من المكتبة السينمائية: سينمائيون بلا حدود أحمد ثامر جهاد |
في الكتابة عن السينما ثمة براعة خاصة يجيدها المتمرسون من ذوي الحس الجمالي العالي والثقافة الرفيعة والرؤية النقدية الحاذقة. فقد يكون بوسعك أحيانا أن تكتب ما لانهاية من الجمل والكلمات عن الأفلام والمخرجين والقصص السينمائية والنجوم والتقنيات الفينة والمونتاج والمؤثرات والإنتاج وعن المهرجانات والجوائز وما يتراوح بينهما. لكن تبقى هناك كتابة ماسة تلبي حاجة ما، قد تكون كتابة نظرية عن السينما أو قراءة صحفية لظاهرة سينمائية أو كتابة ذاتية عن فيلم ما. وكل صنوف الكتابة هذه في الشأن السينمائي تبدو ضرورية لجعل السينما والثقافة السينمائية معرفة متاحة للجميع. "سينمائيون بلا حدود" هو كتاب آخر للناقد والشاعر والصحفي السوري بندر عبد الحميد الذي تمتاز كتاباته بأسلوب رشيق يمزج بين ولعه الشخصي بالسينما ورؤيته الموضوعية لها. يفتتح الناقد كتابه بمقدمة يتطرق فيها لموضوعات تتعلق ببدايات السينما والتحديات التي واجهها هذا الفن في مراحله المبكرة : ( فحينما ولدت السينما في عام 1895 من معطف التصوير الضوئي، لم تكن تعني أكثر من بدعة معرضة للزوال، أو لعبة للتسلية، ولكنها استطاعت في مدة وجيزة أن تمتص كثيرا من الجاذبية الخاصة التي تحيط بالفنون الأخرى، وان تؤثر وتتأثر بحياة الناس، بشكل متسارع يفوق ما واكب الاختراعات الأخرى التي غيرت ملامح الحياة على الأرض.) هكذا يضع الناقد نقطة بداية تاريخية لكتابه الذي يتعرض لتسليط الضوء على مغامرة الإنتاج في الصناعة السينمائية والسبل التي تبنتها هوليود للخروج من أزمتها في ثلاثينيات القرن الماضي. فيما تكرس الصفحات اللاحقة من الكتاب لتناول أعلام السينما وفنانيها، مع مرور عابر وشيق على حيوات نجوم السينما وعن الإغراء والحرب والموت في حياة السينمائيين ومصائرهم، وذلك باعتماد أسلوب الكتابة الصحفية الملخصة. بشكل عام يسعى الناقد للحديث عن نخبة من المخرجين المعروفين الذين اثروا مسيرة السينما العالمية، غالبا من خلال عرض ملخص لموضوعات الكتب التي نشرت لهم أو عنهم في سلسلة الفن السابع – وزارة الثقافة السورية، وتناولت في معظمها سينماهم وسيرهم الحياتية والفنية. ويتصدر هيتشكوك قائمة المخرجين الذين يتناولهم الكتاب في عرض سريع لتجاربه الفنية ومواقفه المتباينة من السينما ورؤيته للحياة والفن. فعوالم هيتشكوك المثيرة نراها في الحوار السينمائي الطويل الذي أجراه معه المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، والذي له أهمية خاصة في الأدبيات السينمائية لاسباب متعددة يذكرها الناقد بندر عبد الحميد : منها ( انه جرى بين مخرجين سينمائيين، لكل منهما تجربته الخاصة، ولانه يمثل نموذجا لحوار بين ثقافتين مختلفتين، في الجذور والفروع، امتد إلى خمسمائة سؤال وجواب، وهو بمثابة عملية تشريح دقيقة لتجربة فنية خاصة جدا في تاريخ السينما. بعدها ندخل إلى تجربة المخرج الفرنسي ( روبيير بريسون ) عبر تناول أفلامه ولغته الخاصة مرورا بكتابه الشهير ( ملاحظات في السينماتوغرافيا ) وعن خصوصية سينماه يذهب الكاتب إلى القول : ( اهتمامه الفعلي ينصب على البحث عن الحقيقة وراء الواقع المجرد، والواقع المادي للأشخاص والأشياء، وبذلك فإنه يستكشف، تلك الحقيقة – التي هي الجمال المطلق – في الحياة والهواجس الداخلية لشخصياته التي يضعها في عالم فني ينأى بها عن مألوفات اليومي والشعر، والرسم، والحدوس، واستشرافات الروح هي أهم أدواته في ذلك المسعى. ) ويضيف ( إن بريسون يصر على البحث عن السينما الخالصة، ويرفض الحبكة التقليدية بعدها خدعة روائية ويختار ممثليه من غير المحترفين، فيقاوم فكرة التمثيل لأنها من أدوات المسرح، وهي تعيق البحث عن الحقائق الداخلية، وتطمس الطبائع البشرية الأصلية. ) وفي نهاية الفصل يورد الكاتب مقتطفات من ملاحظات بريسون الشهيرة في السينما. ومن عالم الأحلام يطل المخرج العبقري فديريكو فلليني حيث تشكل الأحلام الحقيقة الوحيدة في حياته. هكذا يسعى الناقد إلى قراءة حياة فلليني من خلال الحديث عن مذكراته التي ( تشكل نوعا من أدب الاعتراف النادر، وتتجاوز ما كتبه اكثر النقاد في تحليل أفلامه، والبحث عن علاقتها بمفردات حياته الشخصية، وأحلامه بشكل خاص..) مثلما جاء في الكتاب الذي يستمر في التقاط ومضات هامة من حياة المخرج وأقواله ورؤيته للحياة والفن والتي تمتاز أحيانا بالغرابة وفرادة الإحساس، فهو من اعتبر يوما إن المشاعر الجنسية والسيرك والسينما والمعكرونة هي من اشد الأشياء تأثيرا في تكوين شخصيته. وان أفلامه عامة أشبه ما تكون بالمقابلات الذاتية. لذلك كان فلليني مدافعا قويا عن ذكريات طفولته البعيدة التي أخذت شكل الصور الخيالية في ذاكرته، وهي خزين أفلامه ومنبعها الأساس. ففلليني كان مسحورا بالخيال والصور اكثر من انجذابه للعقلانية الصارمة، وهو يرجح كارل يونغ على فرويد، بل انه يسميه ( الأخ الأكبر ). ويتوقف الكتاب عند المخرج ( ايليا كازان ) بوصفه أحد المجددين في تاريخ السينما الأمريكية، ويأخذ بالحديث عن سيرته الذاتية والفنية وعن مذكراته المنشورة عام 1988 والتي تطرح جانبا حيويا من معاناته وتجاربه الأولى وعلاقته مع جيل من الكتاب والمسرحيين الأمريكيين وصلته الخاصة بنجمه المفضل الممثل ( مارلون براندو ) وبالتأكيد علاقته المشبوهة مع لجان الحملة المكارثية سيئة الذكر. ومن كازان إلى رائد أفلام الرعب والأسطورة المخرج الألماني ( مورناو ) أو كافكا السينما الذي اخرج أعمالا سينمائية أصبحت علامات خالدة في تاريخ السينما الصامتة، مثل دكتور جيكل ومستر هايد، نوسفراتو، فاوست.. لاحقا يتوقف الكتاب عند أحد رموز الموجة الجديدة في فرنسا، المخرج فرانسوا تروفو الذي بقي وفيا لولعه بهيتشكوك عبر إنجازه أطول حوار فني في الأدبيات السينمائية. ولابد من التوقف عند فيلمه ( الليلة الأمريكية ) الحائز على جائزة الأوسكار والذي يحكي سيرة تروفو الذاتية بأسلوب شاعري يمزج الماضي بالحاضر. كان تروفو يقول : لقد فضلت دائما انعكاس الحياة اكثر من الحياة ذاتها. تستمر فصول الكتاب بذات الإيقاع في تناولها حياة المخرجين السينمائيين وتجاربهم الفنية، لنرى عبرها اعترافا خطيرا للمخرج ( اورسون ويلز ) يقول : من المؤسف إنني بدأت من القمة ولم أجد بعدها طريقا سوى النزول. فبعد انطلاقته السينمائية في رائعته الشهيرة ( المواطن كين ) مخرجا وممثلا، لم يستطع ( ويلز ) تقديم إنجاز يوازي هذا الفيلم أو يتجاوزه، ذلك بالقياس لزمن الفيلم وظروف إنتاجه. رغم إن المخرج ظل وفيا لولعه بالنصوص الأدبية والسيناريوهات الجيدة التي كانت شهرتها عاملا مضافا لامتياز أفلامه، ومنها بالتأكيد : عطيل، ماكبث، المحاكمة، عائلة امبرسون العظيمة، الرجل الثالث، رجل لكل العصور … وللحديث عن أحد ابرز رموز السينما الإيطالية، يعرج الناقد على كتاب ( بناء الرؤية ) للمخرج انطونيوني والذي ضم أهم كتاباته وابرز اللقاءات الصحفية التي أجريت معه. وفي تحديد السمة الغالبة لأفلامه الشهيرة كـ ( الكسوف، الصرخة، انفجار، المهنة صحفي، نقطة زابريسكي، الحمراء ) يقول الناقد بندر عبد الحميد : إن أفلام انطونيوني تمثل الوجه الآخر لأفلام روسيليني ودي سيكا، وهو يعتمد على الابتعاد عن قواعد السرد السينمائي ليؤكد أسلوبه الخاص. وقبل أن يختتم كتابه بالحديث عن سينما الموجة الفرنسية الجديدة بتصوراتها الجمالية والفكرية المغايرة وبخروجها على المألوف، يفرد الناقد فصولا سريعة للحديث عن رؤى مخرجين كبار تركوا بصماتهم في تاريخ السينما العالمية، وأبرزهم : جون فورد، جان رينوار، يوريس ايفنس، بيرغمان، اندريه فايدا وشارل باتيه. موقع "إيلاف" في 19 أبريل 2005 |
|