ذروة العاطفة مقنعة لكنها لم تترك مجالاً لما بعدها «كان يوم حبك» أجمل صدفة هاشم النحاس |
لم نكن نتوقع من أفلام العيد غير ما هو معهود ان تكون من الافلام «السَّكة» التي تعتمد في تسويقها على المناسبة، إذ يحتفل الناس بالعيد ويرغبون في الخروج ومشاهدة اي فيلم، غير أن توقعنا خاب هذه المرة - لحسن الحظ - وكانت اجمل صدفة أن نجد من بين افلام العيد فيلمين - على الاقل - جديرين بالتشجيع، بل والتقدير، وهما «حالة حب» و«كان يوم حبك» وسبق أن كتبت عن الاول، وأجد في الثاني ما يستحق الاحتفاء به ايضاً، خصوصاً أنه من افلام الشباب التي ترهص - في نظري - بميلاد سينما مصرية جديدة. ايهاب لمعي مخرج الفيلم ومهندس ديكوره يذكرنا (مع الفارق) بعبقري السينما المصرية شادي عبدالسلام يجمع كلاهما بين الاخراج وهندسة الديكور، ومن قبلهما كان رائد هندسة الديكور في السينما المصرية وأستاذ شادي ولي الدين سامح (7091 - 9891). يتضح من عملهم جميعاً أن هندسة الديكور تمثل أحد الأبواب الملكية للدخول الى عالم الإخراج، وهو ما يتأكد لنا في فيلم ايهاب لمعي «كان يوم حبك». تكوينات غريبة والفيلم هو العمل الثاني للمخرج. فيلمه السابق «من أول نظرة» لم يعجبني ولم يعجب الجمهور، لكنه أعجب النقاد الآخرين وأشادوا به ربما لأنه بدا لهم بتكويناته الجمالية الغريبة، فيلماً «مثقفاً» لكني رأيتها مقحمة ومقصودة لذاتها أو تكاد. فضلاً عن مظاهر قصور أخرى. لكن الفيلم الثاني «كان يوم حبك» اختلف عن سابقه، لم يتنازل فيه إيهاب لمعي عن طموحه الفني المعلن عنه في فيلمه الأول كما قد يبدو للبعض، وانما طوّر امكاناته: أصبحت أبلغ تعبيراً حينما أصبحت أكثر بساطة وتناغماً مع الموضوع وأقرب الى مشاعر الجمهور. وبعبارة أخرى استطاع ايهاب لمعي في فيلمه الثاني أن يوظف مهارته الفنية لخدمة الموضوع لا العكس، فتسرب تأثيرها الى النفس من دون عائق «التثاقف» المفتعل. يقدم الفيلم قصة حب بسيطة، تتماثل في اطارها العام مع معظم قصص الحب خصوصاً في أفلامنا الغنائية القديمة التي تتغنى بأمجادنا. ولكن ما يحتويه الفيلم الجديد في معالجته من تفاصيل تقنية ورؤية سينمائية يجعل منه شيئاً مختلفاً، ويضفي عليه روح المعاصرة. مع العناوين يبدأ الفيلم بتقديم صوت خالد سليم وحده من دون صورة. يحكي لنا عن علاقة حب ويتغنى ببعض المقاطع (من دون موسيقى)، صوت رائق وتقديم موفق لخامة الصوت (من دون تذويق) قبل ان نرى صاحبها. وتتحقق للفيلم براعة الاستهلاك بمشاهده المعقدة الاولى التي تعرفنا من بدايته بشخصية «ليالي» الرئيسة وتؤديها داليا البحيري، التي تخرج تواً من عملها في البار لكن ترفض مصاحبة الزبائن بعد العمل، ثم يعرفنا بعد ذلك بالشخصية الرئيسة الثانية علي الشاعر الكاتب والمغني ويؤديها خالد سليم، ولكن بعد أن يعدنا الفيلم بالدخول في احداث مشوقة من خلال مشهد شبابي خفيف الظل بين داليا البحيري وخالد سرحان، الذي يحاول التقرب اليها في الاتوبيس. وعندما تلتقي ليالي للمرة الاولى علي، تكون خلفية اللقاء صورة رومانسية كبيرة على الحائط من رسمه، وتبدأ قصة الحب بينهما بتبادل النظرات التي يتقن المخرج ايقاعها، ويتحركان في المكان اثناء حوارهما على خلفية حمراء وعندما تشعر الفتاة بالاطمئنان للفتى تسترخي على كرسي هزاز لتقول إنها للمرة الاولى لا تشعر بالخوف، ويرد عليها بأنها المرة الأولى التي يشعر فيها بالخوف. اشعار صلاح جاهين الحوار مشغول بذكاء ويحسب لواضعه وكاتب السيناريو مراد منير استخدام بعض أشعار صلاح جاهين على لسان خالد سليم، ما يرفع من قيمة الحوار ويحدد ملامح الشخصية التي يمثلها (ويصل تذوق اشعار جاهين الى جمهور اوسع). والأحداث تتدفق بنعومة في ايقاع متهادٍ تحكي نمو قصة حب رومانسية بين الفتى والفتاة. يأكلان معاً، يثرثران معاً، يكتشفان احساساتهما المشتركة بالاشياء، يقدم لها هدية صغيرة، يشتري لها مايوهاً ويسبحان معاً. ويعتمد ايهاب لمعي في سوق الاحداث سينمائياً على اللقطة العامة اساساً التي تبرز جمال المكان، وتبرز مهارته في التكوين. وهي في كثير منها لقطات طويلة تنقل لنا الاحساس بالمكان وهي تمسحه بحركتها الدائبة، وتحافظ اللقطات على نعومة حركتها دائماً بما يتفق والموضوع خصوصاً وهي تحتضن الشخصية في حركاتها الدائرية او شبه الدائرية التي تعبر عن دفء العلاقة. وفي حالات كثيرة تكون الزاوية من أعلى لاسباب جمالية واضحة تعمق الاحساس بالموقف او تكون اللقطة للشخصية من خلف اجسام في المقدمة تمنح الصورة عمق الواقع المادي المحيط. ولا تقل العناية باللقطة القريبة عنها في اللقطة العامة، لإبراز جمال الوجه خصوصاً وجه الحبيبة داليا البحيري، ما ابرز جمالها على نحو لا نجـده في افـلامها السابقة. ومن المفردات السينمائية التي استخدمها المخرج لإضفاء الحيوية على المشهد مع الحفاظ على أسلوب اللقطة الطويلة، انتقال الصورة من حال عدم الوضوح الى الوضوح أو العكس عن تبادل الحوار بيت شخصيتين احدهما في المقدمة والآخر في الخلفية أو استخدام الظلال كما في مشهد اعتداء الصديق (محمد رجب) على داليا البحيري، ولم تكن الظلال في هذا المشهد لأسباب جمالية فقط وانما لأسباب تعبيرية أيضاً. ويصل الفيلم الى ذروة تعبيره المنتشي بفرحة الحب في مشهد البار، قبله وبعده وعندما يعلن خالد سليم طلب يد داليا للزواج. الكاميرا وهي تستعرض المكان ورواده أكاد أقول ترقص ما يشبه الباليه من خلال حركتها مع حركة البنات «الغرسونات» النشيطة بين الموائد. وعندما يفاجئ علي حبيبته ليالي برغبته في الزواج منها تثبت الكاميرا على ليالي التي تخور قواها، فتسرع نحوها زميلاتها ويسرع اليها علي يحملها بين ذراعيه، ويعم الهرج والمرح مع زغاريد البنات، وتتصاعد حرارة المشهد عندما يقدّم علي (خالد سليم) مع ليالي (داليا البحيري) أجمل رقصات الفيلم معاً. كما ترقص ليالي منفردة، ويغني علي أغنية «لحظة حب» يعبر فيها عن مشاعره. ذروة العاطفة غير أن الفيلم بعد هذه الذروة المشحونة بالحب الذي غمر الجميع على الشاشة، وعبر عنه المخرج برؤيته السينمائية الجذابة التي تمتع المشاهدين بما فيها من غناء وصور عاطفية مملوءة بالحيوية. أقول بعد هذه الذروة لم يعد من أحداث الفيلم ما يتصاعد الى ذروة أخرى أقوى أو مماثلة حيث تتحول الأحداث الى ميلودراما فاترة، تختفي فيها ليالي بعد أن يعتدي عليها صديق علي... ويهرب علي من أحزانه بالرحيل في البحر، ونفاجأ بإصابته بفيروس قاتل. لكنهما يلتقيان في النهاية، وتقوم ليالي بدور البطولة في المسرحية الاستعراضية التي كتبها علي، وبينما هو يتابع المسرحية في الصالة مع الجمهور يلقي برأسه الى الخلف ويغفو الى الأبد في الوقت الذي نسمع صوته في المسرحية يشدو بأغنية تطابق في معانيها نهايته المأسوية «وكنت أتمنى أعيش لحظة معاك»، وربما كان من الأفضل عدم مطابقة الاغنية لحاله، بل على العكس كان من الممكن أن تنشد للحب والحياة فتكون أقوى تأثيراً بالتناقض مع الحالة. ولكن تبقى للمشاهد متعته بالجزء الأول من الفيلم بخاصة، وإن كان الجزء الثاني لا يخلو من المتعة. ويبقى الفيلم عموماً شاهداً على براعة المخرج وإتقان معظم العاملين معه في عملهم، وأملنا أن يكون بداية جديدة تعيد لأفلامنا الغنائية أمجادها. ناقد سينمائي مصري. الحياة اللبنانية في 10 ديسمبر 2004 |
قيس الزبيدي بعد سنوات السينما النضالية: فيلم تجريبي عن فن جبر علوان دمشق - فجر يعقوب لا يقترب قيس الزبيدي وهو مونتير ومصور ومخرج إلا من ظاهرة تسمى باسمه، او تقترن به. وهي ظاهرة تلفت الانتباه لكثرة مشاغـلها التي تـكاد تـفـارق صـفـاتـه الثلاث، فآخر فيلم روائي «أول فيلم في الواقع» هو «اليازرلي» - من انتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية - 1974، وبعدها التفت الى الافلام التسجيلية التي انتجت عبر مؤسسة السينما الفلسطينية. الدوران في الامكنة، اعطى لهذه الظاهرة، آفاقاً تتلون بها، فهو عراقي مقيم في المانيا ودمشق، وهذا اتاح له ان يعمل لفترة طويلة مثلاً على ارشيف السينما الفلسطينية، وهو نواة ارشيف مودع في الارشيف الاتحادي في برلين، تحت اسم الارشيف السينمائي الوطني الفلسطيني... وقدم الزبيدي مشروع بناء الارشيف في فلسطين (مساحة ارض - موقع - تقنيات)، لكن المشروع برمته متوقف منذ فترة، فثمة صعوبات جمّة تعترضه، منها ما هو معروف ومنها ما هو غير معروف. ثمة ما هو جديد اذن في هذه الظاهرة، اذ تمكن الزبيدي من اعداد كتاب «فلسطين في السينما»، وسيصدر قريباً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ربما في غضون شهر، وقد استغرق العمل عليه اكثر من اربع سنوات، وكتب له المقدمة د. فيصل دراج، وهو يضم بين دفتيه ارشفة لـ750 فيلماً لفلسطينيين وعرب وأجانب، منهم جماعة الحاضر الايطالية الجديدة، التي تضم 30 سينمائياً، قدموا في العام 2003 فيلم «رسائل من فلسطين». ولا يبتعد قيس الزبيدي عن أمكنته، إلا ليكشف ما هو متربع فيها وقائم بما يشبهها، فهو انتهى من كتاب جديد سيصدر قريباً باللغتين العربية والالمانية بعنوان الفاشية في السينما الالمانية، وفيه يتم الحديث عن اكثر من 180 فيلماً رصدت موضوعة الفاشية بمستويات مختلفة، حتى ان كلاسيكيات السينما الالمانية، تعتبر تلك الموضوعة مثالاً كبيراً لها. ويرى الزبيدي ان العمل على تيمة الفاشية في الفن في أوروبا وأميركا اللاتينية والعالم العربي لا يزال حيوياً، ففكرته عن الافلام التي اخرجها ألمان من الضروري الاطلاع عليها في منطقتنا. ويقوم الزبيدي حالياً، بمراجعة كتابين احدهما لسيد فيلد، وهو من ترجمة احمد الجمل، والكتاب بعنوان «رحلة شخصية»، وهو كتاب جديد يتحدث فيه المؤلف عن ثلاثة عقود من العمل في كتابة السيناريو، كما ان الكتاب الثاني يحمل عنواناً لافتاً «الشاشة الشيطانية» للكاتبة الألمانية لوتا أيزنر، وهو يعد من اهم الكتب عن السينما الالمانية الصامتة، اذا ما جمعنا اليه كتاب سيغفريد كراكاور «من كاليغاري الى هتلر». وعن سبب انشغاله في مراجعة الكتابين، يصر الزبيدي على ان المراجعة هي محاولة للوصول الى صيغة امينة للتعبير الادبي وأمينة للنص نفسه. كما انه الآن في صدد الانتهاء من كتابين عن المونتاج والسيناريو، وهو يردهما (الكتابين) الى تجارب شخصية ومصادر عالمية مهمة، والى خبرة في تدريس المونتاج والسيناريو بمعية أناس مختصين. وبذهابه الى مهرجان الاسماعيلية بهدف تكريم مهرجان لايبزيغ «الذي لعب دوراً بارزاً في تطوير السينما التسجيلية العربية، وقد عرض منذ عام 1960وحتى عام 1989 اكثر من 180 فيلماً تسجيلياً عربياً، منها افلام للأخضر حامينا، وصلاح التهامي وآخرين برزوا لاحقاً في هذا المجال». بالذهاب الى هناك، يكون الزبيدي اكمل قوس الظاهرة او يكاد، فهو يسافر ويؤلف ويكتب مقدمات لكتب، او يراجعها، ويؤسس، ويقدم مشاريع... وعندما تسأله عن مشروع فيلم من اخراجه هو، كي تكمل القوس من بعد كل هذا العناء يقول: «عندي الآن مشروع فيلم تجريبي عن الرسام العراقي المقيم في روما جبر علوان». لكن هذا لا يمنعه من مواصلة الحديث عن استعداده لمونتاج فيلم للمخرج العراقي قاسم عبد عن ناجي العلي... وهو ذاته اخرج فيلماً صوره في فلسطين (رام الله) على مدى فترات زمنية متقطعة موضوعه هو حاجز اسرائيلي يكشف في تصويره ومراقبته الدائمة له عن طبيعة الاحتلال... ولديه نسخة من (الرشز)، اي المادة المصورة، لمعاينتها والاستعداد للشغل عليها. ما ان تكمل القوس حتى ينفتح ثانية... هذه هي حال قيس الزبيدي، وهو يحاول اقناع جهة انتاج سورية بضرورة تصوير فيلم عن الرسام العراقي الذي يرسم في روما ودمشق، لوحة هنا... ولوحة هناك... والألوان عنده تختلف في اللوحتين. الحياة اللبنانية في 10 ديسمبر 2004
|