أسئلة حول فيلم الافتتاح الهولندي "أحبّ أن أحب" في "مهرجان السينما الأوروبية" فيلم ألمودوفار "التربية السيئة" يعكس نشوة الحرية في إسبانيا الحديثة نديم جرجورة |
افتتحت <<بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان>> الدورة الحادية عشرة ل<<مهرجان السينما الأوروبية>> مساء الخميس الفائت بعرض فيلم <<أحبّ أن أحب>> للهولندي بيم فان هويفي في <<قصر الأونيسكو>>. هنا كلمة عن فيلم الافتتاح وما رافقه من جدل، وفيلم <<التربية السيئة>> لبيدرو ألمودوفار. أثار الفيلم الهولندي <<أحبّ أن أحب>> لبيم فان هويفي جدلاً في أوساط المهتمّين بالفن السابع. رأى بعضهم أنه غير جدير بافتتاح مهرجان سينمائي. وجد بعض ثان أنه مسلّ، بما فيه من حكاية بسيطة وأداء عاديّ ومعالجة متواضعة مزجت بعض الكوميديا بشيء من الرومانسية. اعتبر بعض ثالث أن الحبكة المبسّطة قدّمت مناخاً من الرقّة و<<الدهاء>> والشفافية والأحاسيس الإنسانية. قال بعض رابع إنه مجرّد عمل ساذج ومُسطّح، وإن أحداثه متوقّعة سلفاً. جدل فيلم الافتتاح في هذه الآراء كلّها حقائق عدّة، لأن في الفيلم خليطاً من نماذج فنية متنوّعة لم تُصنع بلغة سينمائية محترفة بقدر ما حافظت على لغة تلفزيونية في إنجازها. المخرج نفسه قال، في حوار صحافي (<<صدى البلد>>، 27/11): <<بدأتُ في الدراما التلفزيونية لا ال<<سيتكوم>> الذي يحظى بصيت سيئ جداً في هولندا>>. ليس فان هويفي أول مخرج يأتي إلى السينما من التلفزيون أو ال<<فيديو كليب>> أو الإعلان. غير أن فيلمه هذا لا يخرج عن البساطة الفنية والدرامية والتقنية المصنوع بها. هذه البساطة نفسها أثارت قلق عشّاق السينما إزاء اختيار هذا الفيلم لافتتاح مهرجان يرونه أحد أفضل النشاطات الثقافية والفنية المُقامة سنوياً في بيروت، مع أن البعض ارتاح لها (أي البساطة)، إذ منحته <<مدخلاً هادئاً ومتواضعاً>> للبدء بمهرجان غني بتنوّعه الأوروبي. لا أرى <<أحبّ أن أحب>> فيلماً سينمائياً بامتياز، ولا حلقة تلفزيونية عادية. إنه بسيطٌ يصلح لسهرة منزلية، ومُسلّ يُشاهَد في أوقات الفراغ. أما اختياره للافتتاح، فيطرح تساؤلات عدّة: ترتبط جنسية فيلم الافتتاح بالبلد الذي يترأّس الاتحاد الأوروبي. هذه مسلّمة لا يمكن تجاوزها. هناك أيضاً آلية اختيار الأفلام: تتعامل البعثة، مُنظّمة المهرجان، مع سفارات الدول الأعضاء العاملة في لبنان، مما يؤثّر سلباً، في بعض الأحيان، على البرنامج السنوي، الذي يتضمّن غالباً نوعية غير سوية أو عادية أو متواضعة من الأفلام المختارة. لهذا، لم تعثر البعثة على فيلم هولندي أُنتج مؤخّراً، أفضل من <<أحبّ أن أحب>>، إذ إن هولندا تترأّس الاتحاد الأوروبي. لو أن البعثة تتعامل مع موزّعين أو معنيين مباشرة بالسينما لهان الأمر قليلاً، إذ ربما استطاع هؤلاء الحصول على الأحسن. هناك آلية ثابتة لاختيار الأفلام، لا تستطيع البعثة أن تتخطّاها. وهذا ما يضرّ أحياناً بها، إذ تجد نفسها مضطرّة لقبول أفلام عادية للغاية إلى جانب بعض العناوين القليلة جداً التي نالت نجاحاً نقدياً وجماهيرياً ما، التي أمكنها الحصول على حقّ عرضها في المهرجان بفضل تدخّل ديبلوماسي ما. خارج هذه التساؤلات كلّها، بدا <<أحبّ أن أحب>> فيلماً بسيطاً وعادياً يشاهده المرء بعيداً عن أي خلفية ثقافية وفكرية ما، وبمعزل عن أي اهتمام جماليّ وفنيّ بالسينما المختلفة. فالفيلم الهولندي عبارة عن سلسلة مواقف (مطوّلة أحياناً) بطلتها صبيّة في مطلع الثلاثينيات من عمرها، يتخلّى عنها حبيبها العائد إلى زوجته فتقرّر التخلّي عن الرجال من دون أن تنجح في تحقيق هذا، إذ سرعان ما تُغرم بشابين اثنين في وقت واحد، صدف أنهما صديقان يُقيمان معاً في منزل واحد. هناك إطالة في المعالجة، وتكرار شكلي وبصري لحالات ومواقف، وملل قليل في بعض المشاهد. هناك حالة من الجمود تكتنف سياق الفيلم وتقنية السرد الحكائي. إنه فيلم عاديّ يُفترض بمن يرغب في مشاهدته أن يتعاطى معه بعيداً عن أي وهم ثقافي وفني. "التربية السيئة" في مقابل هذا، أو بالأحرى في إطار آخر مختلف للغاية، عُرض الفيلم الإسباني <<التربية السيئة>> لبيدرو ألمودوفار في حفلة أولى من أصل ثلاث خاصّة بالدورة الحادية عشرة (تُقام الثانية عند الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم الاثنين، والثالثة عند العاشرة والنصف ليل السبت المقبل). قيل إن هناك إمكانية لإقامة حفلة رابعة، إذ إن بطاقات الحفلات الثلاث كلّها بيعت قبل أيام قليلة من الافتتاح. في فيلمه الجديد هذا، مزّق بيدرو ألمودوفار أقنعة اجتماعية وإنسانية ودينية، بلغة شفّافة وشكل ساحر. استعاد بعض العناوين التي قدّمها في فيلمه <<قانون الرغبة>> (1986)، كما في مقالة لصوفي بنامون منشورة في المجلة الفرنسية المتخصّصة <<استديو>> (أيار 2004)، كالجزء المدمّر من الحب والصداقة ومزيج الحياة والسينما وثقل التربية الدينية. وإذا وجد البعض في <<التربية السيئة>> ملامح ما من حياته الخاصّة، فهو أعلن أن عمله هذا ليس <<سيرة ذاتية بشكل كامل>> بل فيلم حميم: <<أريد أن أقول بهذا إني لا أروي حياتي في المدرسة، ولا تدرّبي على الحياة في خلال (مرحلة) الاضطرابات الاجتماعية الأولى، علماً بأن أحداث الحكاية تدور في هاتين المرحلتين (1964 و1980، مع فسحة جرت تفاصيلها في العام 1977)>>. أكّد ألمودوفار أن ذكرياته <<لعبت دوراً في كتابة السيناريو، إذ إني عشت الأحداث والمراحل حقيقة>>. كما أن <<التربية السيئة>>، كما جاء في نصّ مكتوب بلسان مخرجه نشرته إحدى شبكات <<إنترنت>>، ليس <<تصفية حسابات مع الكهنة الذين ربّوني بشكل سيئ، ولا مع الإكليروس بشكل عام. فلو أني شعرت بالحاجة إلى الثأر لما انتظرت أربعين عاماً. لا أنظر إلى الكنيسة كحاجة أو فائدة ولا كعدو. لا يعكس الفيلم بالتالي الاضطرابات التي عرفتها مدريد في مطلع الثمانينيات، أي الفترة التي تدور فيها أحداث الفيلم. ما أثار اهتمامي في هذه اللحظة التاريخية هو نشوة الحرية التي عرفتها إسبانيا في مقابل ظلامية الستينيات وقمعها. إن الأعوام الأولى من عقد الثمانينيات إطارٌ مثالي يمنح الشخصيات الشبابية البالغة قدرة التحكّم بأقدارها وأجسادها ورغباتها>>. ورأى أن الفيلم <<ليس كوميدياً وإن تخلّلته الفُكاهة، وليس كوميديا موسيقية للأطفال، على الرغم من أن أطفالاً يغنّون فيه. إنه فيلم <<أسود>>. على الأقلّ هكذا أرغب في اعتباره>>. ماهر هو بيدرو ألمودوفار في صوغ شبكة مُعقّدة من الحكايات والتفاصيل الصغيرة، في داخل الحبكة الأصلية. يوهم مشاهديه بحقائق ما، قبل أن يدخلهم في متاهة البحث عن صُوَر أخرى لهذه الحقائق. يدفع نصّه الدرامي إلى حدود الوله بالذات والآخر، ويصنع من تجاربه مادة حيّة للتعبير عن المعاني الجميلة للحبّ والصداقة والولع الشبقيّ القائم بين المثليين، بلغة سينمائية ساحرة، وبإدارة بديعة للممثلين، وبانفتاح واسع على الحميمية الجنسية والعاطفية. لا يتردّد في تصوير اللحظات المفعمة بالجنس والحبّ المثلي، ولا يختبئ وراء الإيحاءات. يُعلن شيئاً من سيرته ويعيد تصوير الماضي بنبض إنسانيّ جميل. يروي الجسد وانفعالاته، ولا ينسى ما تفعله السينما في الوعي الطفوليّ للحياة، وما تصنعه التربية الدينية السيئة والقامعة في هذا الوعي نفسه. يُخبر الحكاية كمن عاشها أو اختبرها من الخارج، لكنه يكشف سريعاً مدى <<تورّطه>> في الحكاية الأصلية. يستعيد <<التربية السيئة>> محطّة الطفولة كي يرسم بعض أسس الحكاية المروية بعد مرور أقلّ من عشرين عاماً على حدوثها. ويستعيد أيضاً محطّة المراهقة، كي يؤكّد مفصلاً أساسياً في روايته. تختلط أمورٌ عدّة في اختلاط شخصيات ووقائع، إذ إن الحدّ الفاصل بين السينما والحياة يكاد يختفي كلّياً في خلال السياق الدرامي للفيلم، كما لو أن المخرج يسأل عمّا إذا كان هناك حدّ فاصل فعلاً بين السينما والحياة. ففي داخل <<التربية السيئة>>، هناك <<الزائر>> (النصّ الذي كتبه أحد الصديقين مستوحياً إياه من طفولته وصديقه وحياتهما معاً في مدرسة للرهبان والاعتداء الجنسي من قبل الكاهن وعشقهما بعضهما لبعض). وبين الشخصيات السينمائية والحقيقية تداخلٌ عميقٌ وجميل يكشف، في النهاية، شيئاً من المستور. السفير اللبنانية في 29 نوفمبر 2004 |