بلاد فلليني تساعد الأميركي على البراءة... والحب دمشق - فجر يعقوب |
"سينما ألوان الطيف" هي التظاهرة السينمائية الخامسة التي تدعو إليها المؤسسة العامة للسينما في سورية منذ أن تسلم الناقد السينمائي محمد الأحمد إدارتها. وقد افتتحت التظاهرة بفيلم "تحت شمس توسكانا" للمخرجة أودري ويلز, التي تجيء من البعيد لتفحص فكرة الشمس وشعاعها كما بديا لها وهي تلامس الحلم الأميركي... معكوساً هذه المرة في فضاء إيطالي مفتوح على الدفء والرعشات والحب, إذ تسكنه البهجة السينمائية بألوانها الحارة ولا يبدو ثـقل الكابوس في المهد الأصلي الذي جاءت منه الكاتبة الأميركية فرنسيس وهي في روعة عطائها الإبداعي والإنساني, إلا خفيفاً وهو يتبدد تحت شمس توسكانا الساحرة. وللمفاجأة, فإن الفيلم الذي افتتحت به التظاهرة حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان سانتياغو الدولي أخيراً لأنه - كما جاء في بيان لجنة التحكيم - "فيلم عن الحب. الحب ليس بين الرجل والمرأة فقط... وإنما بين الإنسان بعامة والفن". حقاً, فالفيلم في أجزاء مهمة منه هو تحية للمايسترو "فيفي" كما يحلو للشقراء المجنونة أن تسميه (تقصد فيدريكو فيلليني), وهي تستعيد مقاطع من فيلميه "الحياة حلوة" و"ليالي كابيريا" وتروي على لسان أبطال الفيلمين حوارات هي من نسيج الفيلم القوي والمتماسك. فهذه الشقراء المغرمة بالقبعات والآيس كريم, هي من تقود فرنسيس بالصدفة طبعاً إلى مصيرها المفرح, المصير الذي تستعيد فيه ثبات روحها القلقة ونصاعتها بعد أن عكرتها الشموس الأميركية الكثيرة, وهي أكثر من أن تعد وتحصى. تحصل فرنسيس (لعبت دورها دايان لين) على الطلاق من زوجها بعد حياة عائلية ميؤوس منها, وبسبب من النفقة المفروضة عليها قضائياً تضطر إلى بيع بيتها الذي رممته من أموال أمها واللجوء إلى شقة صغيرة يجاورها في سكناها طبيب بكَّاء (بوسعه إرشاد القاطنين إلى الانتحار بأرخص الوسائل) كما يصرح لها المالك, وفيما تنضم إلى الساكنين يعلن هذا أمام زبائن آخرين ان بوسع الكاتبة في بنايته أن تقدم النصائح للحائرين والحائرات. هكذا هو يوقع بزبائنه, وهكذا تقودها قدماها في رحلة لم يكن مخططاً لها البتة, وجهتها إيطاليا ومع حافلة يستقلها شاذون, منحرفون, حيث تلتقي بمهووسة فيلليني الشقراء التي أقنعها المعلم الكبير - بحسب ادعاءاتها - بضرورة تناول الآيس كريم بكميات كبيرة وارتداء القبعات البيض ما أمكنها ذلك, لأن ذلك يساعد في الحفاظ على براءة الأطفال, وهذه هي الحكمة من الوجود الإنساني برمته, كما سنلاحظ في دفاع فرنسيس عن حب العامل البولندي المعدم بافل للفتاة الإيطالية كيارا. هنا يكمن الحب بين البشر, وليس في ذلك الذي تدعيه العجوز بلقائها الافتراضي مع حبيب عبر الأنترنت... تكذبه الوسائط الحيَّة التي تنبع من حب حقيقي يظهره البولندي الفتى أمام والد كيارا ووالدتها. بهذا الحب لم يعد بافل مهاجراً نكرة, وفرنسيس التي تعمل برفقة عمال بولنديين على ترميم الفيلا الريفية التي اشترتها, إنما تستعيد روعة زمن ضائع, لم تكن تحلم فيه, حتى وهي تكتب نقداً عن كتب لمثقفين, لا تتذكر هي شيئاً عنهم, أو عن كتاباتهم, وهي لا تتذكر حتى ما إذا كان نقداً سلبياً أم إيجابياً. وحده يطل فيلليني المخرج المثقف ليظلل حياة فرنسيس الجديدة بزمن سينمائي خالد تظهر فيه المعجزات على شاكلة قبعة بيضاء, أو حتى عباد شمس على بطاقة معايدة رفضها أحد شواذ الحافلة إياها بعد أن هرب من الجحيم إلى الجحيم ليتماثل بدوره مع الريبة والشك وانعدام الرجاء بقدرة الإنسان على الخلاص, وهو الخلاص الذي لا يبحث رفاقه عنه... وإن كان دليلهم يقودهم بنبتة عباد شمس حقيقية لا يمكنها أن تترجم نصاً أدبياً, فتكتفي فرنسيس بالكتابة على قفا البطاقة كلاماً حقيقياً لا يستعيده الهارب من جحيمه إلا بالنكران والادعاء بفضيلة مزيفة شاهدتها فرنسيس كثيراً في وطنها الأم. في الفيلا الريفية (موطن الأميركية المعكوس) تعيش فرنسيس حياة جديدة, يميزها الحب, والذكريات التي تأبى أن تفارق الجدران, فهنا يقع البولندي المراهق في هوى المراهقة الإيطالية, وسرعان ما سيتحول حبهما إلى ذكريات لا تخفف من قوتها إلا أشعار فياتسيسلاف ميلوش التي تقرأها فرنسيس باللغة الإنكليزية على مسامع أستاذ الآداب المهاجر... البولندي جيرزي, والذي يعمل لديها عامل ترميم في الوطن الجديد, وكأنهم جميعاً هاربون من أحوالهم في بلادهم إلى رحابة الشعر الذي لا ينقرض هناك. تقودها سيول الذكريات الدافئة إلى الوقوع في هوى الشاب الإيطالي مارشيلو, الذي يجيء مطابقاً للأحلام السينمائية, ففيما الشقراء المجنونة تلهو في بركة الماء يكون علــى مارشيلو ماستروياني أن يخرجها أمام أنظار الفضوليين, تعيش فرنسيس علاقة عاطفية معه تستعيد فيها إحساسها بالنضارة, لكن مارشيلو يخيب آمالها بارتباطه بحبيبة أخرى... وإن صدقت نبوءتها بخصوص زواج يحصل في الفيلا وتكوّن عائلة جديدة, فذلك مرده إلى الذكريات, والذكريات وحدها التي تتألق دوماً تحت شمس توسكانا في كناية بديلة... عن براءة الأطفال, التي تحفظ لفرنسيس معنى وجودها, هناك بين أناس عزّل... إلا من الحب, وهذا هو مغزى وجود الإنسان. كما رآه المايسترو الكبير "فيفي" في أفلامه كلها! حقاً... فالقبعة الملونة بالأحمر والأسود تحقق لها "نبوءتها" بزواج البولندي الغريب مثلها من الإيطالية المراهقة, فيما تجيء صديقتها صاحبة الملامح الآسيوية من أميركا لتضع مولودها, على أن كاتباً سائحاً عرف بوجودها صدفة, يذكّرها بنقدها لكتابه ( لا تتذكر هي شيئاً من هذا النقد) والذي ساعده وسط دهشتها على الانتقال إلى كتابه الثاني. تغيّر شمس توسكانا الساحرة من طبيعة الفن, بعد أن تغيّر من الأرواح, وتعيد لها هدأتها المفقودة في نيويورك... المدينة التي لا حدود لها, ولا شموس فيها, ولا ذكريات. هكذا ترسل المخرجة أودري ويلز, النيوزيلندية الأصل, ببطاقة معايدة إلى المخرج الكبير فيلليني... تحدثه فيها عن براءة الأطفال والشمس والأجراس, كما جاء في بطاقة فرنسيس (غير المفهومة) إلى أم أحد المنحرفين الشاذين الذين يفتقرون إلى الحضور الإنساني برمته... كانت كتبتها لها نيابة عنه! الحياة اللبنانية في 3 ديسمبر 2004 |