مشاهدات في مهرجان السينما الأوروبية الحادي عشر ألمودوار الأصدق والأقوى وفون ترير الأقسى والأبلغ رانيا الرافعي |
إتسمت الدورة الحادية عشرة لـ"مهرجان السينما الاوروبية" بعدة خيارات صائبة وبجهد ملحوظ لرفع مستوى المهرجان الجيد في الاصل، مع انضمام دول جديدة الى الاتحاد الاوروبي مقدما هذه السينما بديلا من احتكار السينما الهوليوودية لدور السينما في العالم. ومن الخيارات المهمة فيلم بيدرو ألمودوار الجديد "التربية السيئة" وفيلم لارس فون ترير "دوغيل" وفيلم طوني غاتليف "منافٍٍ" وفيلم امير كوستوريكا "الحياة معجزة" لاختتام المهرجان. وكل هذه الاسماء يتوق اليها محبو السينما والاوفياء للمهرجان السنوي واضفت عليه طابع الجدة والنوعية العالية. كذلك عرض افلام الطلاب على حدة في عروض مخصصة لهم، فضلا عن الافلام اللبنانية القديمة التي اتاحت اكتشاف المجهول منها وتوفير متعة ليست متصلة بالضرورة بنوعية الفيلم بل بعلاقة الجمهور به، وتتراوح بين الحنين والفضول والتعرف الى مرحلة المحاولات الاولى في السينمائية اللبنانية. والليلة المخصصة للافلام التجريبية امر جيد اذ قلما تتاح لنا فرصة مشاهدة هذا النوع السينمائي في صالات العرض او حتى في المهرجانات. تميز المهرجان بالتنظيم الجدي والنوعية الجيدة، لكن فيلم الافتتاح "احب ان احب" للمخرج الهولندي ليفر فرليفر بدا كأنه لا ينتمي الى تلك الاختيارات الجيدة، ولا يصلح فيلما للافتتاح. فنوعية الفيلم السيئة، وهو ليس "خفيفا" حتى، فالعديد من الافلام الاميركية خفيفة وممتعة، بل انه شريط ثقيل جدا وغير مسل يحاول المزج بين كوميديا الموقف الساذجة جدا، و"البورليسك" البدائي، جامعا كل الكليشيهات المضجرة. الى تحفة پيدرو ألمودوار الجديدة "التربية السيئة" ويصنف من نوع "الفيلم الاسود" وهو كذلك في تفاصيل شكلية كالموسيقى والايقاع الذي ينذر دائما بما سيأتي، وغالبا الاسوأ، كأن الفيلم في انحدار دائم نحو هاوية، ويعي ابطاله داخليا انهم ينزلقون الى حفرة سوداء. "التربية السيئة" تظهر في عدة اشكال وصول، واقلها حدة ما يتصل بالتربية الدينية، كأن المخرج يدين هذه التربية بكثير من الخفة والفكاهة ولا يعطيها ثقلا دراميا. المشاهد الاكثر حميمية بين انريكي وخوان او سواهما من شخوص الفيلم تهبنا انطباعا بأنها عدة وجوه لشخصية واحدة او بالاحرى عدة طرق لإخبار قصة واحدة. تركيبة الفيلم قائمة على التلاعب بكل عناصره فتعيد تركيب الشخوص والادوار، والاحداث ووجهات النظر تخضع لاسلوب ألمودوار في لفت نظرنا الى المشاعر التي تتملك شخوصه. تصب في شكل الفيلم المعقد، البعيد عن الادعاء والكثير الشفافية. اما جانب الفيلم الميلودرامي و"الكيتش" فلا يؤثر على الجانب الحقيقي والانساني، وهذا ما ينجح ألمودوار في ابرازه في معظم افلامه. لا يتناول "التربية السيئة" التربية الدينية والشواذ الجنسي و"التراستية" الا مما اجل توظيف هذه العناصر في قصة تحول الشخصيات دائما من ضحايا الى جلادين، وما هو اكثر اهمية لألمودوار التطور العاطفي والنفسي لشخوصه في حقبة معينة يشير اليه المخرج في بساطة واختصار، كتلك الجملة التي تقولها زهارا للأب مانولو في فيلم انريكي "حريتي الآن تهم اكثر من خبثك"، مشيرا بذلك الى الانفتاح الذي بدأ يجتاح المجتمع الاسباني في الثمانينات. الاهم لألمودوار شخوص فيلمه، ولا يقوم على لوم هذا او ذاك او حتى اظهار مَن الضحية او ما هي العبرة، فالأب مانولو هو ايضا ضحية "التربية السيئة" ووجهه المعذب خلال تحرشه بالتلميذ انريكي لا يخلو من القسوة، كذلك سائر الشخوص الاخرى التي تتداخل وتتطور في ايقاعات متضاربة ومتزاوجة تنتهي بجملة كأنها توقيع المخرج الشخصي "انريكي ما زال يصور افلامه في شغف" وينتهي الفيلم على هذه العبارة المحملة بالسوداوية، وبالقوة والحب، على صورة افلام ألمودوار عامة. "قطط شارع الحمراء" للمخرج اللبناني الراحل سمير الغصيني ممتع جدا، فالفيلم المصور في اوائل السبعينات يمكن ان يضحكنا اليوم ولا يتمتع بالنوعية، لكنه يعكس حقبة مهمة في تاريخ السينما اللبنانية ويخبرنا الكثير عن طريقة تفكير المخرجين اللبنانيين في السبعينات ومحاولاتهم الفردية لتعزيز الصناعة السينمائية عبر باب السينما المصرية التي كانت الاكثر جماهيرية في السبعينات. استقبل الجمهور الفيلم بحنين ممزوج ببعض السخرية، للصورة الكاريكاتورية التي يظهرها عن بيروت السبعينات، وعن الجنس والتحرر والعديد من القضايا التي يختلف اسلوب تناولها اليوم لكنها تعيدنا في جوهرها الى تلك الحقبة فنخال فتاة تنتحر عن صخرة الروشة اذ حملت من احدهم. والسؤال الاجتماعي كم تطورت اليوم تلك القضايا التي طرحها جيل السبعينات، علما ان بيروت اليوم فيها شجر وتنانير قصيرة اقل بكثير من بيروت السبعينات. فالى ماذا اوصلتنا اولى المحاولات السينمائية في لبنان؟ تلك الافلام لم تصور على الاقل باللهجة المصرية المخرج الدانماركي لارس فون ترير، وعلى مألوفه، يتميز فيلمه الجديد "دوغيل" بالخلق والابداع والجدية الفائقة في تطبيق تجارب سينمائية يمكن وصفها بـ"التجارب العلمية". واجمل ما في سينما لارسن فون ترير انها تهجس بالبحث عن الشكل والمضمون في طريقة رزينة، وهو يعمل في شكل صارم على طريقة ستانلي كوبريك، ويفكك دوما فيلمه ليعيد تركيبه بوصفات عديدة تخلط الادب والمسرح والصورة والصوت. "دوغيل" خلطة مركبة ومتقنة لمسرح بريشت الذي يدخلنا عالمه المسرحي قائلا هذه مسرحية، مثلما يقول "دوغيل" انه فيلم، وقسم اجزاء ليؤكد على السلطة التي يمارسها فون ترير على اعماله، فارضا على الجمهور القوانين التي يريدها لرواية القصة. ورغم ان الشكل في "دوغيل" فريد وجديد، وهذه الطريقة في التجريد ووضع الشخوص في استوديو رسمت ارضيته في اسلوب طفلي، تتخطاها قوة القصة والحوارات. يرجعنا الراوي الى شكل القصص الخرافية السوداء. والاروع في الفيلم زحف الشخوص وتطورها البطيء او السريع، فنصدق ونتأثر بكل ما تفعله وإن بدا مبالغا وغير واقعي في الديكور الاسود. ينجح المخرج في معاملة مشاهديه مثل اطفال يخبرهم قصة غير "حقيقية" لكنها تبدو شيئا فشيئا واقعية جدا ويعتمد في خلق هذا الاقناع على ممثليه الرائعين مديرا على نحو بديع الممثلة الكبيرة نيكول كيدمان مبرزا لديها الجانب الانساني الذي لم نألفه في افلامها السابقة. سوداوية "دوغيل" ذكية تزيدها حدة، على عكس ما نعتقد، العناصر الطفلية المبسطة التي استخدمها على پلاتو الفيلم، لتمسي الجدلية الفلسفية في الفيلم حوارا بين المخرج وشخوصه لايجاد حل لما يمكن ان يجعل العالم "مكانا افضل". وليس بريئا اختيار المكان والزمان في قصة "دوغيل" فالبلدة اميركية، يقول الراوي بشيء من السخرية والزمن هو 1929، اي الحقبة التي ترمز الى الكثير في التاريخ الاميركي، وتبرر الى حد ما لعبة السلطة التي تقوم عليها "امبراطورية" اميركا. وترير لا ينتقد هنا المجتمع الاميركي في طريقة انتروبولوجية، بل يحاول علميا كشف تصرفات الكائن البشري في موضوعات كالسلطة والقوة والانتقام، كاختبارات علمية وينهي الاختبار بمجزرة كأن الاستئصال بات اسهل من الشفاء. مؤسف جداً، في المقابل، مستوى الفيلم البولندي "إيدي" للمخرج بيوتي ترزاسكلسكي، رغم ان مؤدي دور إيدي ممتاز، الا ان الحوارات تطرق ابواباً بسيكودرامية تبقى دائماً غير مكتملة، وحبكة السيناريو الساذجة تخرّب الجو الدرامي وعلاقة إيدي وصديقه في المدينة الكبيرة التي تبتلعهما. كأن الفيلم مشطور نصفين، نصف جيد وعميق الى حد ما ويتعلق بالمشاهد التي تخص إيدي، ونصف آخر يحوّل الفيلم مسلسلاً مكسيكياً، فيبدو الفيلم أعرج غير متوازٍ. النهار اللبنانية في 3 ديسمبر 2004 |