ريما المسمار |
"بريدجيت جونز: حد المنطق" يعيد الشخصية الى الشاشة في جزء ثانٍ بعد ثلاث سنوات طريق مسدود أمام فرادة الشخصية وحبكة هوليوودية تُخضٍعها لشروطها ريما المسمار قبل ثلاث سنوات ووسط الموجة العارمة المستمرة لأفلام الكوميديا والكوميديا الرومنسية، بدا ان هوليوود غير مستعدة للاعتراف بشخصيات نسائية سينمائية تخطت منتصف العشرين. فجهود الكتاب تنصب على اجتراح ادوار للمراهقات وسعي المنتجين يتركز في اكتشاف الوجوه الشابة الجديدة كرمى لعيون جمهور المراهقين الذي بات يشكل الشريحة الكبرى بين رواد السينما اينما كان. وسط تلك الموجة، برزت "بريدجيت جونز" الشابة الثلاثينية العازبة في فيلم "مذكرات بريدجيت جونز" BRIDGET JONES'S DIARY التي وان لم تكن نموذج الفتاة الاميركية، ولكنها علي الاقل شكلت نموذجاً مختلفاً للمرأة في الافلام السائدة المعاصرة. لعبت الدور الممثلة رينيه زيلويغر بلهجة انكليزية تناسب اصول الشخصية واكتسبت من اجلها بضعة كيلوغرامات، اعتُبرت زائدة وفائضة بحسب المقاييس التي تحكم العالم المعاصر الذي تعيش "بريدجيت" فيه. وفي ذلك اقترب الفيلم عن رواية هيلين فيلدينغ من ان يكون نقداً ساخراً لهوليوود وافلامها حيث ان كل ما تشتهيه "بريدجيت" مستقى من الصورة التي تعززها هوليوود ولكن ما تحصل عليه في الواقع ليس الا.. واقعاً! لذلك بدا من المنطقي ان يبدأ الحديث على جزء ثانٍ فور انتهاء الاول. فالهدف الاساسي هو بالطبع استثمار النجاح الذي حققه الفيلم والشهرة التي حظيت الشخصية بها. ولكن بعيداً من تلك الحسابات ومجاراة للمنطق الداخلي الذي حكم الفيلم، بدا طبيعياً الا تكون النهاية السعيدة للجزء الاول حيث تعثر "بريدجيت" على فتى احلام من صور الخيال نهاية المطاف وان بقيت النهاية الاولى خاصة بحكم "الانسجام" غير المعترف به الذي حل بين "بريدجيت" المرأة العادية و"مارك دارسي" (كولن فيرث) رجل الاحلام. ولعل من نقاط القوة في الجزد الاول ان "بريدجيت" لم تخضع لتحولات العصر لتلائم فتى الاحلام. بل بقيت علي صورتها وشخصيتها واضحة العيوب تشديداً على ان دارسي يحبها "كما هي". ولكن للأسف، لم يرقَ الجزء الثاني في عنوان Bridget Jones: The edge of Reason الى مستوى الاول. لعله لم ينحدر الى المستوى الذي تصله الاجزاء اللاحقة في افلام الجزئيات محافظاً على حد ادنى من المستوى الكوميدي، الا انه لم يضف شيئاً الى الاول بل ربما اسهم في تمويه ملامح شخصية "بريدجيت" المتفردة. كأن تلك الشخصية التي وُلدت بشيء من الفرادة والخصوصية، وصلت بين ايدٍ تقليدية الى مكان مسدود. فالجزء الجديد يحتار في اقتناص المشكلات بين "بريدجيت" و"دارسي" ويميل الى حبكة هوليوودية ضارباً عرض الحائط بالافتراض الاولي اي ان يتحرك السيناريو وفقاً للشخصية المحورية. في الجزء الثاني، تُلفق احداث ومواقف انطلاقاً من خوف صانعي العمل من ان يمل المشاهد اذا لم يدخل السيناريو عنصر مفجأة خارجي بين وقت وآخر. وذاك منطق هوليوودي بامتياز. اما "بريدجيت" فتتحول من امرأة على حافة اليأس بسبب حياتها العاطفية الفاشلة وضغوط العالم المعاصر الى امرأة فاقدة الثقة تماماً بنفسها لا وبل اكثر من ذلك عقيمة المنطق. فهي تتخلى عن حبيبها لأنه لم يبدِ الاستعداد للارتباط بها رسمياً بعد مرور شهرين على العلاقة! وفي مكان آخر، تتحفز للومه اذا لم يتقبل فكرة حملها الا انه يفعل فينكسر الشر. في مقابل تطرف "بريدجيت" في غيرتها وفقدان ثقتها بنفسها، يبدو "دارسي" متطرفاً بعقلانيته وبشغفه بكل ما تفعل حتى في احرج المواقف. كأنه اذا عبر عن استيائه من احتمال حملها فسيتحول رجلاً شريراً. او اذا لامها بسبب احراجه غير مرة خلال اجتمعاته فإنه يتراجع عن وعده بأن يحبها كما هي. ثم تأتي حادثة سفرها الى تايلاندا وسجنها عن طريق الخطأ لتبدو مفتعلة تماماً كما هو حضور هيو غرانت في دور "دانييل كليفر" الرجل الانتهازي النذل. على صعيد آخر، لا يعالج الفيلم بجدية مسألة مستقبلها المهني. فهي تعتبر نفسها صحافية لامعة ولكنها لا تمانع استغلالها كمادة اثارة على التلفزيون. الامر الذي لا يعني صديقها ايضاً. في نهاية المطاف، تضيع شخصية "بريدجيت جونز" وسط سعي اصحاب العمل الى تحويلها سلعة ربح وعدم قدرتهم على الذهاب ابعد بشخصية لا تنتمي الى العالم السينمائي من حيث هم آتون. المستقبل اللبنانية 17 ديسمبر 2004 |
في عالم إمير كوستوريكا السينمائي، الأعاجيب هي المناخ السائد والفعل الاكثر سوريالية وواقعية في آن. فمنذ فيلمه الأول "هل تذكر دولي بيل؟" Do You Remember Dolly Bell?العام 1981 (حائز الاسد الذهب في مهرجان البندقية السينمائي) ولاحقاً في "عندما كان الأب غائباً" When father was Away on Business(1985) و"زمن الغجر" Time of the Gypsies (1989) و"أحلام اريزونا" Arizona Dreams (1993) وصولاً الى "العالم السفلي" Underground (1995)... جهد كوستوريكا في تشييد عالم سينمائي، يتجاور فيه الواقع والخيال او الاحرى يتمازجان. شخصياته واقعية جداً برغم حديّتها وتطرفها ومبالغاتها. انها في نهاية المطاف تشبه آخرين حولنا وتشبهنا. كذلك هو محيطها وحياتها اليومية. سوريالي في الظاهر، كثير الحيل والمبالغات، مفرط الى حد التخمة. ولكن كأنما بيد سحرية، يتحول في جوهره عالماً مألوفاً. هل هي إلفة عالم سينمائي بات مفضوح الرموز والشيفرات؟ كلا. انه أبعد من ذلك. عالم انساني، شعري، موسيقي انما مكثف ومتطرف. في كل ذلك، ينجذب كوستوريكا دوماً الى الانسان او الى أعجوبة الحياة، الحياة الممكنة في كنف تضافر الظروف غير المؤاتية. في هذه القدرة، سواء أقدرة الانسان على اجتراح معجزة الحياة او قدرة الحياة على تلوين نفسها وتجديدها لتبقى ممكنة، تكمن الأعجوبة التي يجلها كوستوريكا ويتغنى بها والتي تمنح افلامه، في ما هي مفارقة غريبة، جرعة تفاؤل. فكوستوريكا يصف فيلمه الأخير "الحياة معجزة" بأنه "متفائل بحزن" كأنه يعلن التفاؤل قدراً حياتياً وانسانياً برغم كل شيء. وهو إن عجز عن إلقاء صبغة التفاؤل على حدث ما، يلجأ الى حجة قرينة، السوريالية. كلاهما، التفاؤل والسوريالية، يسيران يداً بيد في عالم كوستوريكا السينمائي، أحياناً في تضاد وحيناً في تناغم. فلننظر الى ذلك المشهد في "الحياة معجزة" حيث تدور لعبة كرة قدم في القرية البوسنية التي تشكل مسرحاً للأحداث. قبيل نهاية المباراة، تشتعل معركة بدون سبب ليستحيل الملعب في غضون دقائق ساحة معركة. من بعيد، يصمم كوستوريكا المشهد بلهجة كوميدية ساخرة متصاعدة. ولكن من قرب، يبدو العنف سيد الموقف. انها لعبته المفضلة تلك التي تجعل لكل حادثة ومشهد ظاهراً وباطناً او جوهر و"تغليفة". ومن دلائل الأمور ان يجعل المخرج ذلك المشهد شبه إعلان لبدء الحرب. فالمشهد يقوم على معركة بدون اسباب واقتتال عنيف على أتفه الأموربما يشكل مجازاً مناسباً لنظرة كوستوريكا الى الحرب كما سبق له ان نقلها في Underground وان بلهجة أقسى وأكثر مرارة جديرة بالحديث على تفكك بلد واندثاره. هنا، في "الحياة معجزة"، يشيد كوستوريكا كعادته عالمه على صورة "سفينة نوح"، محتفظاً بالعناصر والادوات عينها في افلامها السابقة. القطط والكلاب والدببة والحمار والحصان... والمرأة والرجل..الموسيقى والحفلات الجماعية والمواقف العبثية..كلها من مكونات عالم كوستوريكا السينمائي. ولكن في العمق، يركز على الانسان. "لوكا" المهندس الصربي المتفاني في عمله و"يادرانكا" زوجته مغنية الاوبرا التي لا تمل تلاوة مقاطع من "آنا كارينينا" كأنها تمهد لفرارها اللاحق، وان الآني، مع رجل آخر. و"ميلوش" الابن الحالم بمستقبل باهر في كرة القدم والمرتبط عاطفياً بعمق بوالديه. شخصيات تفيض عاطفة، مدرارة الدمع، عنيفة المشاعر في عالم على وشك الانفجار. الحياة معجزة "الحياة معجزة" تردد إحدى الشخصيات في مطلع الفيلم تعليقاً على خروج صوص من البيضة. المعجزة في نظر كوستوريكا هي اذاً تعبير عن وصف لمبدأ الحياة وأساسها، الخلق. كأنما من بيضة مجهولة، كالصوص تماماً، "يفقس" عالم الفيلم وشخصياته، في وسط لاشيء سوى جبال وسهول، يتناوب عليهابأعجوبة الطبيعة الثلج الابيض والسجاد الأخضر. يخصص المخرج الجزء الاولمن ثلاثة أجزاء من الفيلم للتعريف بشخصياته وإرساء المناخ العام، في "برولوغ" يستعيره من المسرح الحاضر في هذا الفيلم بعناصر أخرى ايضاً. في قرية بوسنية، تقع على الحدود، يعمل المهندس الصربي "لوكا" على اتمام العمليات الأخيرة في تشغيل سكة الحديد التي تصل القرية بكرواتيا بما يفتح على الاولى باباً اقتصادياً يعول اهالي المنطقة عليه لتحسين معيشتهم. لا أحد يصدق، او يريد ان يصدق، ان الحرب على الابواب بمن فيهم الضابط العسكري، صديق "لوكا"، وحتى بعد ان يتم استدعاء "ميلوش"، ابن الأخير، للإلتحاق بالجيش. وحدها "يادرانكا"، زوجة "لوكا" ومغنية الاوبرا السابقة، تؤكد له ان ما من جيش ليتم استعادته اليه بل حرب ستلتهم الجميع. الا ان "لوكا" المتفائل بطبعه والمتفاني في عمله، يتعاطى مع الأمر برمته كحادث عرضي، سرعان ما سينتهي. الا ان اختطاف ابنه كرهينة على يد البوسنيين سيدفعه الى تخوم مغايرة. على خط السكة الحديد حيث يقع منزله كأنه محطة انطلاق او استراحة، يكمل "لوكا" تشييد المجسم الذي يمثل خط السكة الحديد. في مفرقة ساخرة، يجعل الجيش الصربي "لوكا" مسؤولاً عن الخط موكلاً اياه بمنع مرور اي شيء يخص البوسنيين. وفي علية منزله، يعتني "لوكا" بالمجسم المفترض ويخاف عليه اكثر من مراقبته الخط الفعلي. لن تتوقف مهامه هنا، إذ سيصبح مسؤولاً عن السهر عن ممرضة مسلمة، يختطفها الجيش الصربي رهينة لمبادلتها لاحقاً مع "ميلوش". الا ان علاقة الخاطفالمخطوف المفترضة بين "لوكا" والممرضة "صباحة" سرعان ما ستنقلب تقارباً ودفئاً فعشقاً. انها طريقة كوستوريكا في إعلان فلسفة خاصة. فهو إذ يعاين الاختلافات بين شخصياته على صعيد تفصيلي يومي ويجعلها في ذلك المشهد المعبر، لعبة كرة القدم، سبباً ربما لاندلاع حرب كبرى، ينفي ان تكون الأخيرة سبباً كافياً لاستحالة الحياة على صعيد يومي. فالاختلاف الاساسي الكبير المفترض بين "لوكا" الصربي المسيحي و"صباحة" البوسنية المسلمة لن يمنعهما من تبادل الحب عندما يتقاربان تحت سقف واحد. بكلام آخر، ينفي كوستوريكا وجود اسباب مطلقة للحرب او للكره كما للتفاهم وللحب. فأهل القرية الواحدة يتقاتلون بشراسة في اول الفيلم و"الاعداء"، مبدئياً، يقعون لاحقاً في الحب. وهو إذ يكرر مشهد عراك القطة والكلب، كأنه يسخر من الحرب ويشبهها بخلاف بين قطط وكلاب. على ان شريط "الحياة معجزة" ليس فيلم حرب، بل هو في جوهره قصة حب على طريقة شكسبير، اي حب عاصف عميق ومكثف انما مقدر له ان يكون مستحيلاً. فبعد الجزء الاول الذي يُختتم باندلاع الحرب والتحاق "ميلوش" بالجيش وهرب "يادرانكا" مع موسيقي هنغاري، يبقى "لوكا" وحيداً في محطته الى ان تأتي "صباحة". ومن هناك، يتحول المنزل الذي يجمعهما أشبه بموقع حربي او جبهة. أصوات الحرب تتناهى الى السمع قريبة مهددة ولكن كوستوريكا لا يفارق جبهة الحب المشتعلة الآيلة للإنفجار في اية لحظة تماماً كالاوضاع في الخارج. ثم في وسط ذلك الجحيم، يأخذنا المخرج على "بساط الريح" الى طبيعة خلابة من ماء وثلج وسهول واخضرار حيث يتفجر الحب أخيراً بين "لوكا" و"صباحة". انه اعلان موقف ايضاً ان يجعل ذلك الحب يتفجر في مكان نقي، بعيداً من تلوث الحرب وآثارها ليكون حقيقياً وجديراً. في النهر، كأنما يتعمد الحبيبان ويغتسلان من اجل ولادة حب نقي. نظرة ربما تبدو مثالية بالنسبة الى كوستوريكا وعالمه ولكنها ليست بعيدة منه وان تكن هنا اكثر مباشرة. فالحب الذي يربط بين شخصيتي جوني ديب وفاي داناواي في Arizona Dream يحتمل معنى النقاء نفسه والطهر ليس بالمعنى الديني او الايديولوجي بل الانساني والنفسي. في هذا الجزء، يُخيل للمشاهد انه نُقل الي عالم آخر ولن يجد الاجابة الشافية لذلك الا في المشهد الذي يتخيل فيه "لوكا" و"صباحة" ان السرير طار بهما في جولة فوق البوسنة، تحديداً فوق المناطق عينها التي شهدت تفجر حبهما، مساحات لم تمسها الحرب. من على السرير الطائر، يستعيد "لوكا" ذكرياته مع ابنه لكأنه تمهيد لمفترق الطرق الذي سيجد نفسه عنده لاحقاً: الاختيار بين حبيبته وابنه. يجابه "لوكا" بدايةً قرار الاختيار بين زوجته وحبيبته، فيختار الاخيرة بدون تردد ظاهر. وفي جو ملحمي مسرحي، يقود كوستوريكا حبيبيه في رحلة بين الثلوج حيث الاخيرة تنزف جراء رصاصة في رجلها. يكثر في الفيلم اجتياز الطرقات والمسافات. كأن ذلك العالم الذي يصوره كوستوريكا وتلك الشخصيات ليست الا متحركة سائرة دوماً على سكة حديد او في نفق او بين الجبال الوعرة، تماماً كالحياة في صيرورتها. لا تخفى بالطبع نبرة المخرج الساخرة في البداية من استخدام السكة الحديد طريقاً للسيارات والدواب كأنما في تعليق على فقدان ابسط مقاييس الحياة المدنية. الا ان ذلك لا يلبث ان ينقلب لاحقاً مجازاً عندما تتحول السكة خطاً يُفرش الكوكايين عليه ليتنشقه صاحب نفوذ وسطوة في صورة تجسد الجشع والمبالغة الى حد فقدان المتعة. وما نفع المخدر ان لم يكن في الحدود الدنيا بحثاً عن متعة ما او اكتشاف؟! في الجزء الأخير، الـ"ايبيلوغ"، يحزم كوستوريكا متاعه في توليفة لنهاية سعيدة وفي خلاصة تقصي الحرب والماديات عن الحياة. فخط السكة الحديد الذي كان يُعول عليه لفتح طرق التجارة والسياحة بين صربيا والبوسنة سيحمل الى "لوكا" الحب. كأن ذلك الوقت الذي قضاه في دراسة الخط وصيانته كان بناءً لخط حياته وتمهيداً لحبه الكبير. على هذا النحو تتحقق معجزات كوستوريكا، بشيء من التفاؤل وكثير من الايجابية والايمان والحب والصدفة ايضاً. ولكنها ليست الصدفة الخارقة بل المتمثلة بأنثى حمار، يعرفها أحدهم في بداية الفيلم على انها مغرمة ويائسة لذلك لا تنفك تقف في وسط السكة رغبة منها في الانتحار! هي الأتان تتحول في النهاية خشبة خلاصه فتنقذه من قدر بدا للحظات محتوماً. فبدلاً من ان يدهسه القطار الذي يحمل حبيبتهكما قتل السم الذي خدّر "جولييت" "روميو" فإنه يحيا ليتحد بها. المستقبل اللبنانية في 17 ديسمبر 2004 |