امستردام ـ عدنان حسين أحمد |
لا تستطع التجارب الفنية أن تصمد طويلاً أمام تقادم السنوات ما لم ترتكز علي مبدأ الصدق الفني الذي يستمد شروطه الخاصة من الرؤية الواضحة التي تسمي الأشياء بمسمياتها، وترد النتائج المروعة الي أسبابها الحقيقية التي أدت الي تفشيها بين شرائح خاصة من الناس، وتفجرها في زمان ومكان مُحَددين. وغالباً ما تلعب الرؤية القاصرة لكاتب السيناريو ومخرج الفيلم دوراً كبيراً في تشويش المتلقي، المصدوم أصلاً بسبب بعض الظواهر السلبية التي تنهش في عقل المواطن العربي، وذاكرته المُضببة. فحينما يقرر أحد المخرجين العرب أن ينجز فيلماً سينمائياً عن ظاهرة الارهاب فانه يجد نفسه مُحاطاً بخلاصات غير أمينة، ومراوغة، أو مفبركة أحياناً، بحيث تختزل هذه الظاهرة الخطيرة بالتطرف الديني المتشدد، وتنسي ارهاب الدولة المنظم، والذي تمارسه الحكومات في أغلب بلدان العالم الثالث ضد أبناء جلدتها، كما تتفادي الاشارة الي العوامل الأخري المشجعة علي الارهاب مثل تفشي البطالة، وغياب الحريات الشخصية والسياسية، وهيمنة التأويلات الغيبية التي تستلب من الانسان قدرته في التفكير، والاجتهاد، واعمال الذهن. وجدير ذكره أن السينما العربية قد تعاطت مع ظاهرة الارهاب لكنها ظلت بمنأي عن التحرش بأجهزة الدولة القمعية بحيث باتت هذه الأفلام تصب في مصلحة الدولة أكثر مما تتصدي لظاهرة الارهاب نفسها. ومع ذلك فقد ظهرت بعض الأفلام الجادة التي تصدت لفكرة الارهاب، وأشارت من دون وجل الي دور الدولة في تغذية هذه الظاهرة المقيتة التي روعت الناس الآمنين في عدد من الدول العربية لعل الجزائر أبرزها، مناط بحثنا في هذه الدراسة النقدية التي ترصد، وتحلل الرؤيتين الفنية والفكرية لفيلم رشيدة للمخرجة الجزائرية يامينا بشير شويخ. لابد من الاشارة الي أن رشيدة هو الفيلم الروائي الطويل الأول ليامينا شويخ، كما أنها كتبت سيناريو الفيلم كي تعبر عن وجهة نظرها الحقيقية، والشجاعة، والتي لا يعتورها اللبس، والغموض، والارتباك. جرأة الثيمة وبنية الادانة الصريحة ان ما يميز هذا الفيلم عن سواه من الأفلام العربية التي تعاطت مع فكرة الارهاب هو وضوح رؤيته، وتشخيص الأسباب الحقيقية التي دفعت باتجاه تغذية هذه الظاهرة، وتصعيدها. فهناك العديد من الأفلام الروائية التي اتخذت من الارهاب محوراً لها، ويكفي أن نشير الي فيلم الارهاب والكباب و طيور الظلام لشريف عرفة، والارهابي لنادر جلال، والناجون من النار لعلي عبد الخالق و الآخر ليوسف شاهين، و الصحافيون للمخرج الجزائري كريم طرايديه، و العالم الآخر للجزائري مرزاق علواش. وبغض النظر عن طريقة تعاطيهم مع موضوعة الارهاب من وجهة نظرهم الخاصة التي تدين جانباً محدداً، وتهمل عن قصد أو قصور في الفهم جانباً آخر قد يكون أشد خطورة، وهو ارهاب الدولة المنظم، الا أن يامينا شويخ تصر علي تناول الجانبين في آن معاً علي رغم خطورة هذا الموقف الذي قد يفضي الي ما لا تُحمد عقباه. قصة الفيلم بسيطة، وليس فيها تعقيدات في البناء الدرامي، لكنها لا تخلو من عناصر الشد، والترقب، والتشويق، والرعب الحقيقي الذي يتلبس المشاهد أيضاً. وقبل الخوض في تفاصيل القصة السينمائية لابد من القول ان المخرجة لم تختر أسماء مشهورة في عالم السينما الجزائرية، بل اختارت عن قصد أسماء غير معروفة. وحتي دور البطولة أُسندته الي ابتسام جوادي وهي ما تزال طالبة في المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية في الجزائر. وقد أفادتها خبرتها الأكاديمية في التمثيل علي اتقان دورها الذي تألقت فيه ونالت عليه جوائز كثيرة تشهد علي تمكنها في تقمص هذه الشخصية الاشكالية التي تنطوي علي الاصرار، والعناد، والتحدي، والشجاعة الفائقة. قصة الفيلم تدور حول رشيدة معلمة شابة، تزاول عملها في احدي المدارس الابتدائية في العاصمة الجزائر. وقد بدت هذه المعلمة متحررة، لها آراؤها وقناعاتها الخاصة فيما يتعلق بالحجاب، والحرية الشخصية. وفي أثناء ذهابها الي المدرسة يعترضها شابان يرتديان زياً أوروبياً، كنا نتصور أنهما يغازلانها أو يتحرشان بها، لكن صراخها الحاد والمفاجئ أوحي لنا بشيء أكثر حساسية من موضوعة التحرش أو الغزل العابر. الغريب أن هذين الشابين اللذين يرتديان الجينز قد طلبا منها أن تضع قنبلة في حقيبتها اليدوية كي يكون ضحيتها الأطفال هذه المرة. وحينما أصرت رشيدة علي موقفها الرافض أطلق أحدهما النار عليها وتركها تتخبط بدمائها وسط حيرة الناس الذين صعقهم هذا المشهد الارهابي بحيث لم يحرك أحد منهم ساكناً، فأصحاب المحلات أغلقوا أبوابهم، بينما كنا نسمع وقع خطي هاربة. فالرعب يبدو جماعياً، والعجز قد امتد ليشمل جميع من في الحارة، لولا أن تقدم رجل كبير منها ليتأكد ان كانت الرصاصة أصابت منها مقتلاً أم أن قلبها ما يزال ينبض بالحياة. وحينما اكتشف أنها غائبة عن الوعي بفعل الطلق الناري وهول الصدمة التي تعرضت لها غطاها بشرشف ألقته امرأة كانت تراقب المشهد من طابق علوي، ثم جاءت الاسعاف لتقلها الي المستشفي حيث يأتي لزيارتها كل من أمها وحبيبها علي وجه السرعة. وحينما تتماثل للشفاء وتكتشف أن الحياة قد باتت مستحيلة بالنسبة لها في العاصمة، تقرر هي وأمها أن تغادر العاصمة الي الريف علها تكون في منأي عن هؤلاء الارهابيين الذين أخذوا أشكالاً متعددة مثل الطلبة المُغرر بهم، والعاطلين عن العمل، والمجرمين الذين يفرزهم العنف الاجتماعي، ورجال الدين الأصوليين الذين لم نرهم بالزي التقليدي، ولكننا كنا نشعر بأياديهم الخفية التي تطلق علي زناد أسلحة الغدر والارهاب. في تلك القرية النائية يلاحقها الارهابيون المجرمون أيضاً، ويقضون مضجعها، وتزداد الأحداث درامية حينما نكتشف أن أباها رفض عودة أبنته التي اغتصبها الارهابيون، وأراد أن يقتلها غسلاً للعار كما هو شأن التقاليد الاجتماعية في أغلب المدن والقري العربية. ثم تبلغ الأحداث ذروتها حينما يفجر الارهابيون المدرسة الابتدائية في القرية الصغيرة النائية، لكن رشيدة تضع سماعات الوكمان في أذنيها، وتخرج بزيها المعتاد ذاهبة الي المدرسة وسط مخلفات الجريمة النكراء في اشارة الي أن نافذة الأمل تظل مفتوحة بالرغم من جرائم الارهابيين، وفي لقطات فنية أخاذة نراها تتهادي في طريقها الي المدرسة حيث بدأ الأطفال يتوافدون تباعاً، ثم تستأنف رشيدة درسها في حب الوطن الذي لا يركع أمام هذه الضغوطات الشاذة التي حصدت أرواح الكثير من المواطنين الجزائريين الأبرياء. هذا الفيلم ينطوي علي ادانة صريحة لكل مصادر الارهاب، ومنابعه، ومسبباته. فالمخرجة لا تستثني أحداً، ولا تلقي اللوم علي الأصولية الدينية المتشددة فقط، بل أنها تتحدث عن ارهاب الدولة، وتواطئها مع الحركات الدينية في ظروف معينة، وتشير من طرف غير خفي الي البطالة المتفشية، والفقر المدقع، واحتكار السلطة، وسواها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تنعش ظاهرة الارهاب، وتدفع بها الي مشارف الهاوية. أبعاد الرؤية النقدية تعرض فيلم رشيدة الي انتقادات متنوعة، بعضها اصطف الي جانب المخرجة، وبعضها الآخر وقف ضد الفيلم جملة وتفصيلاً. فالناقدة المصرية علا الشافعي تري في هذا الفيلم عملاً يضج بالحساسية والموهبة، ويضع أيدينا علي مكمن الألم والجراح في الجزائر . خلافاً لما يوحي به الفيلم أول وهلة وكأنه يحاول أن يفتح أبواب التمويل الأجنبي أو يغازل الذهنية الأمريكية والأوروبية من خلال التصدي لموضوعة الارهاب، أو تقديم صورة سلبية عن المواطن العربي أو الاسلامي، أو التركيز علي عناصر التخلف، والأصولية المتشددة، ولكن لو دققنا النظر جيداً لوجدنا أن هذا الفيلم يعبر عن وجهة نظر امرأة عربية مثقفة ثقافة عميقة، اضافة الي كونها فنانة معروفة عملت في حقل المونتاج لمدة طويلة من الزمن، وبالذات مع زوجها المخرج المعروف محمد شويخ، لكنها تخلت عن المونتاج لكي تُخرج فيلمها الروائي الأول الذي حصد العديد من الجوائز، ورُشح للأوسكار في مهرجان كان ذائع الصيت في دورته الخامسة والخمسين. ومن الأطروحات القوية التي تدافع عنها يامينا شويخ هي أن الفيلم يقف ضد العنف الموجه ليس علي المرأة غير المحجبة، والتي تخرج من دون محرم حسب، وانما هي تقف ضد العنف الموجه الذي يستهدف الانسان الجزائري بعامة، سواء أكان رجلاً أو امرأة أو طفلاً صغيراً. وعلي رغم هذه الرؤية الواضحة فان البعض يعيب عليها أنها وضعت يدها علي الجرح فقط، كما فعل سينمائيون آخرون، وهم يطالبونها بتقديم الحلول لهذه المشكلة العويصة، متناسين أن الفنان لا يقدم حلولاً، فهو ليس مصلحاً اجتماعياً، أو مفكراً، أو مؤرخاً، أنه ببساطة شديدة فنان له القدرة علي رصد مثل هذه الظواهر الخطيرة، وتأشيرها، وعلي المتخصصين والمسؤولين في الدولة ايجاد الحلول الناجعة لها. الشاب الذي قدمته يشكو من البطالة، والتهميش، والنسيان، والمرأة الأم تعرب عن يأسها المطلق في هذا الظرف الذي لم تسهم في صناعته، والمرأة رشيدة أو النساء بعامة مطاردات لأسباب غير منطقية. فالمخرجة تعتقد أن توفير الحياة الآمنة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ أسس المجتمع الديمقراطي، واتاحة المجال أمام الحرية الشخصية والسياسية كفيلة بانهاء ظاهرة الارهاب والاجهاز عليها في بؤرها الشريرة. كما أنها تعلن صراحة خشيتها من مجيء الاسلاميين الي السلطة لأنهم، بحسب تصورها، سيفرضون مشروعهم الديني المتشدد، وسيحرمون الناس من كل أشكال الحياة العصرية المتحضرة. وتعتقد أن السبب الرئيس في ضعف المواطن العربي، وهشاشته الفكرية هو خضوعه الكامل منذ مرحلة الدراسة الابتدائية الي التلقين الفكري الفادح للحزب الواحد الذي يمتلك مقاليد الأمور في أي بلد عربي، وليس في الجزائر وحدها. فالاملاء الفكري، والببغائية الآيديولجية لا يصنعان مواطناً قوياً مُحصناً، بل علي العكس سيكون هذا الكائن البشري المُدجن ضعيفاً، وواهناً، قابلاً للانكسار والهزيمة، ولا يري من هذه الحياة المتنوعة، الثرية الا جانباً نمطياً واحداً. أغلب التغطيات والدراسات النقدية التي كُتبت عقب مشاهدة الفيلم ركزت علي الجانب السياسي في الفيلم، وتعاطت معه وكأنه وثيقة رسمية لادانة هذه الممارسات الارهابية، في حين كان الفيلم يتوافر علي مواصفات فنية ناجحة جداً، ولعل الجائزة التي أسندها مهرجان الاسكندرية السينمائي لابتسام جوادي التي برعت في تأدية دورها الأول، وتألقت فيه وكأنها فنانة محترفة لها خبرة متراكمة في التمثيل، هي اعتراف بموهبتها الفنية الفذة، وتتويج لأدائها المتقن الذي شدَ المتلقين، وحبس أنفاسهم. القدس العربي في 2 ديسمبر 2004 |