تونس - عدنان حسين أحمد |
على رغم الجانب الجمالي لفيلم "الضوء" (26 دقيقة), إلا أن المخرج اللبناني بيار سلّوم يعوّل على سينما الموضوع, أو السينما الواقعية بتعبير أدّق, لأن همّه الأساس هو إيصال "رسالة ما" إلى المتلقي, علَّ هذا الأخير يستفيد من مضمونها, ويُسهم مع المخرج في التغيير, والإصلاح, وترميم الذات الجريحة أو المنكسرة. ومن السمات الحسنة التي تميزّ رؤية بيار سلّوم, وتعكس ثقافته الجدّية اعترافه بوجود خلل ما في الذهنية, وعطب في طريقة تفكير المواطن العربي إذا تعلّق الأمر بالقانون, وضرورة الالتزام بالضوابط الحضارية التي تحكم المجتمعات المتقدمة, أو تلك التي تمضي في طريقها إلى التقدم, والحياة المدنية المتحضرة. ومَكمن اعتراف المخرج سلّوم يتجلى في تصريحاته الدائمة بأن "أرواحنا تشوّهت بفعل الحروب المتلاحقة", وبالتالي فإنها تحتاج إلى علاج حقيقي كي تتماثل للشفاء, وتستأنف حياتها من جديد. من جوهر هذه الفكرة "الخطيرة" ينطلق فيلم "الضوء" بما ينطوي عليه من محمولات رمزيـة شديدة الدلالة. الفيلم يسرد قصة واقعية لم تُحسم بعد في البلدان العربية, أو اكثر بلدان "العالم الثالث". فحتى المواطن المتسلح بثقافة غربية, والذي يقف عند إشارة المرور, سواء أكان راجلاً أم راكباً, ينتابه وسواس الرغبة في تجاوز هذه الإشارة. بمعنى أن هناك مساحـة ملوّثـة في لا وعيـه الفـردي لم تعتد على الانضبـاط, واحتـرام القوانين التي سنّها المتخصصون من أبناء المجتمع المديني المتحضر. تُرى, ما الذي فعلته الحرب اللبنانية بعقول الشعب اللبناني وأرواحه؟ وما هو حجم الخراب الذي لحق بالذهنية الجمعية له؟ وهل أن إعادة الإعمار يجب أن تبدأ بالإنسان أم بالبنيان؟ هل استطاع المواطن اللبناني أن يتصالح مع نفسه بعد هذه القطيعة المرة التي دامت خمسة عـشـر عاماً؟ وهل وصل الإنسان اللبناني إلى مرحلة الصفاء الذهني والروحي بعد مرور خمس عشرة سنـة أخرى؟ زمنياً, يبدأ الفيلم بعد ثمانية أشهر من توقف الفوّهات المجنونة للبندقية والمدفع, كما ذهبت الحرب إلى أغمادها. وهذا يعني أن المسافة الزمنية ما زالت قصيرة, وبالتالي فإن الجروح لم تندمل بعد, بل ان الأنقاض, والبنايات المتهدمة, وبقايا المتاريس, واللافتات السود لا تزال ماثلة أمام أعين اللبنانيين. فكيف يريد حنّا خوري هذا الإنسان المتحضر, والمحب للحياة الطبيعية المسالمة أن يكون أنموذجاً للمواطن اللبناني الملتزم بالقوانين المدنية المتحضرة؟ لنفترض أنه ينطلق من حلمه الشخصي, ومن ذاكرته الفردية, ومن انضباطه الوظيفي إذ قضى جل حياته في خدمة هذا الوطن, حتى أنه يعرف عدد الإشارات الضوئية في كل أنحاء بيروت. تبدأ القصة بفرح شديد ينتابه وهو يرى بأم عينيه أن بلدية بيروت, ومديرية المرور فيها, انتهتا للتو من نصب "الإشارات الضوئية", فيقرر في لحظة خاطفة أن يصحب أفراد عائلته كلهم من دون استثناء, ويأخذهم جولة يندمج فيها هاجس الفخر, بتعليم الأولاد ضرورة الالتزام بالضوابط المرورية. الفيلم لا يخلو من عناصر الشد, والتشويق, وإثارة المتلقي. فعند الإشارة الأولى حيث يشتعل الضوء الأحمر يتوقف هذا الأب المتحضر, الذي لم تقوّض الحرب روحه, وعقله, وذاكرته, لكننا نفاجأ بشخص مستهتر, وخارج على القـانـون يترجـل من سيارته, ثم ينهال ضرباً على الرجل الملتزم بالإشـارة الضوئية. هنا يبرز السؤال الأكثر أهمية في الفيلم وهو: إذا كان الأب المبتهج بهذه الظاهرة الحضارية التي شاعت في لبنان من جهة, ويريد أن يعلّم أبناءه احترام القوانين وإطاعتها من جهة أخرى, ترى ماذا سيقول الأبناء وهم يرون أباهم يُقرّع, ويوسَع ضرباً ليمكث في المستشفى أسبوعاً كاملاً؟ وحينما يتماثل للشفاء نفاجأ بالموقف ذاته, فعندما يقف أمام الإشـارة الحمراء تُعاد الكَرّة, فما كان منه تحت الضغط الشديد إلا أن يتجاوز الإشارة المرورية, لكن الجرّة لم تسْلم هذه المرة, فلقد صدَم سيارة أخرى, وكان هو المخطئ, والمتجاوز على القانون, فتحمّل سُباب كل من كان موجوداً في السيارة. وحينما يعود إلى منزله يظل يراقب السيارات التي تقف عند الإشارات المرورية الكائنة قرب شقته مُسجلاً أرقام السيارات المخالفة, وصابّاً جام غضبه على سائقيها, بينما يثني على الملتزمين منهم. فجأة, ينشب خلاف حاد بين سائقَين فتتكدس السيارات عند تقاطع الطريق, وصادف أن تكون هناك عربة محملة بالفاكهة والخضار, فما كان من السائقين الحمقى إلا أن هجموا على هذه العربة, وأخذوا يتراشقون بالفاكهة التي تبعثرت على الأرض, وصـار البعـض منـهم يـرمي الشـقـق المجـاورة بحيث تمكّن أحدهم من إصابة ابن حنا خوري وأسقطه أرضـاً. وفي لحظـة الغـضـب المستطير تناول حنا بندقية الصيد, ونزل من شقته, وبينما كان الاشتباك مستمراً سدّد فوهة بندقيته وحطم الإشارات الضوئية تـبـاعاً وسط دهشة السائقين الموتورين, وحيـرة سكان الحـي الذين يعرفون مدى حـب حـنا للعلامات الضوئـية, واحترامه القوانين التي تحكم البلد الذي أحبَه أكثر من نفسه. لا شك في أن هذا الفيلم يحمل الكثير من "الرسائل" والتحذيرات, فهذه الإشارة الضوئية أوشكت أن توقد فتيل "حرب أهلية" مُصغّرة, كما أفضت إلى مشكلات أوشكت أن تودي بحياة حنا خوري المحب لوطنه, والملتزم قوانينه, لكن تظل نهاية الفيلم غير مقنعة إذا احتكمنا الى الخلفية الثقافية لبطل الفيلم, والشخصية المحورية فيه. فالنهاية أحبطت فينا الأمل, وهشمته كما هشّمت رصاصات البندقية زجاج المصابيح الضوئية, وأطفأت ألوانها الجميلة. أخرج بيار سلّوم عدداً من الأفلام القصيرة من بينها "15 مليوناً وبعد" 2000, و "عا بالي" (2002), و"صور ليلى", و"الضوء" (2003). نال هذا الفيلم عدداً من الجوائز المهمة في مهرجانات عالمية كان آخرها جائزة الصقر الفضي في مهرجان روتردام للفيلم العربي, وجائزة لجنة التـحكيم الخاصـة للفيلم القصير في الدورة العشرين لأيام قرطاج السينمائية. الحياة اللبنانية في 3 ديسمبر 2004 |