وثائقي سويدي وروائي إنكليزي: البحث عن الآخر الغامض قيس قاسم |
أن تنعكس مشاكل المهاجرين وتعقيدات الأختلاف الثقافي في السينما الأنكليزية أمر شبه طبيعي في بلد أخضع أكثر من نصف شعوب الكرة الأرضية لسيطرته على مدى قرون طويلة، ولكن أن نجد أنعكسات نفس المشكلة في السينما الأسكندنافية، والسويدية على وجه الخصوص، أمر يبدو في ظاهره كمفارقة تاريخية. فالتقاليد الأستعمارية الموروثة وهجرة مواطني المستعمرات المعاكسة للملكة البريطانية "الأم"، مضى عليه زمن طويل وترسخ كواقع حال يعيشه الأنكليز والمهاجرون كل يوم. أما مملكة السويد فلم تستقبل "الغرباء" إلا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وبالتقريب في بداية الستينيات مع النهضة الصناعية الكبرى فيها، ثم تكثفت بشدة خلال الثمانينات والتسعينات. ولكن من يشاهد "الأجنحة الزجاجية" و"يالا يالا " والفيلم الوثائقي الأخير "تحت سماء الأزرق والأصفر" لا يجد فرقا في جوهر المشكلة التي مستها أفلام بريطانية ك"الشرق هو الشرق" و"أحرفها مثل بيكهام" وأخرها "القبلة الحنون". فالسينما وبقدرتها على الرصد المبكر للظواهر الأجتماعية لا يهمها قصر عهد الدول الأسكندنافية بالمهاجرين ولا تاريخ بريطانيا العريق فيها. فما يميله الواقع يجد اليوم أنعكاساته الواضحة فيها، أما الفوارق عندها فتبقى في حدود شكل تناولها للمشكلة وعمق النظر اليها. القبلة الحنون.. أو الحب المستحيل النهاية المفتوحة لقصة حب الشاب الباكستاني قاسم والأيرلندية رويسين، هي مدخل مفتوح، من جانب أخر، على مشكلة التصادم الثقافي في بريطانيا، كما نفهم من فيلم كين لوتش "القبلة الحنون". نظر لوتش الى هذة المشكلة الشائكة من زوايا عدة، وبعمق مدهش حقا، فأحالها الى الى جوهرها ولم يقدم حلولا سحرية لها، ولم يحاول هذة المرة، كما فعل في أفلامه السابقة الى الغور في البعد السياسي، بل تشبث هنا بآمال تنبذ سلوكا بغيضا، وبدا كأنه يمسك بخيط حلم واهي لكنه نبيل، خاسر لكنه مريح. في المشهد الأول الذي تظهر فيه الطالبة طهارة خان وهي تقرأ كلمتها أمام زملائها يوفر المخرج فرصة "للأخر" ليقدم بعض أفكاره، مثل كراهيتها لسياسين تحالفا كآلهة ( بوش وبلير!! كما توحي اشارتها): لقد قسما البشر والأديان ووصموها بنعوت عامة، فالمسلمون أرهابيون ومتطرفون بالجملة. هذان تجاهلاني، أنا المسلمة، الباكستانية ـ البريطانية ـ الأسكتلندية التي أدرس في مدرسة كاثوليكية. وتمنت أيضا أن تأتي لحظة خلاص عذاب مصدره العرق ولون البشرة. فماذا حدث بعد دقائق؟ تبعها أسكتلنديون الى الخارج، صرخوا في وجهها ولمحوا الى أصلها المختلف، فغضبت وأرادت ضربهم. عندما علم أخوها قاسم (عطا يعقوب) بما جري ركض خلفها ودخل قاعة تدريس الموسيقى.. أحب من نظرة سريعة المدرسة رويسين (أيفا بيرتستيل) التي كانت هناك. من هذة الحبكة الدرامية المدهشة طرح لوتش سؤاله: كيف لعلاقة نشأت في هذة الظروف أن تستمر؟ كل عناصر الخلاف والفرقه فيها قائمة ووافرة، إلا الرابطة العاطفية، فهي من القوة ما يكفيها للمضي والتأثير في قرارات كل حصون حمايتها منهارة، ولكنها كافية لمعايشة تجربة أنسانية مثيرة. لقد نسج المخرج حكايته بعدسة مفتوحة سجلت كل الأندفاع العطفي وبتفاصيله، فأحالتنا الى عالم من الرومانسية.. وفجأة، بدأت الدفاعات تنهار، الأب رفض ما يريده قاسم، والعائلة كلها تعرضت للأنهيار. أحس الأب خان ان كل ما بناه وتعذب من أجله في الغربة صار عرضة للضياع بسب امرأة مسيحية! فيتكاتف هو والأخرين في سبيل قتل هذا الحب المحرم. هنا لا يكتفي لوتش بتسليط الضوء على جانب من التطرف والتعنت الديني والعرقي، بل يسعى لمعرفة دوافع هذا السلوك. أن ظاهره ديني دون شك، لكن باطنه يكشف عن ميل غريزي للبقاء، أنه أحتماء أكثر منه تعصب ديني مدرك، كالذي يحمله في رأسه الراهب المسؤل عن تعين المدرسات في مدارس الكنيسة الكاثوليكية. أنه يمثل التعصب الديني بأعلى درجاته، لا لأنه يرفض وجود الأخر أساسا، بل لأنه ينطلق من مصدر القوة لا الضعف كما تفعل عائلة خان الباكستانية. في مقابلته لريسين يعلن الراهب بوضوح أنه يرفض تعينها مدرسة في مدارس الكنيسة ما دامت تعيش علاقة محرمة مع رجل مسلم، علاقة تضعها في صفوف الكفرة. يحاول لوتش بمهارة سينمائية عالية، وعبر سرد بصري رائع، أن يقربنا من الأخر الغامض، من المسلم الباكستاني فينقل لنا حكايته: وصل الباكستاني الى هنا قبل أربعين عاما هاربا من تقسيم مذهبي وقومي لاحت مظاهره في الهند، فصنع بدوره دولة مسلمة جديدة أسمها باكستان! وخان يستميت من أجل أرضاء ابناء وطنه، فيمضي بعيدا في سلوك يبدو غريبا في واقع غريب. ضيق النظرة الدينية والخوف من الثقافات الأخرى والألتزامات العائلية التقليدية، تحالفت كلها لقتل حب جميل، لم يباركه أحد فأنتهي بقبلة تبادلها المحبان، تركت وراءها سؤالا مفتوحا.. هل أنتهت العلاقة أم بدأت؟ ألهذا السبب سميت قبلة حنون؟ لا كراهية فيها، ولا طمع، فيها رغبة صادقة ومحاولة مرة لفهم الأخر رغم فراقه. فيلم "تحت سماء الأزرق والأصفر".. دعوة للعيش تحت سماء سويدية واحدة! لم يجنب بحر الشمال، على سعته، مملكة السويد من معايشة نفس مشاكل أسكتلندا مع العنصرية والتمييز العرقي داخلها، فالمنطلقات الفكرية لهذة الظواهر موجودة نفسها تقريبا في أوربا مع وجود أختلاف نسبي بسيط بين هذا البلد وذاك. لكن المثير للتأمل إن من يتصدى لها ويحاربها هم أبناء هذة المجتمعات. وكما أشتغل كين لوتش في بريطانيا على ثيمة التصادم الثقافي، أشتغل في السويد المخرجان بو هارينغر ورينزو أنرود عليها أيضا. والمصادفة الغريبة أن يشترك المخرجون في رؤية متقاربة ومسعى يهدف الى فهم الأخر وتقريبه، لا الأكتفاء بتقديم حقيقته السطحية فقط. وهذا ما ركز عليه السويديان في فيلمهما الوثائقي "تحت سماء الأزرق والأصفر" وهو ترميز الى السويد بألوان علمها الوطني. ميزة هذا الفيلم أنه لا يعامل المجاميع والكتل الأجتماعية بأعتبارها كتل منسجمة بالكامل ولهذا ينبه الى خطر الحكم عليها على هذا الأساس. فبين مجاميع جبهة "المعاديين" للأغراب أختلاف كبير في الرؤى والأهداف، فجماعة حليقي الرؤس تختلف كثيرا عن مجاميع أم سي للدراجات الهوائية، والفرق نفسه نجده بين المسلمين المتطرفين وبين اليسار السويدي التقليدي وأيضا بين الفوضويين والحركات الأخرى المناهضة للعنصرية. تلك الأختلافات قدمها المخرجان بصورة واضحة عندما قررا أجراء لقاءات مع أفراد من كلا الجبهتين، فظهرت تباينات جلية بين النساء المتحررات في داخل حركة الفوضويين وبين شابات مهاجرات أغلبيتهن من مجتمعات محافظة، رغم ما يجمعهن من جامع في معاداة العنصرية وهكذا الأمر مع بقية المجاميع. أرادا المخرجان من مشاهدي فلمهما التفكير مليا ولأكثر من مرة قبل الحكم على الأخر. فاللوحة ليست كلها سوداء وطبعا ليست ناصعة البياض على الأطلاق. الشخصية المركزية في هذة الوثيقة الفنية شاب عنصري من حملة الفكر الفاشي، يدخل سجن أصلاح الصغار بعد جريمة تهريب وتناول مخدرات، أهله يتخلون عنه فيحكي كيف وصل الى هذا العالم. الأهمال العائلي وضعف الشخصية أسباب رئيسة لما وصل اليه. لجأ المخرجان (أحدهما لعب دور الصحفي) في عملية تقطيع صوتي لبعض الأحكام المطلقة والمسبقة التي تطلقها مجموعة على أخرى، ثم قاما بنقل كامرتهما الى المجموعة المتهمة ليوضحا خطأ الحكم ضدهم وضعف حجته، وهكذا وعبر أنتقالات متعددة تشكلت صورة كاملة لرداءة وسوء الطوية عند كل الأطراف. فأدعاء قصور وضعف دور المرأة المهاجرة، سيسقط بعد عدة لقاءات مع عاملات وطالبات مهاجرات يتفاعلن بايجابية مع المجتمع، وكراهية كل السويديين للأجانب، تدحضها المعطيات، وما تعاطف أفراد وتيارات سياسية سويدية كبيرة مع المهاجرين سوى برهان قوي على بطلان هذا الحكم، ثم تزداد التفاصيل وتزداد صورة الأخر وضوحا، وفي النهاية يقدم الفيلم مشاهد عن مشاركة فرقة موسيقية من مجموعة أم سي مع فرقة راب لشباب مهاجرين في أنتاج أسطوانة جديدة. رسالة "تحت سماء الأزرق والأصفر" واضحة: حين نتجنب الأحكام المسبقة ونحاول معرفة الأخر، ستسهل علينا معايشته والتكامل معه.
"تحت سماء الأزرق والأصفر"
موقع "إيلاف" في 13 ديسمبر 2004 |