«الطيور» لألفريد هتشكوك: الطبيعة حين تنتقم ابراهيم العريس |
«كنتُ قرأت هذه القصة في احدى المجموعات التي تصدر تحت عنوان «ألفريد هتشكوك يقدم»، وعلمت في ما بعد انه كانت جرت محاولة لتحويل «الطيور» الى عمل اذاعي وتلفزيوني من دون ان تحقق تلك المحاولة نجاحاً (...). قرأت القصة وقلت في نفسي: ها نحن أمام شيء ينبغي ان نفعله، وسنفعله. والحقيقة انني ما كان من شأني ان أحقق هذا الفيلم لو ان الامر كان يتحدث عن صقور او عن طيور جارحة. ما أعجبني هنا هو ان الحكاية تتحدث عن طيور عادية... طيور تنتمي الى حياة كل يوم». الفيلم الذي يدور الحديث عنه في هذه العبارات هو، طبعاً، فيلم «الطيور» للمخرج ألفريد هتشكوك. أما القصة التي اقتبس عنها الفيلم فهي للكاتبة دافني دي مورييه، التي كان سبق لهتشكوك نفسه ان تعامل مع نص او اكثر لها، في اعماله السينمائية السابقة. دي مورييه لم يكن ادبها جديداً على سيد سينما التشويق. غير ان موضوع «الطيور» كما جاء في القصة والفيلم، كان جديداً تماماً. وليس فقط لأنه صور تلك الطيور الوديعة البريئة، التي لطالما عذبها الانسان طوال تاريخه، وهي تنقضّ عليه اليوم ضارية قاتلة غاضبة. الجديد هنا، كان ان السينما بدأت تهتم حقاً بالبيئة، وبدق جرس المخاطر التي لا يكف الانسان عن تعريض بيئة الارض اليها. اذ هنا، وعلى رغم ان هتشكوك الكبير كان يحلو له دائماً ان يقول رداً على اسئلة تتعلق بمعرفة ما اذا كان ثمة في افلامه رسالة يود ان يوصلها، وفحوى تلك الرسالة ان كانت موجودة: «الرسائل؟ إن الرسائل مكانها في صندوق البريد»، أي ليس لها مكان على شاشة السينما. على رغم هذا كان من الواضح ان في «الطيور» ثمة رسالة منبهة، حتى وإن كان هتشكوك غلف ذلك بما اعتاده من عناصر اثارة وتشويق. بل يمكننا ان نقول في هذا الاطار، انه اذا كانت السينما، مثل غيرها من الفنون والآداب، راحت، مع نمو الحركات المطلبية والاحتجاجات المتنوعة، تهتم بالبيئة اكثر واكثر، وتصور بخاصة كيف ان الطبيعة ستنتقم ذات يوم من الانسان المدمر لها، فإن «طيور» هتشكوك بكّر في ذلك... وبكر، الى درجة ان كثراً لم يتنبهوا الى هذه المعاني في الفيلم الا لاحقاً على ضوء انطلاق الفورة البيئية. بل ان هتشكوك نفسه، استنكف عن الاشارة الى هذا في أحاديثه الأولى حول الفيلم، وربما انطلاقاً من اصراره على نفي فكرة ان تكون ثمة رسالة في سينماه. ولافت هنا ان يكون هتشكوك قد رد على زميله الفرنسي فرانسوا تروفو، في حوار الساعات الطويلة الذي جرى بينهما، وأسفر عن واحد من اشهر الكتب في تاريخ الثقافة السينمائية، في صدد الحديث عن «الطيور» قائلاً: «ان الناس يذهبون الى السينما ويجلسون ويقولون: هات ما عندك! في الوقت الذي تنتابهم رغبة استباق الاحداث ويقول الواحد منهم: «أتكهن بما سيحدث». اما أنا فإنني اجد نفسي مجبراً على رد التحدي: هكذا اذاً! هذا هو رأيكم... لن! ومن هنا تصرفت في «الطيور» في شكل لا يتمكن الجمهور معه من ان يخمن ما الذي سيكون عليه المشهد التالي». يضع هتشكوك هنا فيلمه ضمن بعده التقني والشكلي اذاً... ومع هذا هو فيلم مدافع عن البيئة، يحذر الانسان من مغبة اساءاته الى الطبيعة. لكن المدهش هنا انه فيما ينتظر الانسان الخطر يأتيه من القنبلة الذرية، من الزلازل او من الحروب، يتمثل هذا الخطر في «الطيور» في آخر من يمكن ان يأتي منه الخطر. موضوع «الطيور» بسيط جداً: منذ بداية الفيلم يضعنا هتشكوك في اجوائه، لدينا امرأة شابة تسير في مدينة من دون ان يبدو عليها انها تفعل شيئاً محدداً... تلاحقها نظرات الاعجاب، في وقت لا تنتبه، هي، الى ما ينبهنا المخرج اليه: ان ثمة كثافة من طيور تملأ سماء المدينة. غير ان هذا الامر الذي يبدو عارضاً سرعان ما يتكشف اكثر وأكثر، وبالتحديد، حين تلتقي المرأة الحسناء (ميلاني) بمحام وسيم، في محل لبيع الطيور، فيعتقدها البائعة ويخبرها انه يود ان يشتري زوجين من عصافير الحب، ما يتيح فرصة تعارفهما خصوصاً وان سماته عائلية أليفة، وانه يريد العصفورين هدية لشقيقته الصغيرة. ميلاني تعد ميتش (المحامي) باحضار العصفورين غداً الى منزله في خليج بوديغا قرب سان فرانسيسكو، من دون ان تتنبه هي او يتنبه احد في المدينة، الى ما تحيكه الطيور، وعلى رغم كارثة حريق تقع في محطة بنزين قرب مطعم تجد ميلاني نفسها فيه، ويدور فيه حديث عن الطيور. ان المخرج يضعنا، خلال تلك الدقائق الأولى من الفيلم في قلب احداثه، ولاحقاً حين تحمل ميلاني قفصاً فيه عصفورا الحب هدية لأخت ميتش، وتتوجه الى المنزل الريفي في الخليج، لا يصبح أمامنا، الا ان نتابع الاحداث، التي تشكل عصب ثلاثة ارباع الوقت الباقي من الفيلم: الطيور تتجمع وتتجمع وتهاجم البشر، تهاجمهم جماعات وفرادى، غير مفرقة بين طفل وبالغ... وللحظات يبدو ان مطلب الطيور انما هو تقديم قربان لها: ميلاني نفسها... غير ان الامور ستنتهي، طبعاً، وكما يحدث مع كل كارثة من هذا النوع، الى انتصار الانسان على بنات الطبيعة تلك، بعنفه، بحيلته او بقوة الاستمرار، ودائماً لأن الفيلم – أي فيلم – يجب ان ينتهي نهاية طيبة. والنهاية طيبة هنا، بعد كمّ لا بأس به من القتلى والجرحى وآيات الدمار... فهل يمكننا حقاً ان نقول ان الانسان تمكن من الانتصار على الطبيعة؟ ابداً... لأن المشهد الأخير، الذي يتضمن تمكن ميتش من اصطحاب عائلته وميلاني في السيارة، بعيداً من المكان ومن ميدان هذه المعركة، هذا المشهد يرينا طيوراً تملأ المكان. صحيح انها ساكنة صامتة، قد يكون في صمتها وتمكُّن ميتش وآله، من الهرب، اعلان بانتصار هؤلاء... لكن التهديد قائم وحقيقي وسيظل... على الاقل كما يقترح علينا الفيلم، ماثلاً على الدوام. لقد قادت مهارة هتشكوك الفنية والرؤيوية، في هذا الفعل، الى جعل مشاهده الاساسية تصور، حيناً من وجهة نظر الانسان المعرض للخطر (من دون ان يعني ان هذا الخطر انما هو عقابه على ما اقترف)، وحيناً من وجهة نظر الطيور نفسها... فيضحي الجمهور – المتفرج – هنا، حيناً في موقع الضحية وحيناً في موقع الجلاد... وهكذا، اذ يعيد هتشكوك في هذا الفيلم، اختراع علاقة المتفرج بالسينما، يبدو من الواضح لديه ان همه الاساس هو ان يكون الفيلم في نهاية الامر فعل تحرير للجمهور، مشترطاً على هذا الاخير وعي ان لتحرره ثمناً انه، على حد تعبير الباحث الفرنسي نويل سمسولو (في بحث عن هتشكوك يصدر بالعربية قريباً عن مؤسسة السينما السورية في دمشق) «لوعيه بمخاطر فنه، يسعى الى نزع الشيطان – أي الشر – من داخل الجمهور الذي يزداد توحشه بفعل احلام السينما الكاذبة». حقق ألفريد هتشكوك (1899- ؟) «الطيور» في العام 1963، وكان بلع اقصى درجات شهرته وبات في عز كهولته، من ناحية السن... لكنه لا يزال يجرب في مجال سينما لم يتوقف عن خوض غمارها، منذ سنواته اللندنية المبكرة، ليواصل الابداع فيها حتى سنواته الاخيرة. ولقد حقق هتشكوك بعد العصافير خمسة افلام اخرى هي: «مارفي» و»الستار الممزق» و»توباز» و»فرنزي» و»مؤامرة عائلية» (فيلمه الاخير)، لكنه حقق قبل «الطيور» عشرات الافلام، التي يعتبر بعضها تحفاً وعلامات اساسية في تاريخ الفن السابع، ومنها «فريتغو» و»شمال بشمال غرب» و»الحبل» و»غريبان في قطار» و»بسايكو» و»خابر م. إن كان في الامر جريمة» وغيرها... الحياة اللبنانية في 21 أبريل 2005 |
|