامبالية بالفنون والسينما، جاهلة ومستبدة. هو ايضاً رمز السينمائي المثقف والطليعي الذي صادق كريس ماركر المجدِّد وسينماه. سينمائي سابق لزمنه – من غير ان يسعى او يطمح الى ذلك – يضطهد وتحرق اعماله مثلما حرقت الكتب في "فاهرنهايت" تروفو. هو من الرموز الاولى اذن للسينمائيين المضطهدين، ولعله النموذج الاوحد الذي يتعرض لمثل تلك الاجراءات في تاريخ لبنان الحديث. ولا عجب بعدئذ ان يصيبه القرف والاشمئزاز فينسحب الى الصمت والتأمل. أبعد من المأساة الشخصية، ينفرد كريستيان غازي بآراء قيّمة وأفكار صريحة ينطق بها بلا مواربة، كقوله الصادق والصحيح ان لا قلق لدي سينمائيين الشباب، ذاك ان غازي ينتمي الى ازمنة الاجيال الملتزمة، سياسياً واجتماعياً، فكرياً وانسانيا، وجيله كانت تحرّكه الافكار أولاً قبل الحرفة والاتقان... جيل قلق كانت له افكاره وثقافته وقضاياه، وكان يختار ادوات تعبيره بين مسرح وتشكيل وسينما، انما دوما في دائرة الالتزام والتعبير عن همّ وموقف وقضية. من هنا شعور كريستيان غازي بالغربة عن اجيال راهنة من السينمائيين الشباب الذين لا يلمس لديهم فكراً وقلقاً والتزاماً، بل هم مهتمون بظاهر التعبير ومفتونون بالتطور التقني وبالشكل على حساب المضمون، أي القول والخطاب الذاتيين الموكول الى السينما ايصالهما كمجرد اداة تعبير. ويشير كريسيتيان غازي الى غياب الحوار في المجتمع اللبناني ذي النزعة "المونولوغية"، كذلك عدم محاورة السينمائيين انفسهم واعمالهم. واذ كان أول المتّهمين في سينماه للمثقفين البورجوازيين فلنا أن نخال موقفه اليوم من "الطبقة" الجديدة لاولئك المثقفين الذين لم يبقوا منظّرين ومتلاعبين بل اضافوا الى "خصالهم الحميدة" الطائفية والمذهبية وثقافة المتاريس في المقهى والشارع والمنتدى وعلى شاشات التلفزيون التي تملأ الهواء بترهاتهم وهذيانهم المستفحل. السينما التي صنعها كريستيان غازي، الوثائقية في معظمها تصنيفاً وتسمية، هي أبعد من النوع والتصنيف لأنها مرتبطة بالحياة وواقعها لا بالوثيقة وحدها. وكان سينمائياً طليعياً وسابقاً لزمنه، مثقفاً واعياً وملتزماً، لجأ الى لغتي الصوت والصورة اللتين كانتا بلغتا ذروة الاقتران التعبيري مع "الموجة الجديدة" الفرنسية، ومع سينما كريس ماركر وجان روش [سينما الحقيقة] ودزيغا رتو ["السينما العين" و"السينما ارتجالاً"] وآخرين. أي تلك السينما المتصلة عمقاً بالنظرة والاحساس بالكاميرا اداة تسجيل للافكار وانعكاس لمرآة الروح. هكذا يفهم كريستيان غازي السينما قلقاً وحواراً مستمراً مع الذات والعمل المنجز، ومن ذلك رفضه للسينما الزهرية اللون [روز بونبون] والاستجابة لرغبات الجمهور وغرائزه السطحية. السينما له، فنّ كامل وكبير، فنّ تعبير وهوس وقلق، فنّ احساس بالحياة والاشياء. ويا لها من نظرة واعية، مثقفة، مرهفة، الى السينما فنّا مكتملاً ولغة حياة. تحيّة حب وتقدير اليك كريستيان غازي. النهار اللبنانية ـ 20 ديسمبر 2004 |
اشتغل كريستيان غازي [مواليد 1934] في الفلسفة والموسيقى، وكتب في جريدة "لوسوار"، وعمل مخرجاً في "تلفزيون لبنان والمشرق" حيث انجز اثني عشر فيلماً وثائقياً عن السياحة في لبنان كان مصيرها الحرق بأمر من السلطة أنذاك اذ خلط بالصورة والصوت واقع المزارعين الفقراء في البقاع والجنوب مع اصوات الساهرين في الكازينو. وفي 1988 اقتحمت احدى الميليشيات منزله ودمرت كل افلامه ومكتبته واسطواناته. واحد فقط من افلامه نجا، عنوانه "مئة وجه ليوم واحد" عرض في دمشق ضمن مهرجان السينما البديلة عام 1970 ونال جائزة النقاد. وبالامس القريب أعاد مهرجان السينما الاوروبية في بيروت عرض الفيلم في حضور المخرج الذي يعتبر "مئة وجه ليوم واحد" مانيفستو السينما الخاص به. ولكريستيان غازي فيلم وثائقي جديد نسبياً عنوانه "نعش الذاكرة" ويعود الى عام 2002. يرى كريستيان غازي الى السينما فنّاً كاملاً، ويحاول تصوير أفلام وثائقية بلغة تترجم احساسه شكلاً ومضموناً. · ماذا دفعك الى العمل في السينما؟ - الموسيقى والكتاب. اردت لغة تعبير اكثر كمالاً، لذا اتجهت نحو المسرح فوجدت انه ليس كافياً، فتحولت الى السينما التي لم ادرسها أكاديمياً، بل شاركت في دورات مكثفة وورش عمل كثيرة بين فرنسا وبراغ. · وما كانت صعوبة العمل السينمائي آنذاك في لبنان؟ - كانت مثل اليوم. لا تزال الصعوبة نفسها ووضع الانتاج هو نفسه. لا يملك لبنان صناعة سينمائية، لذا من الصعب تصوير الافلام في غياب الحافز. الصناعة السينمائية لا ينقصها العنصر البشري لأنه موجود، انما ويا للأسف في شكل سطحي. العنصر الشبابي الذي اعرفه جيداً واتعامل معه، نادراً ما يعمل على نفسه. فالشباب العاملون في السينما لا قلق لديهم، أي انهم لا يتساءلون حول اعمالهم ولا يعيدون النظر فيها. للسينمائي ان يكون في حوار دائم مع اعماله. من النادر ان اشاهد اعمالاً طالبية او شبابية جيدة. التفكير لا المرجع · ما هي مراجعك في السينما؟ - ليس هناك من مرجع في السينما، بل هناك التفكير. أقدر الكثير من السينمائيين، كريس ماركر مثلاً الذي اعرفه شخصياً ولم تربطني به الصداقة فحسب، بل نوعية العمل. أحببت ما يفعله، مع انه ليس بالضرورة على صلة بنوعية اعمالي. · "مئة وجه ليوم واحد" الذي عرض في مهرجان السينما الاوروبية والناجي من الحرق والتلف هل تعتبره فيلماً وثائقياً؟ - بلى، صورت "مئة وجه ليوم واحد" للتأكيد على وجهة نظر ان الوثائقي ليس بالضرورة الوثيقة بذاتها. بقدر ما ترتبط الوثيقة بشيء آخر بقدر ما يكون العمل الوثائقي اكثر تطوراً. في فيلمي استخدمت لغتي، لغت الصوت ولغة الصورة، كذلك الوثيقة وغير الوثيقة. اعدت بناء الوثيقة اي بنيت عمليتي من دون ان اذهب في عملية واستشهد. · لِمَ استعملت في الفيلم ذاك التفاوت Asynchronisation بين الصوت والصورة؟ - لم أبحث عن لغة أكون فيها Avant garde، بل ما كان يهمني هو الشكل الذي يخدم المضمون وينسجم معه، ان في لغة الصوت او في لغة الصورة. اردت قول شيء، خاصة حول علاقة الصوت بالصورة. الـAsynchrone خلقت نوعاً من الجدلية. · لاحظت ان عنصر الازعاج يأتي من الشريط الصوتي لا من الصور. لم هذا الخيار؟ - صحيح، تعمدت ان يكون الشريط الصوتي مزعجاً والعنف الذي يحويه الفيلم موجود في الحوارات. سابق لزمنه · هذا الخيار في التركيز على الصوت سابق لعصره؟ - لم أبحث عن سبق عصري، بل بحثت عن التعبير بلغة تخصني. وُجِهت إليّ الانتقادات بعد عرض الفيلم بأني لا أصنع الوثائقي كما هو متعارف عليه، وهذا أمر يحزنني. اعمالي تشبهني وليس لها ان تشبه الآخرين. لكن الحوار في لبنان ليس موجوداً على كل المستويات وفي كل الميادين. الناس هنا في مونولوغات دائمة ثم يصمتون ولا يسمعون ابداً الطرف الآخر لم يتعلم اللبنانيون بعد ماهية الحوار. الحوار في "مئة وجه ليوم واحد" هو مع المشاهد. حاولت ان أكون في تفاعل دائم مع المشاهد من خلال الموسيقى والشريط الصوتي كي لا يرتاح ويبقى يقظاً. · اي انتقادات اجتماعية وسياسية ينطوي عليها "مئة يوم لوجه واحد"؟ - اهاجم في الفيلم طبقة المفكرين البورجوازيين وخطر هذه الطبقة لأنها تتخذ قرارات ومبادرات تذهب بحياة الكثيرين بينما هم في بيوتهم مرتاحون. يقررون حياة الآخرين بحسب مزاجهم. · استعمالك للظلال في الضوء والكادر المبتور خيارات غير عادية لزمن انجاز الفيلم. - هذا الفيلم هو بياني التأسيسي، أي المانيفست الذي يرفض سينما الترفيه enterainment. ارفض السينما الزهرية اللون. فهذا النوع من السينما يعتمد على الكذب، بل الكثير من الكذب على الجمهور. السينما البديلة · كيف نستطيع ايصال السينما البديلة الى الجمهور؟ - هذا النوع من السينما لا يصل، ويا للأسف. انه خيار صعب جداً اتخاذه، فإما ان تصنعي السينما الزهرية اللون وتحققي النجاح، او ترفضين هذا النوع من السينما وتفشلين. أنا ارفض المساومة في السينما اذ اعتبر ان السينما، الى الآن على الاقل، هي اللغة الاكثر تعقيداً وكمالاً ومن المشين ان نشوه هذه اللغة. · هل توقعت ان يحب الجمهور فيلمك بعد مرور كل هذه السنين؟ - كلا، توقعت ان يرفضه الناس، وهناك الكثير منهم انزعج وغادر الصالة. · هل ازعجك ذلك؟ - كلا، اعتدت هذا الأمر. · لماذا توقفت فترة طويلة عن صنع الافلام؟ - عندما احضروا لي نسخة "مئة يوم لوجه واحد" تحمست لتصوير الأفلام من جديد وانجزت في 2002 "نعش الذاكرة" الذي استخدمت فيه لغة اكثر بساطة من "مئة وجه ليوم واحد" وطريقة لانتقاد ما يحصل حولنا والقول ان الامور ليست كما نعتقد. · وما الدافع اليوم الى مواصلة العمل السينمائي؟ - انه في شكل اساسي الاحساس بالاشياء، نشعر بالعمل السينمائي أو أي عمل نقوم به. الاحساس أهم عنصر للقيام بأي شيء. النهار اللبنانية في 20 ديسمبر 2004 |