شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

أزمة الضمير في السينما الأمريكية

سفّاحون يبحثون عن مستقبل يغسلون فيه ماضيهم

رؤى: إبراهيم نصرالله

 

 

 

 

 

 

خلال السنوات العشر الأخيرة ظهرت مجموعة من الأفلام، يربط ما بينها خيط واحد، وقد باتت تشكل محورا أساسا في السينما الأمريكية لفرط تكرار معالجاتها بصيغ مختلفة، لموضوع واحد، وعبر عدد من الأفلام لممثلين مشهورين ومخرجين لهم إسهاماتهم إن لم يكن على مستوى الفن، فعلى مستوى شباك التذاكر.

ونقصد بهذه الظاهرة ما يمكن أن نطلق عليه اسم (أزمة الضمير في السينما الأمريكية) ويمكننا أن نتأمل مجموعة من هذه الأفلام، بدءا من فيلم سابق لها هو (يرقص مع الذئاب) وانتهاء بأفلام مثل (الوطني) لميل جيبسون، (الساموراي الأخير) لتوم كروز، (رجل فوق النار) لدينـزل واشنطن، (النطاق المفتوح) التجربة الإخراجية الباهتة الأخيرة لكيفن كوستنر، ومن بطولته، (دموع الشمس) من بطولة بروس ويلس للمخرج انطواني فيوكا الذي سبق له أن قدم فيلما رائعا هو (يوم التدريب)..ويمكن أن يمضي المرء بسرد نماذج أخرى ولكن هذه الأفلام قادرة على إضاءة هذه القضية.

إن (أزمة الضمير) قائمة باختصار في ماض مشين ساهمت في صنعه هذه الشخصية أو تلك، وعذبها إحساسها بالذنب بعد ذلك، ولهذا فإن الأحداث التالية لارتكاب الجريمة هي حكاية الفيلم، وغالبا ما تحضر الجريمة في مشاهد استرجاعية، أما طبيعتها فهي ذات صفة عامة، أي جريمة (وطنية) إن جاز التعبير، لها علاقة مباشرة بمتطلبات العمل وفكرة الواجب ومصير الأمة.

لقد كان فيلم (يرقص مع الذئاب) فيلما استثنائيا في حينه، فقد أدرك بطله منذ البداية أن أعداءه ليسوا أعداءه الفعليين، وأنهم ليسوا همجا، ولذلك اختصر الأمر كله والتحق بهم، ودافع عنهم، ولعل عديد الأفلام الذي تبعه كان يتوسل نجاحا وتأثيرا كاللذين نالهما هذا الفيلم، لكنه لم يُكرر بعد ذلك.

ويمكن أن نبدأ هنا بفيلم (الوطني) إذ تتمثل جملة الافتتاح على لسان بنجامين مارتن بطل الفيلم) ملخصا معبرا عن هذه الأزمة، يقول بنجامين: طالما كنت أحس بأن آثامي ستعود وتواجهني وأن ذلك سيفوق طاقتي.

لقد رأى بنجامين ما لم يره الآخرون من ويلات الحرب، ولأنه يدرك أنها ستدق نوافذ البيوت، بيوت الجميع، ولن تكون بعيدة أبدا عن أعين الأطفال، وقد خاض غمارها ذات يوم وكان نجم مذبحة كبرى ارتكبت في قلعة (ويلدرنيس) ضد التحالف الفرانكو ـ هندي (الهنود الحمر)، ردا على مذبحة قام بها هؤلاء. لكن ما قام به بنجامين، والذي يُعامل طوال الفيلم كبطل حقيقي لا يُجارى بسبب تلك المذبحة بالذات، لم يكن قد توقف عند حدود القتل، بل قام باقتلاع الأعين والأصابع والآذان والألسن وملأ بها سلالا كثيرة وأرسلها إلى الهنود الحمر الذين اندفعوا فورا من هول الفزع إلى فك التحالف مع الفرانكوفونيين.

وإذا ما تذكرنا الطريقة التي صورت بها أمريكا حجم همجية الهنود الحمر في أفلامها وفي تاريخها الرسمي، فإن من الواضح أنها ودون أن تدري ترد على نفسها هنا، حين تصور الهمجية المرعبة التي ارتعدت من هولها فرائص الهنود (المتوحشين) مما دفعهم لإعادة النظر في معاهدات وقعوها.

 ليس بنجامين مارتن، سوى نموذج آخر، وإن بدا مغلفا بالعلاقة الطيبة مع أبنائه، حقله، وسعيه الدائم لصناعة كرسي هزاز يسترخي عليه، ويفشل حتى في محاولته الثاثة، حيث يتحطم الكرسي في كل مرة، في إشارة ذكية، بلا شك، لاستحالة ذلك، أمام شعوره بالذنب الذي تكثفه تلك الجملة التي يفتتح بها المخرج فيلمه.

يعيد الفيلم منذ البداية صياغة شخصية بنجامين مارتن، بما يتلاءم مع الدور الذي ينتظره، دور البطل الذي ستغفر له انتصاراته خطاياه كلها، ماضيه كله، من خلال فجيعته بموت ولديه الكبيرين على يد العقيد الإنجليزي القاسي، هذه الفجيعة التي يشكل أحد وجوهها قربانا لمغفرة قد يستحقها السفاح.

وبدرجات متفاوتة، تحضر القضية في أفلام تالية، ففي فيلم (الساموراي الأخير) نعيش الحكاية ذاتها، والمشاهد الإسترجاعية ذاتها التي كان يمكن أن يتبادلها الفيلمان دون أن يحدث أي خلل، فتوم كروز الذي يؤدي شخصية عسكري في الفيلم، يلاحقه ماضيه ويعذبه ويغرقه في دوامة من الكوابيس والانهيار الذي يمثله إدمانه وفزعه من الماضي الذي يلاحقه، وهكذا نجده يقبل بصفقة للذهاب إلى اليابان، وهناك يدخل في معارك استثنائية، وتبرز أخلاقيات لم تكن المرحلة السابقة تشير إلى وجودها، وشجاعة انتحارية، ما تلبث أن تهدأ تدريجيا وهو يعالج نفسه بحرب أخرى بدأ يؤمن بها.

أما إذا انتقلنا للأفلام الثلاثة الأخرى: دموع الشمس، النطاق المفتوح، رجل فوق النار، فإن أزمة الضمير كبيرة وقاتلة، ولكن هذه الأفلام توحي بها، أكثر مما تقولها، لكن الخلفية العامة للشخصيات الرئيسة تشير على أنها ذات ماض عسكري.

في دموع الشمس يقول ويلس: علنا نكفر عن الخطايا التي ارتكبناها.

والفيلم يتناول حكاية قائد وحدة مكلفة بإنقاذ طبيبة وراهبات يعملن في مستوصف طبي وسط الأدغال الأفريقية، وحين يصل إلى هناك يكتشف أن الطبيبة غير مستعدة للتخلي عن مرضاها ومن يعملون معها، فيخالف الأوامر ويبدأ عملية إنقاذ كبرى وسط مطاردات دامية تخوضها (عصابات ضد الديمقراطية).

وويلس في الفيلم شخصية صموتة كحال الشخصيتين في (رجل فوق النار) و(النطاق المفتوح) ومعذبة بعمق أكبر لأن ما ارتكبته أيديها يبدو أكبر وأكثر فظاعة من أن يقال، أو يسرده الفيلم من جديد.

في فيلم النطاق المفتوح يحذر كوستنر المرأة التي أحبته بأنه رجل صاحب ماض مؤلم، ولذلك نراه طوال الفيلم باحثا عن فكرة تحقيق العدالة بأي طريقة، كما لو أنه في هذا يعيد ترتيب ماضيه من جديد ويطبق العدالة (باندفاعه المتهور) على زمن مضى.

أما الفيلم الذي يختلف قليلا عن هذه الأفلام فهو فيلم (رجل فوق النار) ويؤدي فيه دنزل واشنطن واحدا من أجمل أدواره، دور رجل عسكري تحول إلى حارس شخصي لأسرة مكسيكية حتى يحمي الابنة الوحيدة لها، وطوال الفيلم نلاحظ أن البطل يبذل كل جهده من أجل النجاة من علاقة إنسانية ابوية صادقة مع الطفلة، وهي طفلة ذات حضور، ذكية وقادرة على فرض نفسها، وفي الليالي نراه يستل مسدسه، الذي يحمي به الفتاة الصغيرة نهارا، محاولا أن ينتحر، لكن ذلك لا يتحقق. وهو مثله مثل توم كروز في الساموراي الأخير غارق في إدمان ينخره ويحاول به ترميم روحه.

في هذا الفيلم، يتجاوز حس الذنب كل حس سبق وأن عالجته الأفلام السابقة التي انتهت نهايات سعيدة، حيث أعاد المذنبون ترتيب حياتهم، بعد أول فرصة صحية أتيحت لهم. بعضهم فاز بالبطلة الجميلة كما في النطاق المفتوح، وبعضهم أوحى الفيلم منذ البداية انه سيفوز كما في (دموع الشمس) حيث البطل بات محط أنظار الحسناء التي تؤدي دورها مونيكا بولوتشي.

أما في (رجل فوق النار) فحين تختطف الفتاة من بين يديه، ويقوم بحملة تطهير مرعبة ضد العصابة، مما يدفع رئيسها للحقد عليه بصورة استثنائية بعد أن قتل له أخيه، فإن البطل يقوم بتسليم نفسه للعصابة مقابل الفتاة، وهو يعرف جيدا أنهم سيحولونه إلى أشلاء، كما وعدوه!!، ولكنه يستقل العربة التي جاءت لأخذه باستسلام رجل وجد أن ميتة صعبة كهذه هي وحدها التي تمحو آثامه.

ولكن، ما الذي تريده هذه الأفلام حقا، وثمة معارك لا تنتهي تشنها أمريكا ضد شعوب الأرض أو تدعمها؟

 إن الملاحظة الأساس التي يمكن أن يخرج بها المرء هنا هي أن هذه الأفلام هي بمثابة رسائل للمجتمع الأمريكي، والجندي الأمريكي بشكل خاص، تريد أن تؤكد له مسألة بات يظن أنها لم تعد جزءا من تكوينه، وهي الدفاع الحقيقي عن قضية حقيقية، تريد أن تقول له: إنك جيد في الأصل، وحين يتاح لك أن تقوم بالأمر الجيد فإنك لا تتأخر عن ذلك، وأن ما سبق هو شكل من أشكال ظروف فُرضت علينا وعليك!! لكنك في الحقيقة جندي (العدالة العالمية) من اليابان شرقا مرورا بأفريقيا أمريكا اللاتينية حتى براري بلادك المفتوحة.

ولعل فيلم (رجل فوق النار) يشكل الاختلاف الشجاع، فالجريمة أكبر من أن يمحوها أي فعل لاحق لها، لأنها جريمة كبرى، والشيء الوحيد الذي يمحوها هو أن يذهب المجرم في تطهره حدا يدفع فيه حياته ثمنا لما ارتكبته يداه.

لأن الكرسي الهزاز لا يمكن أن يكون قد أُخترع لاسترخاء القتلة.

الأيام البحرينية في 19 ديسمبر 2004