نظرة على الأفلام الطالبية في المهرجان الأوروبي تراجع خطر في المستوى الإبداعي والفني نديم جرجورة |
تجديد الذاكرة نديم جرجوره لا تقتصر المشاركة السينمائية اللبنانية في <<مهرجان السينما الأوروبية>>، المُقام حالياً في بيروت، على الأفلام الطالبية المتنافسة على جائزتين ماليتين رمزيتين، تمنحهما <<بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان>> لأفضل فيلمين تشجيعاً للمواهب الشابة. ذلك أن النتاج السينمائي اللبناني الروائي الطويل بات حاضراً في هذا النشاط السنوي، الذي يعتبره محبّو السينما اللبنانية نافذة متواضعة للإطلالة على بعض القديم المُرمّم بفضل جهود <<مؤسّسة سينما لبنان>>، وعلى بعض الجديد الذي لا يزال أصحابه محتارين إزاء عرضه في مهرجان أوروبي يعتقدون أنه ربما يؤثّر سلباً في جماهيرية عرضه التجاري، إذا وافق أحد الموزّعين اللبنانيين على منح هذا الفيلم اللبناني أو ذاك فرصة جدّية لعرضه. أتاح عرض أفلام لبنانية قديمة فرصة نادرة لمشاهدة نماذج مختلفة شكّلت جزءاً من الذاكرة السينمائية اللبنانية. فعلى الرغم من أي رأي نقدي أو شعبي يكشف هشاشةً فنية أو بهتاناً درامياً أو خللاً تقنياً في هذا الفيلم أو ذاك، بدت المختارات مرآة صادقة لواقع <<صناعة>> لا تزال لغاية اليوم حكراً على المبادرة الفردية التي لعبت الدور الأول وشبه الوحيد في إنجاز هذا الكَمّ الهائل من الأعمال المتنوّعة. وفي مقابل ما يثيره بعض هذه المختارات من ضحك وسخرية وتعليقات انتقادية لاذعة، تطال الإخراج والتمثيل والحبكة والتصوير وغيرها، لا يُمكن التغاضي عن أهمية التجارب التي أفضت إلى بلورة مفهوم متجدّد وصحّي للسينما اللبنانية الحالية. حسناً فعلت <<مؤسّسة سينما لبنان>> بقرارها ترميم بعض الأفلام اللبنانية الروائية الطويلة المُنتجة منذ سنين طويلة. وحسناً فعلت <<بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان>> بعرضها هذه الأفلام لجمهور لبناني معنيّ بها وراغب في مُشاهدتها. فبفضل هذين الترميم والعرض، تُستعاد مراحل مختلفة من المسار التاريخي للسينما اللبنانية، ويُعاد صوغ محطات بارزة من التحوّلات المتنوّعة التي عرفها إنجاز الأفلام في لبنان منذ خمسة وسبعين عاماً. ومن خلال هذين الترميم والعرض أيضاً، تطلّ أسماء مخرجين وممثلين وتقنيين <<غابوا>> في مجاهل النسيان اللبناني، وافترقوا عن وعي شبابي يصرّ غالبية أصحابه على التنكّر لهذا الماضي الجميل بما فيه من أخطاء وحسنات. ذلك أن تجربة كهذه، على الرغم من عمرها القصير جداً (بدأت البعثة الأوروبية عرض أفلام لبنانية قديمة منذ العام الفائت فقط) تسعى إلى إعادة صوغ علاقة <<شبه>> مبتورة بين الماضي والحاضر، وتحاول أن تعكس جزءاً من الذاكرة المنقوصة، بعرض أفلام قديمة <<شاهدة>> على عصرٍ أفل. لا يخضع اختيار الأفلام القديمة المنوي ترميمها لمعايير ثابتة أو قواعد جاهزة، وذلك بسبب صعوبة الحصول على بعضها، أو صعوبة ترميم بعضها الآخر. مع هذا، فإن الجهد المبذول في هذا الإطار يستحقّ التفاتة شعبية ودعماً مؤسّساتياً جماعياً لتطويرها وبلورة خطابها الثقافي القائل بترميم الذاكرة السينمائية اللبنانية، أو أقلّه بمحاولة ترميم جزء منها. السفير اللبنانية 2 ديسمبر 2004 |
للعام الرابع على التوالي، تخصّص <<بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان>> جائزتين ماليتين رمزيتين (الأولى بقيمة 1500 يورو والثانية بقيمة 500 يورو) لأفضل فيلمين طالبيين، بهدف تشجيع المواهب الشابّة، وذلك في خلال <<مهرجان السينما الأوروبية>> الذي تنظّمه سنوياً منذ العام 1992. في إطار الدورة الحادية عشرة التي تُقام حالياً في صالتي سينما <<أمبير>> في <<مركز صوفيل>> في الأشرفية بين الخامس والعشرين من تشرين الثاني الفائت والخامس من كانون الأول الجاري، اختير سبعة عشر فيلماً طالبياً من خمس جامعات خاصة والجامعة اللبنانية، شاهدتها لجنة تحكيم تألّفت من أوروبيين اثنيين هما رومان ماسون (المركز الثقافي الفرنسي) وكريستوف دو باسومبيار (السفارة البلجيكية في لبنان) وثلاثة لبنانيين هم المنتجة سابين صيداوي والمخرجة رين متري والناقد السينمائي الزميل نديم جرجوره. هنا مقالة نقدية تُعبّر عن رأي شخصي بحت، لا عمّا تداوله أعضاء اللجنة. يُذكر أن النتائج تُعلن في حفلة الختام التي تُقام مساء الأحد المقبل، قبل عرض الفيلم الجديد للبوسني أمير كوستوريتزا <<الحياة معجزة>>. لا شكّ في أن مشاهدة الأفلام الطالبية التي يُحقّقها المتخرّجون الشباب تثير تساؤلات عدّة. فالغالبية الساحقة منها لا تملك حدّاً أدنى من السوية الفنية والتقنية والدرامية والجمالية، في حين أن معظم الذين أنجزوها لا يستحقّون صفة <<سينمائي>> أو <<مخرج>>، بسبب تدنّي المستوى الثقافي والفني والفكري. وفي المقابل، هناك طلاب شباب يتمتّعون بوعي فني كبير وثقافة متنوّعة وحساسية سينمائية لافتة للنظر. يكشفون عن جانب إبداعي مهم في أعمالهم، ويُظهرون نواة احترافية متواضعة وقابلة للتطوّر إذا ما أتيح لها ذلك. يقدّمون أنفسهم <<مخرجي المستقبل>>، ويقنعون المشاهدين بامتلاكهم المتواضع أدواتهم الفنية والتقنية والدرامية. علاقة الشباب بالسينما هؤلاء قلّة إزاء العدد الكبير من الضائعين بين سطوة الصورة والعجز عن تمتين العلاقة الإبداعية بها. ذلك أن شباباً عديدين يختارون السينما ظنّا منهم أنها تفتح لهم أبواب الشهرة والنجومية، فإذا بهم يُسوّقون أنفسهم في المهرجانات والتظاهرات والنشاطات المختلفة، وإذا بإدارات الجامعات المنتسبين إليها تدعمهم في ذلك بدل أن توجّههم صوب الطريق الصحيح، وأن تُغربلهم بالشكل الموضوعي والسوي: تساعد من يبرهن عن رغبة حقيقية في السينما، ثقافة ووعياً واحترافاً، وتوصي الآخرين باختيار ما يناسبهم من اختصاصات أكاديمية. بما أن الجامعات لا تلعب دوراً توجيهياً بقدر ما تفتح أبوابها للجميع بحجّة عدم رغبتها في رفض أحد، وبما أن معظم الشباب لا يتعامل مع السينما كفن وصناعة وحرفة تتطلّب جهوداً جبّارة لامتلاك أدواتها، التي تسمح بصنع سينما حقيقية لا مجرّد حكايات مبتورة وأشكال منقوصة، فإن مشاهدة أفلام التخرّج، خصوصاً في الأعوام القليلة المنصرمة، تكشف تراجعاً خطراً في المستوى الإبداعي والفني والتقني والثقافي والفكري والجمالي في غالبيتها الساحقة. وإذا اخترتُ الأعوام الأربعة الماضية فقط، التي شاركتُ في خلالها في لجان التحكيم الخاصّة بمسابقة الأفلام الطالبية في <<مهرجان السينما الأوروبية>>، فإن الملاحظة الأولى التي أسوقها تؤكّد أن التراجع موجود، وأن ندرة الأفلام الطالبية الجدّية تعكس جانباً من مأزق الوعي الثقافي والفكري في المجتمع اللبناني. فبعض الطلاب مأخوذ بالشكل البصري على حساب المضمون، كأنه لا يفقه كيفية سرد حكاية أو كتابة قصّة أو وضع سيناريو. والبعض الآخر يُقدّم ملامح احتراف ما، في الشكل أو في المضمون أو في كليهما معاً، لكنه سرعان ما يقع في فخّ الرتابة أو الخلل أو العجز عن الإمساك بتفاصيل اللعبة الفنية. في الدورة الحادية عشرة ل<<مهرجان السينما الأوروبية>>، شارك سبعة عشر فيلماً طالبياً من معاهد السينما أو الفنون السمعية البصرية التابعة ل<<الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة>> (ألبا) و<<الجامعة اللبنانية الأميركية>> و<<جامعة سيّدة اللويزة>> و<<جامعة الروح القدس (كسليك)>> و<<جامعة القديس يوسف>>، بالإضافة إلى <<معهد الفنون الجميلة>> في <<الجامعة اللبنانية>>. أما الأفلام المشاركة فهي بحسب برنامج عروضها، الذي بدأ عند الثالثة من بعد ظهر الأحد الفائت، متضمّنا <<72 ساعة>> ليارا نشواتي و<<إيريس>> لسامر بستاني و<<صُنع في لبنان>> لماريا استنبولي و<<إنه يبكي>> لعلي بيضون و<<شكيب>> لمارك صايغ و<<يومين أو تلاته>> لكارولين أبو زكي. تُقام الحفلة الثانية عند العاشرة والنصف من مساء اليوم الخميس، وتُعرض فيها <<الحرية دائما>> لنديم صوما و<<نجّنا من الشرير>> لفادي طنّوس و<<أليس في بلد العجائب>> لبتينا واكد و<<تبقا حكيني>> لآنا سعد و<> لتوني طنّوس و<<مسافة الطريق>> لباميلا غنيمة. أما الحفلة الثالثة والأخيرة فتُقام عند الثالثة من بعد ظهر السبت المقبل في الرابع من كانون الأول الجاري، وتضم <<أول طابق عاليمين>> لرنا سالم و<<يعقوب>> لبيدروس تميزيان و<<حْمَرّ فتلو>> لشارل مارينا و<<مطارات>> لعسّاف آنجيلي و<<أزمات>> لميراس صادق. تنويعات مختلفة من بين هذه الأفلام كلّها، اخترتُ خمسة أقنعتني، بشكل أو بآخر، بوجود نواة احترافية ما تشي بإمكانية التطوّر الإبداعي المطلوب، أو بأدوات سينمائية واضحة. ف<<شكيب>> رسم صورة لواقع إنساني من خلال حبكة متواضعة قدّمت شاباً بسيطاً اسمه شكيب، طُلب منه أن يؤدّي دور كومبارس في فيلم يتناول مظاهر الحياة والفنون في قريته، لكنه لا يظهر فيه بسبب المونتاج. بلغة سينمائية شفّافة وإدارة جيّدة للممثلين وحبكة درامية مبسّطة، أنجز صايغ فيلماً صادقاً وإنسانياً من دون أي ادّعاء شكلي أو قصصي. في حين أن باميلا غنيمة التقطت، في <<مسافة الطريق>>، بعضاً من التفاصيل اليومية، كي تعيد بناء العلاقات الإنسانية بين الناس والمجتمع والذاكرة، في قالب بصري جميل. من جهتها، توغّلت رنا سالم في خصوصية الفرد وعالمه الضيّق، في <<أول طابق عاليمين>>، كي تُشرّح الذات من خلال شخصيتي لآنا ووليد المقيمين معاً في منزل واحد، والمنغلقين على تفاصيلهما الخاصة. من ناحية أخرى، تناول <<يومين أو تلاته>> موضوعاً إنسانياً مقتبساً من واقع الألم والتشرّد الفلسطينيين، بعيداً عن الخطابية المباشرة وإلقاء المواعظ واستدرار الدموع. ذلك أن كارولين أبو زكي لاحقت راعياً فلسطينياً هُجّر من قريته فتاه في قرى لبنانية برفقة ابنه نضال بحثاً عن جدّة هذا الأخير. وازنت أبو زكي بين الحكاية المعروفة وعلاقة نضال بالعصافير، كي تكشف حجم البؤس الكامن في الأسر والرغبة في التفلّت من قيود الموت والانكسار. الموت نفسه، وإن بشكل مختلف تماماً، شكّل خلفية <<تبقا حكيني>> لآنا سعد، التي نجحت في تحويل الدقائق الأربع لفيلمها إلى مرآة عكست حالة نفسية ومناخاً إنسانياً قاسياً، عن فتاة تحادث والدها عبر الهاتف الخلوي، قبل أن تظهر حقيقة المسألة كلّها. أما الأفلام الأخرى فضائعة بين الوعظ والخطاب الأخلاقي (<<نجّنا من الشرير>> و<<أليس في بلد العجائب>> و<<إيريس>>)، والمعالجة المسطحّة لمسائل حياتية مهمّة (<<حْمَرّ فتلو>> و<<يعقوب>> و<<صُنع في لبنان>>)، وغياب سمات درامية أو جمالية أو فنية (<<72 ساعة>> وje d'echec و<<إنه يبكي>> و<<مطارات>>). هناك فيلمان يلفتان النظر بسماتها السينمائية المتواضعة، التي سرعان ما تختفي في الإطالة التي تخلق مللاً وادّعاءً بصرياً: <<أزمات>> و<<الحرية دائما>>: الأول قراءة في معالم القمع والانكسار الذاتي، والثاني ترجمة للتفتّت الاجتماعي من خلال شخصيات تائهة في القلق المبطّن والألم الداخلي المصنوعين بقالب مصطنع. السفير اللبنانية في 2 ديسمبر 2004 |