مهرجان كوبنهاغن الثاني للافلام الوثائقية:
منير المجيد |
اكتظت صالة العرض الجديدة في فندق راديسون بالمدعوين الي امسية افتتاح المهرجان العالمي الثاني للافلام الوثائقية في دورته الثانية (كوبنهاغن من 3/11/ الي 14/11). وعلي غير عادة المهرجانات الاخري، فأمسية الافتتاح شملت الي جانب عرض فيلم سورن فاولي قاتل جدي حفل توزيع الجوائز علي الافلام المتنافسة. ولن ادعي ان الحفل طمح الي محاكاة هوليوود في بهرجه وضجيجه، بل تم ببساطة وبهجة دنماركية معتادة. والشرائط الوثائقية مازالت تنقل اكثر فأكثر صور عالمنا المضطرب الي دور السينما وشاشات التلفزة. ودورها في كل المجالات هائل، واضافة الي ذلك فهي تضرب الان الارقام القياسية بنسبة الاقبال الجماهيري عليها. وانوه هنا بالطبع الي تأثير مايكل مور، بدءا بسلسلة افلامه التلفزيونية الانتقادية كحد السكين، ومرورا بـ Bowling for Columbine الذي حاز عليه الاوسكار عام 2002، واخيرا Fahrenheit 9/11 من انتاج هذا العام، والذي كاد ان يلعب دورا رئيسيا في الانتخابات الامريكية الاخيرة، بسبب انتقاده العنيف لجورج بوش الابن. لا شك ان مايكل مور صعد بالفيلم الوثائقي الي مصاف ألمع الافلام الروائية الشعبية، الا ان هذا لا يقلل من دور العديد من السينمائيين الآخرين، والذين لا يقل نفوذهم قوة وتأثيرا علي تكوين الرأي العام وتشكيل الابعاد في الاروقة الدبلوماسية. انظروا مثلا الي ما تلتقطه الكاميرات في العراق وفلسطين، وامريكا اللاتينية وافريقيا. والصدف وحدها شاءت ان يتزامن المهرجان مع مقتل الصحافي والسينمائي الهولندي تيو فان كوخ علي يد اصولي مسلم. ولم يكن فيلمه الخضوع مدرجا في برنامج المهرجان، الا ان احدي قنوات التلفزة سارعت بعرضه، وتبع ذلك نقاش اتفق الجميع علي ادانة الجريمة والتأكيد علي حرية التعبير، دون الاشارة الي مستوي الفيلم والغاية من رسالته. ولست ازمع بدوري علي نقاشه، لانه بكل بساطة فيلم سيئ (علي الاقل من الجانب الفني)، وكاتبة السيناريو (الصومالية وعضو البرلمان ايعان هيرسي علي) لم تشأ سوي تشويه صورة المسلم والاسلام عن قصد وتصميم، دون ان تجرني الي التعاطف معها كمتفرج. لكن هذا لا يعني مطلقا اباحة قتل فان كوخ. في الواقع اساءت جريمة قتله ملايين المرات اكثر الي الاسلام مقارنة مع الرسالة التي اراد الفيلم ايصالها، لان النقاش في اوروبا اتخذ الان منحي اكثر حدة وقسوة، ومشاعر العداء للجاليات الاسلامية باتت اكثر وضوحا ومباشرة، حتي يمكن اطلاق اسم حرب اهلية صغيرة علي ما يجري في هولندا هذه الايام. تصوروا مثلا، ان يقوم رئيس الوزراء الدنماركي وقائد اكبر الاحزاب السياسية في البلاد في المؤتمر الوطني لحزبه الاسبوع الماضي، بابتكار جائزة اسماها الحرية ومنحها الي ايعان هيرسي علي. وكي تجعل الحدث اكثر دراميا، ظهرت ايعان علي شاشة مسطحة عملاقة في قاعة المؤتمر لتعلن عن شكرها وتقديرها للجائزة. وغيابها عن الحضور تم لاسباب امنية، فهي محروسة كما هو معروف ليلا نهارا. شملت عروض المهرجان 140 شريطا، فقط واحد منها جاء من بلد عربي (انتاج مصر). الا ان شرقنا المتوسط كان حاضرا في عدد كبير منها، سأجيء الي ذكر بعضها، وعرض افلام اخري في هذا المهرجان الهام. جائزة المهرجان للنمساوي ساوبر النمساوي هوبرت ساوبر يشير الي مسألة عجيبة مسرح احداثها افريقيا. في العام 1997 غادر ساوبر الي افريقيا الوسطي بهدف تحقيق شريطه يوميات كيسانغاني ، وهناك لاحظ هبوط طائرة امريكية وسط كل ذاك البؤس الافريقي محملة بأطنان عديدة من الذرة الصفراء كهبة للاجئين. بعد ذلك ببرهة حلقت طائرة روسية تشبه حيوانا خرافيا بمعدة سمينة حاملة علي متنها 50 طنا من سمك البيرك (ضرب من سمك نهري مفترس). الطائرة الامريكية لم تكن محملة بالذرة فحسب، بل بأسلحة من مختلف الاصناف. والمفارقة هي انه يمكن لهؤلاء اللاجئين تناول الذرة صباحا، وان يُقتلوا بالأسلحة التي كانت علي متن الطائرة مساء. مضت عدة سنوات وهوبرت ساوبر مازال يحاول ايجاد تفسير لما لاحظه، فعاد الي بحيرة فكتوريا وميناء موانزا في تنزانيا لتحقيق شريطه كابوس داروين ، وذاك الجسر الجوي لنقل الاسماك بين افريقيا واوروبا. وقصة الاسماك هذه تعد كارثة ايكولوجية. ففي العام 1960 وضع العلماء زوجا من سمك بيرك النيل في فكتوريا، ثانية كبريات بحيرات العالم، بهدف تحسين الثروة السمكية. ومنذاك، افترس وقضي هذا السمك، الذي ارتفعت اعداده الي المليارات، علي 240 صنفا مختلفا من الكائنات في البحيرة. وفي ذات الحين اصبح اسطورة تصدير بالغة النجاح. ميناء موانزا علي ضفاف البحيرة استقطب العديد من العمال، العاهرات، الاطفال المشردين المصابين بالايدز، صيادي السمك وطواقم الطائرات الروسية التي تحط الان محملة بالكلاشنيكوفات، آخذة بذلك دور الطائرات الامريكية، وتعلو محملة بمئات الاطنان من سمك البيرك، الذي يتلذذ بطعمه عدة ملايين في اوروبا كل يوم. سمك يأكل سمك، اوروبا تأكل افريقيا.. هكذا بكل بساطة. فيلم كابوس داروين نال الجائزة الاولي، ومنذ بضعة ايام اختارته اكاديمية السينما الاوروبية كأفضل شريط وثائقي اوروبي. ثلاث غرف للميلانكوليا واحد من اهم افلام المهرجان من اخراج الفنلندي بيريو هونكاسالو. والدنماركي نيلسن آندرسن الذي قام بعملية مونتاجه يقول ان مايكل مور فتح قابلية الجمهور بارتياد صالات السينما لمشاهدة الافلام الوثائقية، ويضيف فيلم مور ضعيف فنيا. انه فيلم دعائي ولحظات مسلية. اذا اردت عمل فيلم وثائقي فليس كافيا ان تقول ان بوش رجل غبي . وفيلم ثلاث غرف للميلانكوليا يروي في ثلاثة فصول حكايا اطفال الشيشان وروسيا بطريقة مغايرة تماما عما نتلقاه من التقارير الصحافية للتلفزة. يقول اندرسن الفيلم لا يركز علي مشاهد العنف والدمار كما نراها في الاخبار. ولا يشير الي الجاني ولا يطرح حلولا، يترك هذا للمشاهد. وهذا بالضبط ما يجعله مرعبا . قاتل جدي مفاجأة سارة من سورن فاولي الدنماركي. هذا الرجل بوسعه ان يكون اي شيء، تارة هو مخرج افلام دعائية شديدة التفاهة، وتارة اخري بعد ويقدم برامج تلفزيونية يخص السياسيين بنقد لاذع وذكي. والان يخرج فيلما مع زميلته ميكالا كروخ عن قصة مقتل جده علي يد نازي دنماركي ابان الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت البلاد تحت قبضة الاحتلال النازي. وقاتل جده نجا بجلده وهو يعيش الان معززا مكرما سنواته الاخيرة في المانيا، وباءت كل محاولات الدنمارك باعادته للقضاء بالفشل، لان المانيا رفضت علي الدوام تسليمه. فاولي سافر الي المانيا بحثا عن قاتل جده، ليس لمعاقبته بل بكل بساطة للصفح عنه. ثلاث مرات متتالية رفض النازي المتقاعد مقابلته، الي ان واتت فاولي فكرة ارسال علبة شوكولاتة له. عندها فتح له الباب وقال كلمته السحرية انا آسف لما حصل عام 1943 واعطاه زجاجة نبيذ اسبانية. الانكار هل كانت المخابرات الروسية مسؤولة عن سلسلة انفجارات الابنية السكنية في موسكو منذ خمس سنوات؟ ام كان الارهابيون الشيشان كما ادعي بوتين وشن حربه منذ ذاك علي جمهورية الشيشان؟ المخرج الروسي اندريه نيكراسوف لديه اثباتات تتوجه باصبع الاتهام الي المخابرات الروسية. وهو يجرؤ علي طرح وجهة نظره الملفتة في روسيا التي يحكم بوتين قبضته فيها بشدة علي وسائل الاعلام. فيلم يحث المشاهد علي الامعان في هذا الواقع الغريب وغير المفهوم لتركيبة المجتمع الروسي ونظامه السياسي. قد يكتفي مشاهد بهز رأسه استغرابا، بينما يقوم آخر بتصديقه. جدار اوروبا انتظرت سنوات صعبة لهدم جدار برلين، بينما تقوم اسرائيل ببناء آخر في فلسطين. هكذا ينظر الفيلم الفرنسي ـ الاسرائيلي المشترك من اخراج سيمون بيتون الي الامر. كاميرا الفيلم تتنقل من شريف عمر الذي يلتهم الجدار ارضه التي يقتات منها، الي الاسرائيلي موتي الذي يعتبره اضحوكة. في بداية الفيلم تتحرك الكاميرا المحمولة في مستعمرة اسرائيلية مجاورة للجدار، مثيرة الفزع لدي طفلة تخشي ان تكون سلاحا محمولا علي كتف المصور. هذه بلاغة غير منتظرة، لان الكاميرا قد تكون في الواقع اكثر خطورة من اي سلاح. الفيلم ينتقد ويلعن بلهجة هادئة هذا الجدار، ولا يكتفي بصب اللوم علي الجانب الاسرائيلي لوحده، بل يستغرب وجود ثلة من العمال الفلسطينيين تقوم ببناء جدار يقوم في النهاية بعزلهم. فون تريا كان هناك ايضا المخرج الدنماركي ذائع الصيت لارس فون تريا سجل حدثا تاريخيا حينما دشن في العام 1995 مع اصدقاء له شروط الدوغما للافلام الروائية. وموجة الدوغما انتشرت في ارجاء شاسعة من المعمورة، واعتبرت بأهمية الموجة الجديدة والواقعية الاشتراكية والطليعية. والشروط تلخصت بأن يصور الفيلم بكاميرا محمولة علي الكتف، دون استعمال كواليس ومكياج واضاءة خاصة وموسيقي، وسيناريو غير نهائي يدع مجالا واسعا للممثل في ترجمة وتجسيد الشخصية المؤداة. النجاح الذي حققته افلام الدوغما لا غبار عليه، وشريط الحفلة لتوماس فينتيربيرغ كان دون شك افضلها. ورغم ان اعلان موت الموجة لم يتم حتي الان، علي فرضية ان فيلم او اثنين ينتجان سنويا تحت هذا الشعار، الا ان تلك المسحة العاطفية للفكرة اختفت والي الابد. ومحاولة فون تريا بنقل الفكرة بعد تعديلات طفيفة الي الافلام الوثائقية لم يكتب له النجاح حتي الان، سوي الاسم المبتكر Dogumentary، المبني علي Documentary (التوثيقي). ولد عن الفكرة حتي الان 6 افلام لم تلق النجاح المتوقع لها، اخص بالذكر هنا فيلمي سامي سيف وبينته ميلتون. سامي سيف اثار اعجاب المشاهدين بفيلمه الدافئ العائلة حيث يسافر الي اليمن بحثا عن والده الذي لا يعرف عنه شيئا. هذه المرة يسافر الي امريكا لتحقيق American Short الذي لا يلتزم ـ ربما عن قصد ـ بمبادئ زميله فون تريا. عن الطفل جيك ورحلة عبر امريكا يقابل خلالها مظاهر امريكية مختلفة ومتنوعة: العنصرية، فيتنام، الاستهلاك الزائد، الخوف من مخلوقات الفضاء.. وهكذا. اما شريط عودة سكان النجوم للدنماركية بينته ميلتون فهو فيلم ممتع عن الدكتور نبيل شعبان الاردني الاصل والمقيم في بريطانيا. عن رجل، او بالكاد، برأس طبيعي وفائق الذكاء، وجسد مشوه صغير يشبه جسد طفل رضيع. وسبب التشويه هذا يعيده شعبان الي زواج والديه (ابناء عمومة)، ووفاة والده التي تمت في ظروف غريبة من خمسينات القرن الماضي، والتي يربطها بنظريات عن المخلوقات الذكية في الكواكب الاخري. صورة ادوارد سعيد وقيادة في شارع عربي فيلم ايمانويل هامون Selves and Others: A Portrait of Edward Said يضع احد ألمع العقول العربية في العصور الحاضرة في مركز شريطه. لمدة 54 دقيقة يتكلم ادوارد سعيد عن نفسه، حياته وسط عدد من الثقافات، شعور الانتماء، الشرق الاوسط وصور الطفولة في فلسطين ومصر، فلسفته، مرضه، صورة الاعلام الستيريوية والعلاقة الضارية بينه وبين الغائب عرفات، هذا قبل ان يغتاله مرض السرطان ببضعة اسابيع. علي نقيض عمق سعيد تنقلنا كاميرا آرثر هورلي في فيلم القيادة في شارع عربي الي شوارع القاهرة المكتظة دوما وأبدا بالناس والغبار والموسيقي وضجيج الحافلات و، نعم، حتي الجمال. من المقعد الخلفي لسيارة تكسي نتلقي حلولا بكل مسائل ومشاكل الدنيا. من جيمس بوند الي قناة الجزيرة، امريكا وحرب العراق، علاقة الشرق بالغرب وبالعكس. فيلم عن بساطة الحياة وتعقيداتها. اخيرا، اود ابداء اعجابي دون حدود بجهود كيم فوس ورفاقه في ادارة هذا المهرجان، وهم نفس الطاقم الذي سنة بعد اخري يفرحون قلوب عشرات الآلاف من عشاق السينما بتقديمهم مهرجان افلام الليل. كيم فوس حاول ويحاول دون كلل احضار افلام عربية، بالاتصال بالمؤسسات الثقافية والسينمائية وبعثات التمثيل الدبلوماسي، دون ان يحالفه الحظ تماما. اسرائيل عن طريق سفارتها في كوبنهاغن تقدم كل العون، وكل الافلام المتاحة.. هل من مجيب؟ القدس العربي في 30 نوفمبر 2004 |