ايطاليا تتذكر دي سيكا في الذكرى الـ30 لوفاته روما ـ موسى الخميسي |
ثلاثون عاما مرت على وفاة احد عباقرة السينما الإيطالية فيتوريو دي سيكا هذه الأيام، لتحتفل ايطاليا بإقامة مهرجانات احتفالية شاركت بها معظم وسائل الإعلام ووزارة الكنوز الثقافية الإيطالية في أكثر من مدينة. "لقد مت خمس مرات، قمت بإخراج بعض الأفلام الرديئة، والكل كان يصرخ باني قد انتهيت، الا انهم كانوا يتنبأون باني قد انبعثت من جديد" بهذه العبارة الجريئة الصادقة بدأ دي سيكا يتحدث في الفيلم الوثائقي الطويل الذي قدمه المخرج بسكوالى ميزوراكا، عن عبقري السينما الإيطالية وتجربته الفنية، وبدايات حياته الفقيرة في مدينة نابولي. يقول دي سيكا" لقد بدأت العمل عندما كان عمري 11 عاما وكانت عائلتي حينها تغرق في مياه الفقر، وحتى أستطيع كسب بعض النقود لتسديد أقساط دراستي، كلفني المخرج ادواردو بيجيفيكينا بالقيام بدور صغير للغاية مع الممثلة فرانشيسكا بيرتيني، وكان اسم الفيلم( أشغال كليمنجو) وكان دوري هو ان افتح الباب واصرخ بأعلى صوتي.. ماما.. ما ما". كانت تلك الصرخة التي أطلقها الطفل دي سيكا والتي اعتبرها النقاد آنذاك بأنها أروع ما في الفيلم، بمثابة باب الرزق والأمل الجديد لطفل موهوب ساهم فيما بعد بكل جرأة وإبداع بخلق عالم سينمائي جديد. الى سنوات قليلة حين كان يؤتي على ذكر الثورة التعبيرية التي حققتها السينما الإيطالية( الواقعية الجديدة) منذ أواسط سنوات الأربعين في القرن الماضي ، كان اسم فيتوريو دي سيكا يتصدر أسماء أقطاب ذلك التيار، الى جانب روسيلليني وفيسكونتي وانطونيوني وفيلليني وفرانشيسكو روزي، ولكن بعد ذلك راح اسم دي سيكا ينسى بالتدريج على الرغم ان واحدا من أفلامه الأساسية وهو "سارق الدراجات" الذي أنتجه عام 1948 ، يرد دائما في أي لائحة يصفها نقاد السينما العالمية متضمنة أهم عشرة أفلام في تاريخ الفن السابع. وربما كان السبب في ذلك ان دي سيكا اعتبر على الدوام ممثلا أكثر منه محرجا سينمائيا، وان الأفلام المتميزة التي حققها كانت قليلة العدد نسبيا اذا ما قورنت بأفلامه التجارية الترفيهية، ولكنه يقول" لقد كنت اشعر باني مخرج سينمائي ملتزم، ولكن للقيام بادوار سينمائية كممثل فقد كنت على الدوام اشعر بانها نزعة فطرية بداخلي". ومع هذا ثمة حقيقة لا يتعين نسيانها، وهي ان واحدا من أفلام دي سيكا الأولى وهو " الأطفال ينظرون الينا" عام 1944 كان بمثابة البداية لبعث الروح الواقعية في السينما الإيطالية، وبمثابة إشارة لولادة تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية التي قال عنها" لم يكن هدفنا النفقات، بل قول الحقيقة للناس" . وقد تعززت اتجاهاته الواقعية من خلال تعاونه مع كاتب السيناريو اليساري الشهير تشيزره تسافاتيني. وهذه الحقيقة كانت غالبا ما تسمى حتى خلال السنوات الأخيرة من حياة دي سيكا الذي حين رحل عن عالمنا هذا الشهر عام 1974 رثاه الكثيرون بوصفه واحد من نجوم السينما الضاحكة في ايطاليا متذكرين الأدوار العديدة التي لعبها في أكثر من مئة فيلم منذ عام 1926 وكان معظمها من إخراج غيره. في أفلامه الأولى التي مثلها قبل ان ينتقل الى الجانب الأخر من الكاميرا، كان دي سيكا يبرع في الأدوار الكوميدية العاطفية، وكان يعرف كيف يسحر جمهوره المتزايد عددا بابتسامته الملائكية وملامحه الشعبية ليخلق بين الدمعة والابتسامة عالمه السينمائي. وفي جميع الأحوال لم يكن دي سيكا بعيدا عن روح الشعب، لانه مولود في مدينة نابولي في السابع من شهر تموز عام 1901 وانتقل ليعيش في روما مع عائلته في عا 1912 حيث درس المحاسبات، وبدأت اهتماماته بالمسرح والاستعراض اعتبارا من عام 1922 ، وراح يرتقي في عالم النجومية عبر عشرات الأفلام التي حققت له الشهرة ما جعله في أوائل الأربعينات يقرر التحول الى عالم الإخراج السينمائي. وكان فيلمه الأول" الوردة القرمزية" الذي تلته أفلام عديدة متفاوتة القيمة حتى فيلمه الأساسيين" يوم جمعة تريزا" و" الأطفال ينظرون الينا" الذي حققاهما خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وكانا من الجودة بحيث دفع مخرجاهما بعد انتهاء الحرب الى اتخاذ قراره بتكرار التجربة والمساهمة في بعث الحركة السينمائية الجديدة في ايطاليا المهزومة. وهكذا راح يحقق على التوالي بعض أروع أعماله منها" تشوشيا" عام 1946 مع صوفيا لورين، ثم فيلم" سارق الدراجات" و" معجزة في ميلانو" عام 1951 ، و" امبرتود" عام 1952 ،و" ذهب نابولي" الذي تم ترميمه العام الماضي من قبل المؤسسات الرسمية، وكلها أفلام رمى من خلالها دي سيكا الى رسم صورة واقعية لايطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، صورة يختلط فيها العاطفي بالرصد الاجتماعي، والنزعة الإنسانية بحس التعاطف مع الشرائح الاجتماعية المسحوقة في المجتمع من الأطفال المهجورين ، الى العاطلين عن العمل، الى المتقاعدين من دون أمل، قدمها برؤية واعية خلقت مكوناتها التحولات الكبيرة التي شهدها المجتمع الإيطالي في الأربعينات بانتهاء الحرب العالمية الثانية، ودحر الفاشية، وإقامة النظام الجمهوري الجديد. والحال ان هذه الأفلام ظلت هي الرصيد الكبير الذي تملكه دي سيكا عليه كل سمعته اللاحقة، ونادرا ما تمكن في ما بعد ان يضاهي ما أبداه من قوة تعبير فيها الى درجة ان النقاد والمؤرخين انتهوا الى اعتبار المخرج الإيطالي الكبير تزافاتيني الذي برز اسمه في الفترة الفاشية هو المسؤول الأول عن جودة تلك الأفلام لدي سيكا. في عام 1953 حقق دي سيكا فيلم" المحطة الأخيرة" الذي اعتبره النقاد بداية لمرحلة الانحطاط الفني، وبالفعل منذ ذلك الحين ، حقق دي سيكا عددا كبيرا من الأفلام، وصحيح انه كان بينها أفلام جيدة مثل " تشوشارا" عام 1960 عن قصة الكاتب البيرتو مورافيا وبطولة صوفيا لورين والذي نالت عنه هذه الممثلة القديرة جائزة الاوسكار، وكذلك فيلم" أمس واليوم وغدا" عام 1962 شارك صوفيا لورين البطولة الراحل مارشيللو ماستروياني، وفيلم" الرحلة" عام 1972، الا ان النقاد اخذوا عليه في سنواته الأخيرة، تهافته بإخراج الأفلام ذات النزعة التجارية الترفيهية السريعة، الا ان هذا المخرج كان بحق بمثابة مانيفستو عملي لموجة سينمائية تحمل قواعد وأصولا وعناصر يسهل إتباعها وتعميقها فترك بصماته على الذوق السينمائي العالمي واثر فيه، وقد ساعد حسه الشعبي في إدراك معاناة الإنسان الإيطالي البسيط المهمش والذي تناوله بواقعية مؤثرة غيرت شكل السينما الإيطالية ونزلت بها الى الشارع. تذكر ابنته ايمي عن والدها بأنه حين التقى بالممثل شالي شابلن قال له الأخير" أرجوك ان تهرب من هوليود لأنك شاعر". في مطلع العام القادم ستشهد دور السينما الإيطالية والعالمية فيلما عن حياة هذا الفنان من إخراج الإيطالي موريتسيو بونسي تحت عنوان" تلك الأضواء المنطفئة" والذي يسلط الضوء بدايات الواقعية الإيطالية الجديدة، وما تميزت به من ثراء بالغ في وحداتها التعبيرية وتعدد صورها الفكرية التي مجدت قيمة الإنسان فأكدت حقه في الحياة الشريفة، لترفع شعار روسيلليني القائل" قبل كل شيء علينا معرفة الناس كما نراهم" وكان يستنهض السينمائيين الإيطاليين التعبير عن مشكلات وأحلام الناس. والفيلم الذي يتناول واحدة من الفترات التاريخية العصيبة في حياة ايطاليا، يؤكد على الدور الكبير الذي لعبه دي سيكا عام 1943 عندما استولت القوات الألمانية على معدات السينما الإيطالية، لنقلها الى ألمانيا، واضطر العديد من السينمائيين الإيطاليين الى إخفاء اكبر عدد ممكن من هذه المعدات التي صدرت أوامر صريحة بالاستيلاء عليها لتسفيرها الى مدينة البندقية( فينسيا) ومن ثم وضعها تحت رقابة جمهورية سالو القزم التي أقامها الألمان لموسوليني في الشمال الإيطالي بحجة الحفاظ عليها من آثار الحرب، وكان دي سيكا مع عدد آخر من العاملين في معامل واستوديوهات السينما" جينا جيتا" في العاصمة روما، قد سارع الى عقد اتفاق سري مع الفاتيكان يتضمن إنتاج فيلم " أبواب السماء" يموله الفاتيكان، ليكون مبررا لبقاء بعض المعدات وطاقم من الممثلين والمخرجين والتقنيين داخل مدينة روما لإنجاز المهمة، الأمر الذي يحول دون تدخل القوات الألمانية في فيلم ينتج بأمر من الفاتيكان مباشرة. وهكذا أنقذ هذا الفنان العديد من العاملين والكثير من المعدات السينمائية في ايطاليا بعيدا عن أيادي النازية التي كانت تنوي الاستيلاء عليها. موقع "إيلاف" في 3 ديسمبر 2004 |