علامات في تاريخ السينما التسجيلية عدنان مدانات |
ضوء ... محاور في السينما العربية عدنان مدانات هناك ثلاثة محاور رئيسية كانت ولا تزال تشكل جوهر الأسئلة التي تجابه سيرورة السينما العربية الشابة في بحثها عن تحققها المؤثر وعن رسالتها الحضارية، الأول هو حرية التعبير عن قضايا الإنسان العربي المعاصر المصيرية وهمومه الاجتماعية والسياسية، إضافة الى جعل السينما وسيلة إبداعية للتعبير الذاتي الخاص بالسينمائي نفسه، والثاني هو إمكانية دمج المعاصرة مع التعبير عن التراث الثقافي للامة العربية وتاريخها بما يؤدي إلى بناء الشخصية العربية المعاصرة عن طريق الاستفادة من كل ما هو إيجابي في تاريخها، أما المحور الثالث فيرتبط بالمحور الثاني بشكل لصيق ويتعلق بمشكلة البحث عن أشكال وأدوات للتعبير السينمائي تعكس أسلوب السينمائي إبداعيا كما تعكس الخصائص التراثية والجمالية التي تمثل جوهر الهوية الوطنية. بالعلاقة مع محور التعبير عن قضايا الإنسان العربي المعاصر وهمومه الاجتماعية والسياسية، فإنه يجدر ملاحظة أن هذا المطلب الأساسي كان على الدوام يرتبط بالتوجه نحو تحقيق الواقعية السينمائية، على تعدد مذاهبها، بما يتيح للسينما أن تعكس على نحو سليم وصادق شكلا ومضمونا قضايا الإنسان والواقع العربي المعاصر. ويمكن القول ان هذا التوجه الذي ظهرت إرهاصاته الأولى في السينما العربية من خلال مخرجين مصريين مثل كمال سليم وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وقلة غيرهم،بدأ يمتد في الربع الأخير من القرن العشرين إلى باقي سينمائيي الأقطار العربية وذلك من خلال أفلام السينمائيين الشباب العرب الذين يتعاملون مع السينما باعتبارها وسيلة فكرية فنية وليس وسيلة ترفيهية. ففي مصر وسوريا والجزائر وتونس وبقية البلدان العربية ذات النشاط السينمائي أنتجت في تلك الفترة كمية من الأفلام التي ترسم بمجملها أهم المشاكل الاجتماعية والسياسية في العالم العربي المعاصر. غير أن المشكلة تكمن في أن هذه الأفلام، وعلى أهميتها، كانت محكومة بظرفها التاريخي ومحدودة في امتلاكها لحرية التعبير ولم تكن تستطيع تجاوز السقف المسموح به سواء سياسياً (الرقابة الرسمية)، أو اجتماعيا (رقابة التخلف الاجتماعي والثقافي). ويكاد يجمع النقاد السينمائيون العرب على أن أزمة التعبير في السينما العربية الشابة كانت تكمن في وجود بعض المحرمات الأساسية، أي المواضيع التي لا يمكن معالجتها بتفصيل وجرأة ووضوح وصراحة، والتي اعتبرها السينمائيون العرب مواضيع جوهرية تمس صميم الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية المعاصرة ولا يمكن تجاهلها أبدا. وبالطبع، فإن هذا يؤكد أن السعي نحو حرية التعبير لا يمكن أن يتم بالمطلق أو أن ينظر إليه بمعزل عن القوانين العامة السائدة في المجتمع، وبمعزل، وهذا أمر مهم جدا، عن الشروط الخاصة بالسينما من حيث هي نظام متكامل، وبالدرجة الأولى، من حيث هي صناعة وتجارة. فمن ناحية السينما كصناعة لا يمكن لها أن تلعب دورها الحقيقي إلا إذا قامت على أساس اقتصادي وتقني متين، قادر على أن يضم في جنباته الأنواع والتوجهات السينمائية المختلفة ويستوعبها معا، أي ان يكون قادرا على إنتاج سينما ترفيهية شعبية واخرى فنية فكرية. وفي الواقع فإن تطور تقنيات إنتاج الأفلام اعتمادا على الفيديو، سوف يخفف إلى حد كبير من أعباء الإنتاج التي ترهق كاهل صناعة السينما التقليدية، وسوف يقلل من كلفة الإنتاج ذاتها، بما قد يشجع على المغامرة والخوض في مستويات أفلام سينمائية تلبى المتطلبات والأذواق والمستويات الثقافية كافة. هذه المشكلة تحتاج إلى حل اقتصادي بالدرجة الأولى. وإذا كان قسم من هذه المشكلة يقع على عاتق أصحاب الأموال العربية، فإن القسم الأكبر من هذه المشكلة يقع على عاتق الأنظمة العربية نفسها وغرف الصناعة والتجارة العربية، والتي عليها أن تضع مسألة تطوير السينما العربية باعتبارها وسيلة استثمارية، ضمن الجهود العربية المشتركة في تطوير مجالات التنمية الصناعية والتي تهدف إلى التكامل الاقتصادي والتجاري العربيين. ونحن نعتقد أن بناء الأساس الاقتصادي السليم للسينما العربية كفيل بالمساعدة على الكثير من مشكلاتها والتي تبدو غير اقتصادية في ظاهرها. وهنا لا بد من ملاحظة أن السينما كمنتج اقتصادي سلعة ذات خصوصية من حيث أن مضمونها ثقافي أيديولوجي، وبالتالي ينتج عنها مردود ثقافي وأيديولوجي يؤثر في الوعي وفي التركيب النفسي والأخلاقي للشخصية المستهلكة، أي للجمهور، ولهذا يستحيل عمليا فصل الحل الاقتصادي لمشكلة السينما عن الحل الثقافي والسياسي. ترتبط بهذه الإشكالية على نحو أكثر خصوصية إمكانية التعبير الحر عن المواضيع المرتبطة بالموقف من التراث والتاريخ. لقد دخل التاريخ في السينما العالمية منذ بدايتها باعتباره نوعا فيلميا أسهم إلى حد كبير في توضيح دورها الأيديولوجي من جهة، وفي الانتشار الجماهيري للسينما، من جهة ثانية. غير أن أهمية صنع أفلام عن التاريخ لا تكمن فقط في عوامل الجذب والتشويق والإثارة الناجمة عن إعادة تجسيد حكايات الماضي وأساطيره، بل هي تكمن أساساً في كون التاريخ يساعد على فهم الحاضر. وبهذا المعنى فإن التاريخ ليس مجرد تراكم للأحداث والسير البطولية، بل تراكم عناصر الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي والفني، أي مجمل العوامل التي قد أسهمت في صياغة الشخصية القومية، والتي تلعب دورها في الحفاظ على التماسك القومي العام. إن دراسة تطور السينما العربية منذ بدايتها سواء في مصر أو في بقية الدول العربية تكشف لنا أن الحيز الذي يحتله الفيلم التاريخي بالمقارنة مع الأنواع السينمائية الأخرى ضئيل جداً من حيث الكم، بحيث إنه من السهولة بمكان فرز الأفلام التي لجأت إلى المواضيع التاريخية. وهناك عدة أسباب وراء غياب التاريخ عن السينما في العالم العربي على الرغم من جماهيرية هذا النوع بعامة، وهذه الأسباب ذات طبيعة فكرية وثقافية بالدرجة الأولى، نقول بالدرجة الأولى، لأن بعض النقاد يعزون غياب الفيلم التاريخي العربي إلى أسباب اقتصادية بحتة، منطلقين من فكرة أن الفيلم التاريخي يحتاج إلى ميزانيات ضخمة. وهذا أمر صحيح جزئياً فقط لأنه ينطبق على نوعية محددة من الفيلم التاريخي ( الفيلم التاريخي الاستعراضي على النمط الهوليودي، مثلا)، ولكنه لا ينطبق عليه كمفهوم عام. فافتراض أن الفيلم التاريخي يتطلب ميزانيات ضخمة حتماً، هو موقف فكري ثقافي لا يرى في التاريخ إلا الأحداث الكبرى والمعارك ومشاهد المجاميع والديكورات الهائلة الملابس المكلفة والخ، ولا يفهم الفيلم التاريخي سوى من الجانب الحدثي والاستعراضي التشويقي، والفيلم التاريخي يصبح نتيجة لهذا الفهم شكلا وليس مضموناً، أو أن المضمون يصبح تابعاً للشكل ولا يعود الفيلم التاريخي يعكس موقفاً ثقافياً فكرياً تقدمياً. ونصل إلى المحور الثالث المتعلق بطبيعة وسائل التعبير في السينما وقضية البحث عن أشكال التعبير السينمائي تعكس الخصائص التراثية للثقافة العربية حيث يحاول بعض الدارسين للسينما العربية إيجاد صلة وصل بين فن السينما المعاصر وبين شكل فني قديم عرفه تاريخ الثقافة العربية، ألا وهو فن “خيال الظل” انطلاقاً من اعتبار أن الشكل النهائي للعرض متشابه، جدير بالذكر إن المحاولات القليلة التي تمت في السينما العربية لانجاز أفلام تستفيد من أشكال تراثية ارتكزت في أساس محاولتها على أشكال تراثية أدبية بالدرجة الأولى، فبعضها استعار أسلوب السرد “ألف ليلة وليلة” حيث مزيج الخرافة والواقع وحيث الحكاية تقود إلى حكاية جديدة، أو أن بعضها استفاد من القص الشعبي عن طريق الرواة، وبعضها اكتفى باستعارة الموضوع التراثي نفسه. ونجد في بعض الأفلام توظيفاً للموسيقا القديمة أو للديكور وفن العمارة الشرقي والخ. ولا يتناقض هذا كله مع إمكانات السينما، بل على العكس من ذلك، فهو يتواءم مع طبيعة الفن السينمائي من حيث هو فن مركب من فنون وآداب سابقة عليه تم تطويعها وقولبتها لتتلاءم مع الشكل التقني الجديد الذي يحمل عن جدارة لقب “الفن السابع”. غير أن التعامل مع الشكل التراثي أو العناصر الفنية التراثية وإسباغ قيمة فنية إبداعية معاصرة عليها من خلال الأفلام السينمائية، يجب أن ينطلق من قناعة ذاتية ومن هم أسلوبي أصيل وغير “استشراقي”، كما يتطلب قبل كل شيء الابتعاد عن النظرة الفلكلورية السطحية التي تشيع في الكثير من الأفلام السينمائية العربية التجارية التي تصور العناصر التراثية وكأنها ضمن ملصق سياحي متحرك. هذه باختصار هي المحاور الثلاثة التي يمكن أن ينبني على أساسها الدور الحضاري المأمول للسينما العربية، وهي مهمة تحتاج إلى إعادة تغيير جذرية في النظرة الرسمية إلى السينما كصناعة وفن ووسيلة اتصال وإلى عصرنة الممارسات الرقابية، وتحتاج إلى دعم كبير من القطاعين العام والخاص وإلى جهود مميزة من السينمائيين أنفسهم وخاصة منهم أولئك الذين لا يتعاملون مع السينما كوسيلة للتسلية بل كوسيلة تعبير ثقافية. الخليج الإماراتية في 6 ديسمبر 2004 |
يستدعي النجاح الشعبي والتجاري في صالات العرض السينمائي غير المسبوق عالميا للفيلم التسجيلي الأمريكي “فهرنهايت 11/9” الذي حمل توقيع المخرج مايكل مور استذكار التاريخ المجيد للفيلم التسجيلي كنوع فيلمي إبداعي عرف خلال تاريخ السينما العالمية العديد من الإنجازات التي تؤكد أن الفيلم التسجيلي ليس مجرد وسيلة إعلامية أو وثيقة مرئية مسموعة عن الحياة والإنسان في مرحلة تاريخية معينة، بل صيغة فنية بحد ذاتها. وإذا كانت القيمة الأساسية لفيلم “فهرنهايت 11/ 9” تنبع من الموقف السياسي والنقدي الاجتماعي الجريء للسلطة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن تاريخ السينما العالمية التسجيلية يحتوي على تنويعات إبداعية واكتشافات فنية وإنجازات تجريبية، تجعل الفيلم التسجيلي منافسا قويا للفيلم الروائي. هنا محاولة للتعريف بنماذج مختلفة متنوعة في منطلقاتها ومناهجها وإنجازاتها عرفها تاريخ السينما التسجيلية العالمي، بدءا من عشرينات القرن العشرين، كان لها الأثر الكبير في تطوير مسيرة الفيلم التسجيلي، كما لاقت نجاحا عالميا. “نانوك من الشمال”: قام بإخراج هذا الفيلم الريادي الذي تم إنتاجه خلال عام كامل هو العام 1922 المخرج التسجيلي الأمريكي روبرت فلاهرتي . والفيلم عبارة عن سجل مشوق يتتبع، يوما إثر يوم، الصراع الذي تخوضه مع الطبيعة، من أجل العيش والبقاء، عائلة بسيطة، على رأسها “نانوك” الأب، الذي يعيش في منطقة الأسكيمو الجليدية. وكان الفيلم قد أذهل المنتجين والموزعين بسبب نجاحه الشعبي العالمي الساحق في زمن كانت فيه السينما التسجيلية تتلمس خطواتها الأولى وتعتبر في مرتبة دنيا من قبل المنتجين والموزعين بالعلاقة مع السينما الروائية. شكل هذا الفيلم علامة فارقة في تاريخ تطور الفيلم التسجيلي وكان له الفضل في اكتشاف ما أطلق عليه النقاد أسلوب التصوير من خلال “الملاحظة الطويلة” و”سينما الواقع” أي السينما التي تعتمد في تعبيرها على الطاقة الكامنة في صورة الواقع، وليس على المونتاج. إضافة إلى ذلك فقد تم بناء الفيلم وفق خط قصصي متصاعد، وهذا ما لم يكن مألوفا في السينما التسجيلية التي كانت، عامة، ذات منحى إخباري. كما لجأ فلاهرتي إلى إدارة بطل فيلمه وتوجيهه واستفاد من وسائل السينما الفنية من نوع اللقطة القريبة، والمتابعة البانارامية وغيرها من الاستخدامات الفنية لحركة الكاميرا. شجع نجاح هذا الفيلم المنتجين على تمويل أفلام روبرت فلاهرتي اللاحقة وأبرزها فيلم “موانا” (1925) الذي يصور بأسلوب شعري الحياة في إحدى الجزر. “الرجل والكاميرا” و”سيمفونية الدنباس”: الفيلمان من أشهر أفلام المخرج السوفييتي دزيغا فيرتوف الملتزم كليا، سياسيا وفنيا، إخراجا وتنظيرا، بالسينما التسجيلية، التي يعتبرها المعبر الحقيقي عن جوهر السينما وصاحب نظرية “الحقيقة السينمائية” وكذلك “العين السينمائية” التي أثرت في المسيرة اللاحقة للسينما العالمية وما تزال حتى الان. وفيرتوف بعكس روبرت فلاهرتي، يركز إلى حد كبير على إمكانيات المونتاج كأهم وسيلة فنية لإعادة تنظيم صور الواقع بطريقة إبداعية عميقة المضمون. ويعتبر فيرتوف أحد أوائل وأهم التجريبيين نفي تاريخ السينما، خاصة، السينما التسجيلية. ويتضح هذا التجريب بصورة أساسية من خلال فيلمه “الرجل والكاميرا السينمائية” (1929)، الذي اعتبره المؤرخون بمثابة بيان نظري مرئي حول إمكانات فن السينما التسجيلية. والفيلم عبارة عن تلاحق محموم ومتسارع لصور الحياة الملتقطة عبر كاميرا المصور الذي يتجول في المدينة ويلتقط جريان الحياة فيها في لقطات يعيد المخرج تنظيمها مونتاجيا. استخدم فيرتوف في هذا الفيلم كل ما كان متاحا له من مؤثرات بصرية معقدة. أما فيلمه “انشودة الدنباس” او “الحماس” (1931)، وهو أول أفلامه زمن بداية السينما الناطقة، الذي يتابع عملية بناء أحد السدود، فقد تميز من ضمن ما تميز به بالاستخدام المبدع للأصوات الطبيعية، وعن هذا الاستخدام كتب شارلي شابلين بعد مشاهدته للفيلم في أمريكا: لم أكن أتصور انه يمكن تنظيم الأصوات الصناعية بهذه الطريقة الجميلة، وإنني اعتبر “فيلم الحماس” أفضل أفلام العام واعتبر السيد فيرتوف موسيقارا عظيما”. “برلين.. سيمفونية المدينة الكبيرة”: هذا الفيلم التسجيلي الطويل الذي تم إنتاجه في العام ،1927 هو أشهر أفلام المخرج الألماني والتر روتمان. تأثر روتمان في فيلمه هذا بأفكار دزيغا فيرتوف حول جوهر وطبيعة السينما التسجيلية وخاصة نظريته التي أطلق عليها عنوان “العين السينمائية”. يصور الفيلم مدينة برلين خلال يوم واحد بدءا من الفجر وحتى آخر الليل متتبعا مظاهر الحياة فيها لحظة لحظة. يلتقط الفيلم بذكاء معبر نبض وإيقاع الحياة في برلين العاصمة. وعلى الرغم من التركيز على تصوير الناس العابرين في الشوارع بأعداد متزايدة مع تقدم ساعات النهار والليل، إلا أن الفيلم لم يجعل الناس هدفه بل نجح في التعبير عن نبض وإيقاع المدينة المكتظة بواسطة البناء الإيقاعي للصور المتلاحقة. “الجسر” و “المطر”: فيلمان تسجيليان تجريبيان قصيران من إخراج يوريس إيفنس، المخرج التسجيلي الذي حمل لقب الهولندي الطائر لكثرة ما أخرج من أفلام تسجيلية سياسية في أنحاء العالم المختلفة. صنع يوريس إيفنس العديد من الأفلام التسجيلية السياسية المهمة ولكن التي تميزت فنيا وتعبيريا، ومنها فيلم “بوريناج” (1932)، عن إضراب عمال أحد المصانع لجأ فيه إلى إعادة تجسيد حادثة مظاهرة شهيرة مستخدما نفس العمال الذين شاركوا فيها، فاتحا بذلك طريقا جديدة أمام السينما التسجيلية تتمثل في إمكانية إعادة تجسيد الحدث و إمكانية استخدام الممثل غير المحترف، ومنها فيلمه الشهير “الأرض الإسبانية” (1936)، الذي يتحدث عن الحرب الأهلية في إسبانيا الذي تعاون فيه مع الكاتب الأمريكي الشهير إرنست همنغواي في إعداد السيناريو وكتابة نص التعليق. ينتمي فيلما “الجسر” (1927) و”المطر” (1928) إلى المرحلة المبكرة من تجربة يوريس إيفنس الإبداعية زمن السينما الصامتة. أخرج يوريس إيفنس الفيلم القصير “الجسر” متأثرا بأسلوب المدرسة المستقبلية في الفن التي سادت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين في أوروبا، والتي كانت تهدف بشكل أساسي للتعبير عن الحركة والإيقاع. وفيلم “الجسر” كان عبارة عن دراسة فنية إبداعية لحركة قطع الحديد التي يتكون منها جسر متحرك، وكان الفيلم في النتيجة أقرب إلى السيمفونية البصرية المؤلفة من حركة المعدن. ولم يخل فيلمه التالي “المطر” من تجريبية إبداعية، حيث عمد المخرج إلى بناء قصيدة مرئية من خلال تصوير اللحظات الأولى لسقوط المطر في أرجاء المدينة المختلفة وردود أفعال العابرين على ذلك. اعتبر أحد النقاد آنذاك أن فيلم “المطر” ينتمي إلى السينما الصافية. “بريد الليل”: لم تنأ السينما البريطانية بدورها عن محاولات التجديد في مجال السينما التسجيلية. ويمثل الفيلم البريطاني “بريد الليل” (1935) للمخرج والباحث السينمائي بازيل رايت إحدى التجارب المجددة في السينما التسجيلية، فهذا الفيلم الذي يدور موضوعه حول آليات توزيع البريد، لم يكتف بأن يكون فيلما إخباريا أو تعليميا أو دعائيا لمصلحة هيئة البريد، بل صاغ موضوعه عبر شكل توافقت فيه الغنائية الشعرية مع المدرسة الواقعية الاجتماعية، المتأثرة بأفكار رائد السينما البريطانية التسجيلية جريرسون، و التي كانت آنذاك التيار السائد في السينما البريطانية سواء الروائية أو التسجيلية التي كانت توصف بأنها سينما الوقائع. “رسائل من سيبيريا”: هذا الفيلم من أكثر أفلام المخرج الفرنسي التسجيلي المبدع كريس ماركر، الذي اشتهر بفيلميه السياسيين “نعم كوبا” و “بعيدا عن فيتنام” تعبيرا عن أسلوبه الذاتي وموقفه الخاص من السينما التسجيلية. وصف كريس ماركر بأنه شاعر التقنية (السمعبصرية) والمؤلف الذي يجمع في أفلامه بين الصور المتحركة والثابتة وشريط الصوت المؤثر إضافة إلى التعليق الأدبي المعبر. أخرج كريس ماركر في العام 1957 فيلمه “رسائل من سيبيريا” الذي صور مادته في روسيا. وفي هذا الفيلم حقق تجربة تتعلق بمدى قدرة الفيلم التسجيلي أن يكون موضوعيا. تمثلت هذه التجربة في تكرار عرض مشهد واحد مصور في الشارع العام ثلاث مرات مع تغيير التعليق المصاحب للمشهد ذاته في كل مرة. يظهر في المشهد مجموعة عمال يعملون في حفرة في الطريق وفي الخلفية تمر حافلة مكتظة بالركاب. وقد كان التعليق المرافق للمشهد سلبيا ناقدا للسلطة عند عرضه في المرة الأولى، وإيجابيا دعائيا في الثانية، وموضوعيا محايدا في الثالثة. “فاشية عادية”: يعتبر هذا الفيلم التسجيلي الطويل الذي أخرجه المخرج السوفييتي ميخائيل روم في العام 1964 من العلامات الفارقة في تاريخ السينما التسجيلية التي تتعامل مع الوثائق السينمائية المصورة. استخدم المخرج في هذا الفيلم مجموعة كبيرة من الوثائق السينمائية التي جرى تصويرها من قبل سينمائيي الإعلام النازي بهدف الدعاية للنازية، لكن المخرج ميخائيل روم استخدمها في الفيلم ليستفيد منها في الدعاية المضادة للنازية، فأعاد تجميع العديد من هذه المشاهد ضمن سياق سردي مختلف وتمكن من استخلاص مفارقات كوميدية منها مستفيدا من إمكانات المونتاج والتعليق الساخر. وكان الفيلم قد عرض في حينه في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية، كما عرضته بنجاح شعبي العديد من صالات السينما الأوروبية. “طيارون في البيجامات”: يمثل الفيلم الألماني الذي تم إنتاجه في العام ،1968 زمن جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشرقية، “طيارون في البيجامات” تجربة خاصة في السينما التسجيلية السياسية التوجه تميز مجموعة الأفلام التي تحمل توقيع اثنين من السينمائيين الألمان، هما الثنائي فالتر هاينوفسكي و جيرهارد شويمان. وهو فيلم تسجيلي طويل يقوم في أساسه على مجموعة مقابلات أجراها هذان السينمائيان مع الطيارين الأمريكيين الأسرى الذين كانوا يقبعون في سجون فيتنام الشمالية بعد أن أسقطت طائراتهم فيما هم يقومون بقصف القرى الفيتنامية. أساس المقابلات استنطاق الطيارين، كل على حدة، للحديث بكل صراحة عن ما فعلوه وجعلهم يواجهون عذاب ضميرهم ويكشفون عن معاناتهم إذ يستذكرون الجرائم التي ارتكبوها، و لا يكتفي الفيلم بذلك بل يكشف كيف يتحول الجنود العاديون من بشر إلى آلة مبرمجة لكي تقوم بالقتل. من المشاهد التي ظلت عالقة في ذهني حتى الآن ومنذ أن شاهدت الفيلم في العام 1968 أثناء عرضه في مهرجان لايبزغ الدولي المخصص للسينما التسجيلية، مشهد نموذجي يدل على الذي يتميز به شويمان وهاينوفسكي، يعرض فيه المخرجان على طيار أمريكي قبعة من القش من النوع الذي يستخدمه الفلاحون الفيتناميون. ويسأل أحد المخرجين الطيار عن رأيه في القبعة، فيلاحظ أنها قبعة ضيقة، أي أنها تصلح فقط لرأس طفل، ويلاحظ تاليا أن حوافها عريضة جدا. ويستمر السؤال والجواب حول القبعة ليصل إلى حقيقة أن القبعة مصنوعة بهذا الشكل لكي تحمي رأس الطفل الفيتنامي من القنابل العنقودية التي كان يستخدمها الطيارون الأمريكيون. واحد من أشهر أفلام هذين المخرجين فيلم بعنوان “مولر.. الرجل الضاحك” وهو مقابلة طويلة جدا استدرج فيها المخرجان المجرم مولر، زعيم المرتزقة في الكونغو، بعد جلسة ودية شرب فيها مولر على مدى ساعات الكثير من الخمر، لكي يتحدث ضاحكا (ومن هنا جاء عنوان الفيلم)، وهو في حالة من النشوة والفرح، عن المجازر والجرائم وعمليات القتل التي ارتكبها شخصيا في الكونغو أو شاركه فيها أعوانه المرتزقة. السينما التسجيلية العربية بالتوازي مع التجارب الناجحة في حقل السينما التسجيلية العالمية، والتي اكتفينا هنا بنماذج تأسيسية منها تنتمي إلى فترة العقود الستة الأولى من القرن العشرين، عرفت السينما التسجيلية العربية منذ سبعينات القرن العشرين العديد من الأفلام التسجيلية المميزة التي استفادت من أفضل خبرات ومناهج السينما التسجيلية في العالم ومنها، على سبيل المثال لا الحصر الفيلم المصري “صائد الدبابات” للمخرج خيري بشارة ، والفيلم المغربي “اليام اليام” للمخرج أحمد عناني، والفيلم السوري “بعيدا عن الوطن” للمخرج قيس الزبيدي، والفيلم الفلسطيني صور من ذكريات خصبة “للمخرج ميشيل خليفي”. وإذ لا يتسع المجال هنا للحديث عن مجموعة التجارب الهامة التي عرفتها السينما التسجيلية العربية، فسنكتفي بالتعريف بنموذج حديث نراه قريبا جدا من أسلوب شويمان وخاينوفسكي، هو فيلم “الاجتياح” للمخرج الفلسطيني نزار حسن، الذي يتحدث عن مجزرة جنين من خلال بطل الشخصية الرئيسية في الفيلم وهو جندي “إسرائيلي” كان يقود الجرافة التي تقدمت رتل الجيش الذي اقتحم جنين، الجرافة التي استخدمت لكي تهدم البيوت وتمهد الطريق أمام الدبابات “الإسرائيلية” لاختراق شوارع المخيم الضيقة. يضع المخرج سائق الجرافة داخل صالة عرض سينمائية صغيرة ويجلس المخرج نفسه في المقعد خلفه ويعرض عليه مشاهد مصورة من جنين المدمرة ويتحاور معه حول المعركة التي جرت ويجعله يكشف عن آليات عمله في هدم البيوت وان يحاول التعرف من خلال صور البيوت المهدمة الى البيوت التي أسهم في تدميرها، وفي النتيجة يجعله يعيش أزمة ضمير. الخليج الإماراتية في 6 ديسمبر 2004 |