شعار الموقع (Our Logo)

 

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

اندريه تاركوفسكي: «المرآة» يعمق تساؤلات عن الحياة والموت

سكورسيزي: صورة الذات عبر مجنون السينما والجراثيم والطيران

امير كوستوريكا طفل السينما العالمية المشاغب

باب الشمس اختارته الـ التايم من أفضل‏10‏ أفلام علي مستوي العالم

جيهان نجيم فيلمها القادم عن جون كيري

بيدرو المودوفار.. كلمة ختام حياتنا لم تكتب بعد

 

 

 

 

 

أنــدريــــه تـاركــوفـســكـي.. من وعــي الحيــاة إلى وعــي المــوت

(محـاولة لفـهم عـالم تاركـوفسـكي السينمائي)

بُـرهـان شــاوي

 

 

 

 

 

تاركـوفسـكي .. المسـيرة الإبـداعيـة

ولـد أندريه أرسينوفج تاركوفسـكي في 4 نيسان من العام 1932 في قرية (زفراشيا) قرب مدينة (ايفانوفا) شمال شرقي موسـكو. واله هو الشاعر والمترجم المعروف ارسينيا تاركوفسـكي. والدته مايا ايفانوفنا فيشيناكفا. لكن بعد انفصال والديه، عاش اندريه وأخته عند أمهما التي أخذت تعمل كمصححة في إحدى المطابع.

في العام 1939 بدأ التعليم في المدرسة الابتدائية بموسكو، ولكن عند بداية الحرب قطع دراسته ورجع إلى قريته عند أمه، ولكن خلال فترة الحرب كانت العائـلة مضطرة لإخلاء المكان، فعاشوا عند أقرباء لهم لفترة من الوقت. وفي العام 1951 بدأ الدراسة في معهـد موسكو للدراسات الشرقية، لكن بسبب إصابته بارتجاج في الدماغ قطع دراسته قبل إنهائها، ثم أصبح عاملا في حلقة للبحث العلمي في معهد الذهب بجمهورية قرغيزيان حيث عمل ما يقارب السنة عند نهر (كوريكا) في إقليم توروخان.

في العام 1954 بدأ دراسته بمعهد السينما لعموم الإتحاد السوفيتي بموسكو (فـكـيـك)، وتتلمذ على يد المخرج والمنظر السينمائي الكبير( ميخائيل روم ) الذي يُعد أهم معلميه. كما يبدأ في تلك الفترة بتحليل أفلام المخرج الأسباني السوريالي ( لويس بونـويل ) والسويدي( إنغمـار بيـرغمـان )، ويبدأ صداقته الإبداعية مع ( اندريه ميخائيلكوف-كونجلوفسكي ) الذي هجر التحاد السوفيتي إلى أميركا فيما بعد، لكنه عاد بعد سقوط النظام السوفيتي لاحقا، فكتبا معا سيناريوهات سينمائية مشتركة منه: (ملعب التزحلق والكمان) و( اندريه روبلوف).

وفي العام 1959 حقق مع (الكسندر كوردون) فلما تلفزيونيا هو (اليوم لن تكون استقالة).

في العام 1960 ينهي دراسته بمعهد السينما ومعه دبلوم في الإخراج، وكان فلم تخرجـه هو ( ملعب التزحلق والكمان )، والذي فاز بالجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الطلابية الذي أُقيم في نيويورك في العام 1961. وفي العام 1962 يأخذ على عاتقه مواصلة لإخراج فيلم ( طفـولـة إيفــان ) الذي كانت قد بدأته مؤسسة السينما (موسفيلم) عن قصة للكـاتب( فلاديمير بكومولوف )، وكانت المؤسسة قد أوقفت عمل المخرج ( أبالوف ) فيه. فأعـد تاركوفسكي سيناريو جديد للفيلم، وبعدما أنهاه، شترك به في مهرجان البندقـية السينمائي لعام 1962 ففاز بالجائزة الأولى.وكذلك فاز بجائزة النقاد البولونية وفي العام 1963 فاز الفيلم بأربعة جوائز عالمية أخرى. وبعد هذا الفيلم كتب النقاد الغربيون عن تاركوفسكي بأنه أهم مخرج سينمائي روسي، كما كتب ( جان بول سارتر ) عن هذا الفيلم دراسة طويلة. (1)

في العام 1964 يبدأ تاركوفسكي في تصوير فيلم عن حياة رسـام الأيقونـات ( اندريـه روبلـوف )، والذي استطاع غنائه بعد جهد في نهاية العام 1966 وتجهيزه للعرض، لكن الفيلم تعرض للنقـد الحاد من قبل اللجنة الرسمية لمؤسسة السينما والتي تضم عادة عددا من المسئولين الشيوعيين الحزبيين من السينمائيين، حيث تم الاعتراض على عرض تاركوفسكي لمسار الأحداث التاريخية، وكذلك على مشاهد العنف فيه، فتقرر حذف مشاهد عديدة منـه، وكرد فعل يقوم تاركوفسكي بالحذف ويبالغ فيه. ورغم ذلك تعطل عرض الفيلم، فلم يجـد طريقه للعرض الجماهيري إلا بعد سنوات، فاحتجاجا على الموقف السوفيتي الرسمي مـن فيلم ( اندريه روبلـوف ) يعرض في العام 1969 خارج المسابقة الرسمية بمهرجان (كان) ويحصل على جائزة النقاد العالمية. وفي العام 1971 فقط يعرض الفيلم في دور العـرض السوفيتية، وبعد عامين، أي بعد سبع سنوات من إنجازه، تُقرر الجهات الرسمية إدراجـه ضمن أفلامها للبيع خارج البلاد!!. وقد جاء في مذكرات تاركوفسكي إن جريدة (اللومانتيه) أجرت في 21 شباط من العام 1972 لقاءا مطولا مع الشاعر الفرنسي ( آراغون ) بمناسبة عيد ميلاده، فسئُل عن أحب الأفلام لديه، والتي يود مشاهدتها بسرور، فسمى أحد أفـلام المخرج ( غودار )، وفيلم ( اندريه روبلوف ) لتاركوفسكي.

منذ بداية العام 1968 ينشغل تاركوفسكي بالإعداد والتخطيط لفيلم مغامـرات علميـة بالاستناد للرواية العلمية الخيالية ( سولاريس ) للكاتب البولوني ( ستانيسلاف ليـم ).

وفي العام 1971 يبدأ بتصوير فيلم ( سولاريس )، كما يبدأ بكتابة يومياته ومذكراته والتي نشرت بالألمانية قبل الروسية بعد موته!! وفي مذكراته، التي اعتمدنا عليها أيضا عند كتابة هـذه السيرة الإبداعية، يكتب تاركوفسكي عن هموم العمل ومعاناته من البيروقراطية السوفيتية، خاصة داخل مؤسسة السينما. وبالرغم من أن المذكرات جاءت متوترة في بعض صفحاتها وغير منصفة بحق البعض أحيانا، لكنها رغم ذلك تبقى شهادة قوية ومؤثرة ضد كل هؤلاء عديمي الموهبة وأشباه المثقفين الذين يحتلون مراكز، ومواقع إدارية وحزبية كبيرة، هؤلاء الذين يحاولون أن يؤطروا عمل الفنان المبدع ضمن أيديولوجيتهم المادية..!  وحينما ينتهي من العمل في فيلم ( سولاريس ) يعرض في مهرجان ( كان ) بصفة رسمية باعتباره الفيلم السوفيتي الرسمين فيحصل على جائزة النقاد، وكذلك يحصل على جائزة مهرجان لندن، وجوائز أخرى.

منذ بداية السبعينيات يعد تاركوفسكي الخطط والمشاريع لإخراج أفلام عديدة. وكما كتب في مذكراته بتاريخ7 تشرين الأول من العام 1970، فأنه يعد لموضوعات عن : 1) عـالم فيزيائي يتحول إلى ديكـتاتـور. 2) تحويل رواية ( يوسف وأخوته) للكاتب الألماني ( توماس مان ) إلى الشاشة. 3) عمل فيلم عن حياة ( دستويفسكي ). 4) تحويل رواية ( الأبـله ) لدستويفسكي إلى الشاشة. 5) إنجاز فيلم (اليوم المضيء). 6) تحويل رواية ( الطاعون ) لكـامو إلى الشاشة. لكنـه لا يستطيع أن يحقق شيئا من هذه الخطط سوى مشروع فيلم ( اليوم المضيء ) وال>ي سماه فيما بعد ( المــرآة ).

في العام 1974 ينتهي من فيلم ( المــرآة )، وهـو سـيرة ذاتيـة شـديدة التعقيـد.  وقد قُوبل الفيلم بالبرود والسلبية لذاتيته الكثيفة ذات الطابع الفرويدي، وكذلك لإلغائه الجوانب الدرامية التقليدية، ولغموض الحبكة وغرابة طريق السرد السينمائي، مما أدى لسوء فهـم كبير ولتفسيرات متشنجة، رغم أن الفيلم نال جائزتين، ولكن في وقت متأخر ( 79، 80 ). وقد كتب تاركوفسكي في مذكراته بأن المخرج الايطالي ( ميخائيل أنجلو أنتونيوني ) كان في موسكو بتاريخ 25 تموز من العام 1975 وانه طلب شخصيا مشاهدة فيلم ( المـرآة )، فلم يستجيبوا لطلبه إلا بعد أن هدد بمغادرة المهرجان..!!وقد أعجب الفيلم ( أنتونيوني ) جدا فطلب مقابلة تاركوفسكي مباشرة، لكن المسئولين في المهرجان وفي مؤسسة السينما عطلوا حصول مثل هذا اللقاء، متحججين بتعذر الاتصال بتاركوفسكي، لأنه ذهب إلى بيته الصيفين ولا يمكن الاتصال به ، حتى ولو تليفونيا..!!!!

في العام 76-1977 يبدأ تاركوفسكي إخراج فيلم ( ستالكـر ) المأخوذ عن قصة ( نزهة على الطـريق الجانبي ) للكاتبين الأخوين ( أركاديا وبوريس سـتروكاتصي )، وهو آخـر فيلم له في الاتحاد السوفيتي. وكان قد صوره بمكان قريب من ( تشرنوبل ) التي اشـتهرت في العام 1986 بعد انفجار احد المفاعل النووية في محطتها.، وحينما عرض الفـيلم فـي مهـرجان ( كان ) حصل على إتحاد النقـاد السينمائيين العالمية ( فيبريسي ). بعـد هـذا الفيلم يحضر تاركوفسكي لمشاريع عدة، منها إخراج مسرحية ( هاملت ) لشكسبير، وإخراج رواية ( ذئب البراري ) للكاتب الألماني ( هيرمان هيسه )، ورواية ( المعلم ومارغريـتا ) لبولغاكوف، ورواية ( الجريمة والعقاب ) لدوستويفسكين فيلم قصير عن حيـاة ( كافكـا ) وكذلك ( أفـلمـة ) حياة وأعمال الكاتب الألماني الكلاسيكي ( هوفمـان ).. لكنه لا يستطيع أن يحقق من كل هذه المشاريع سوى إخراجه لمسرحية ( هامـلت ) على خشبة المسـرح الفني بموسكو، حيث أدى الأدوار الرئيسة فيها الممثل الرائع (أنتـوني سولونيتـصين)، الذي أدى أدوار البطـولة في فلميه ( أندريه روبلـوف ) و ( ستالكر )، وكـذلك الممثلـة ( مـارغريتـا تـيروخـوفا )، التي أدت دور الأم في فلمـه ( المــرآة ). ويعتبر فيلم ( سـتالكـر ) انعطافة مهمـة وكبيـرة في مسيرة تاركوفسـكي الإبداعيـة.  فهو يكتب في يومياته بتاريخ 23 كانون الثاني 1978 : ( هذا الفيلم جديد نوعا ما بالنسبة لي لأنه بسيط من ناحية الشكل، وكذلك تقليدي من ناحية ربط الوظائف الفيلميـة. إنه فيلـم عن تجسيد الإلهي في الإنسان..، عن انهيار الروحانية بسبب سيطرة العلوم المزيفة..، أنا خائف من المستقبل،.. من الصينيين، من الطوفان.. من قيامة الشؤم والدنس..ياآلهي أمنحني القوة على الإيمان بالمستقبل )..!!ويكتب أيضا بتاريخ 10 شباط 1979 : ( ياآلهي..إنني أشعر بقربك مني..أشعر بيدك الرحيمة تمس رأسي، إنني أريد أن أرى عالمك مثلما خلقته أنت.. والناس مثلما إبتدعتهم أنت بقدرتك..إنني أُحبك ياآلهـي،.. أحبك بلا طمع في شيء، غير أن رذائل غضبي وآثامي، وعتمة روحي الدنيئة، هي التي تعيقني من أن أكون خادمك الجدير والمقتدر..ياآلهي ساعدني، وأعف عني ياآلهي..)..، وفي مكان آخر يكتب:( ولكن ما هـو الاختلاف بين توماس مان ودستويفسكي..؟ الإلحـاد ؟ ربمـا..إن توماس مان ( يفـهـم ) تقريبا الكثير عن ( اللـه ) بينما دستويفسـكي يريد ذلك لكنه لا يستطيع أن يؤمن باللـه). بهـذا الهاجـس أخـرج تاركوفسكي فيلم ( ستالكـر ).

فـي هذا العام نفسه يسافر إلى ايطاليا للإتفاق على إخراج فيلم (رحلة إلى ايطاليا)، والذي غير أسمه إلى ( الحنيـن - نوستالجيا ). وهناك يلتقي أنتـونيوني، فليـني، وروزي . وهناك يبدأ تصوير المشاهد الخارجية من الفيلم. يكتب في يومياته بتاريخ 22 تشرين الأول 1979: ( أشعر أنني وحيـد، وهدا الشعور يكون مرعبا حينما تعـي بأنك وحيد، وأن هده الوحدة تعني المـوت..إن الجميع خانوني أو يخونونني، إنني وحيد كليا..لا أود أن أعيش.. إنني خـائف.. أصبحت الحياة بالنسبة لي لا تطـاق..!).

في العام 82-1983 ينهي إخراج فيلمـه ( الحنـين، نوستالجيا ) الذي كان قد قرر في بداية الأمر منح دور البطولة فيه للممثل ( سـولونيتصين )، إلا أن يموت بداء السـرطان فيضطر إلى منح دور البطولة إلى الممثل ( أوليك يانكـوفسكي )، ومنذ ذلك الحين يستقر تاركوفسكي في منفاه الاختياري، إذ قرر عدم العودة إلى الاتحاد السوفيتي. وكان اتخاذ مثل هذا القرار منطقيا، لا سيما حينما يتعرف المرء على طبيعة الحياة القاسية التي كان يعيشهـا مع عائلته، سواء من الناحية المادية، أو بسبب المضايقات التي كان يتلقاها من قبل المسئولين الذين كانوا يسعون دائما إلى إعاقة عمله الإبداعـي. وقـد دون فـي يومياته تفاصيل مؤثرة عن حياته وهمومه.

إلا أن تاركوفسكي سرعان ما يغير منفاه متنقلا ما بين ايطاليا وفرنسا والسويد. وفي لندن يتمكن من إخراج أوبرا ( بوريس غودنوف )، وهي مسرحية شعرية ل( بوشـكين )، وضع الموسيقى لها ( موسورسكي ). وقد كتب في يومياته بتاريخ 25 حزيران 1983 ما يـلي: ( خـوف..إنني ضـائع..إنني لا أستطيع العيش في روسيا..ولكن هنـا لا أستطيع أيضا..). وحينما يعرض فيلم ( الحنين، نوستالجيا ) يحصل على جوائز عالمية عديدة، يتفق بعدها مع جهات فرنسية وسويدية على إخراج مشروع قديم له باسـم ( الساحرة )، والذي يغير إلى ( التضحية) أو ( القربان ). وفي العام 1985 يحصل على منحته من الأكاديمية الألمانية للشؤون الأجنبية( DAAD ) ويحل ضيفا على ( دار تعليم الفن ) في برلين. وفي هذه الفترة تظهر عليه علامات السرطان، لكنـه لا يدرك ذلك فيبدأ عمله في فيلمه الأخير ( التضحية ) أو ( القربان ). فيغادر برلين سريعا، ويكتب في يومياته بتاريخ 8 آذار 1985 ما يلي: (  إن برلين مدينة مرعبة لا تطاق.. يجب أن أغادرها بأسرع وقت ). وفي نفس العام يصدر كتابه ( الزمـن المطبـوع ) بالألمانية قبل أن ينشر بالروسية، وهو تأملات حول الفن وحول جماليات السينما، من خلال تجربتـه الشخصية.

يعرض الفيلم الخير له في مهرجان ( كان ) لسينمائي ويحصل على جائزة اتحاد النقاد العالمي، فيكتب في يومياته: ( إنني تعبان..لا أستطيع العيش بدون إبني ( اندريوشا )، ليست لي رغبـة في الحياة ). ويكتب بتاريخ 10 تشرين الثاني من نفس العام: ( لقد وصلتني أخـبار سيئة مـن موسكو..إنه ليوم مرعب..سنة مرعبة..ياآلهي قـف إلى جانبي ). وفي العام 1986 يشـتد به المرض، فيتنقل بين المستشفيات، ما بين ( اوشل برون ) في جنوب ألمانيا، ومستشـفى السرطان فـي باريس. فيكتب بتاريخ 5 كانون الأول من العام 1986 : ( أحـس بالفـزع ..لا أستطيع مغادرة سريري، بل لا استطيع الجلوس في الفراش..آلآم في العمود الفقـري والظهـر..كذلك الأعصاب..لا استطيع تحريك أطرافي..ذراعي تؤلماني أيضا..إنني ضعيف جدا..أسـوف أمـوت..؟؟ هاملت، ليست لدي القوة لعمل أي شيء..). وقبل وفاته بأسبوعين كتب: ( هاملت..، كل شيء على الفراش..سـوف أمـوت..لا أستطيع أن اعمل شيئا..هنـا المشكـلة..؟!). وفي 29 كانون الأول من العام 1986 يقضي تاركـوفسـكي نحبـه بـداء السرطان في المستشفى بباريس، ويدفن هنـاك.

بعد وفاته تُصـدر الجهات السوفيتية نعيا رسميا عنه، وتخصص مجلة (فـن السينمـا) عددا عنه، ويرفع المنع عن أفلامه، إذ أن السلطات السوفيتية ، بعد طلبه اللجوء في ايطاليا في العام 1983، سحبت أفلامه وألغيت من الدراسة في معهد السينما بموسكو.( وكنت حينها طالبا في السنة الثالثة، وأردت أن اكتب دراسة عن إشكالية الزمان في أفلام تاركوفسكي،وطلبت مـن إدارة المعهد مشاهدة فلمـي (المرآة ) و( سولاريس )، فاعتبرت ذلك مشاكسة مني لكنـي بعد أخذ ورد، وبمساعدة مشغلي ماكينة العرض، استطعت مشاهدة جميع أفلامه خفية، وكـنت قبل رحيله قد التقيته لمرتين في استوديوهات ( موسفيلم )، المرة الأولى في العام 1980 ، وكان لقاءا عابرا، أما المرة الثانية فكان في العام 1982، حينها تقدمت منه وقدمت له نفسي باعتباري من طلاب معهد السينما في موسكو، ومن المعجبين بأفلامه، فسألني عن السينما في البلاد العربية والشرق عموما، وأذكر إنني سألته عن تأثير دستويفسكي وتولستوي عليـه، فسر بالسؤال، وأجاب بكثافة وتركيز عن ذلك.

خلال حياته تزوج أندريه تاركـوفسـكي لمرتين، المرة الأولى من الممثلة ( ارما راوش ) التي مثلت في فيلم ( طفولة إيفـان ) دور الأم، وفي فيلم ( أندريه روبـلوف ) بدور المجنونة، وقد أنجبت له صبيا. وفي المرة الثانية تزوج من ( لاريسا بافلوفنـا ) والتي استمرت معه إلى آخر لحظات حياته، وقد أنجبت له ابنا أيضا، وكانت زوجته الثانية قد عملت معه كمساعدة في أفلامه ( المرآة )، ( سولاريس )، و( الحنين، نوستالجيا )، كما أشرفت على إصدار يومياته بالألمانية، والتي اعتمدت عليها هنا في هذه الدراسة.

مثل تاركوفسكي أثناء حياته أدوارا قصيرة في السينما حيث أدى دورا قصيرا كضيف في فيلم ( عمري عشرون عام ) لمارلين خوتسيف في العام 1964، وفي فيلم (سيرجي لازو) للمخرج الكسندر كودرون في العام 1967، كما عمل مونتيرا لعدد من الأفلام.

عـــالـــم تـاركـوفـســـكـي

قـال مكسيم غـوركي ذات مرة: ( إن الأدب الروسي هـو أدب السؤالين: مـن المسئول؟ ومـا العمـل؟؟. هذه الدقة النادرة والنظرة الثاقبة لواحـد من أعمـدة الأدب الروسي هـل ستساعدنا عند تلمسنا للأسئلة التي تطرحها أفلام تاركوفسـكي.. ربمـا!! .  في كتاب ( اندريه تاركوفسكي ) الصادر عن منشورات (هانزر - سلسلة الأفلام ) والمرقم 39 لعام 87-1988 ، وفي محاولة لتفسير أفلام تاركوفسكي، كتب بعض النقاد الألمان، وبشكل رائع عن المرجعيات الأدبية لتاركوفسكي، مستندين إلى إرث الأدب الروسي ( أخص هنا مقال هانس .ي. شليغل، ودراسة ايفا مارياشميت)، وتوقفوا عند الرمزية الروسية بالذات والتحديد. إلا أن الإشكال ، في رأيي، يكمن في أن التوقف عند حدود الرمـزية الروسيـة في بداية هذا القرن، والاعتماد عليها في تفسير رموز تاركوفسكي واستعاراته الجمالية ليس بكاف ( رغم الالتفاتة الرائعة من قبل ايف ماريا شميت لربط حالة الصرع في فيلم ( الحنين، نوستالجيا ) بأعمال دستويفسكي ) من حيث : أولا: إن الرمزية الروسـية ذاتها كانت تضم تحت لوائـها عـددا من الشعراء والكتاب غير المتجانسين فكريا أو إبداعيا. وقد يكون تاركوفسكي قد اقترب من عالمهم واستخدم بعض رموزهم أو طرح بعض أسئلتهم عن الجمال المطلق، الحق المطلق، النقاء المطلق، وعناصر الأشياء، ‘لا أنني أختلف معهم في انه أستخدم ( منطقـهم )، من حيث أن تاركوفسكي فنان جـدلي، لا يحب الاستعراض، وربما يلتقي معهم في بعض جوانب (منطقهم) الفني، لكنه يختلف عنهم في سجاله وفهمه لهذا المنطق، فهو أكثر رحابة، وربما يلتقي معهم في معالجة بعض جوانب الصراعات الروحية ذات الطبيعة المسيحية، لكنه يختلف عنهم في أن عالمه أكثر حسية منهم، فهو مليء بالماء، الفواكه، الأشجار ،الجذور، الجياد البيض والسود، الشمس والضباب والمطر، وليس هناك من أشباح وظلام وجحيم سوى داخل النفس، وليس علـى الشاشة.  ثانيا: إن تاركوفسكي اقرب إلى الأدب الروسي الكلاسيكي وتقاليده العريقة، اقرب إلى تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف وليونيد اندرييف منه إلى الرمزيين الروس..!  ثالثا: إن محاولة تفسير أفلام تاركوفسكي بالاستناد إلى الأدب والتأثيرات الأدبية فقط هي محاولة قاصرة ومغلوطة من الأساس إذا لم يتم أخذ تاريخ السينما السوفيتية والعالمية، وتقاليدهـا، وموضوعاتها وجمالياتها بالحسبان، فهو نتاجها، إذ أن تاركوفسكي سينمائي وليس شاعرا أو كاتبا، أو فيلسوفا.

إن أهمية تاركوفسكي فنيا بالنسبة لتاريخ السينما الروسية والعالمية، تكمن في هذا الدفـق الروحاني الذي يغمر أفلامه، مثلما كان القلق الروحاني هو نسخ الرواية الروسية. ليس هذا فحسبن فمنذ ( آيزنشتين )، عبقري السينما الروسية والعالمية، لم تجد السينما الروسية فنانا اهتم بالأسلوب التعبيري، وبمشاكل البحث الفني والتجريبي مثل تاركوفسكي وهذا يجب أن لا يفهم كنكران لمحاولات: كوليشوف، بودوفكين، دوفجنكو، شنكلاي، كوزنتسيف، م. روم، غيراسيموف، جوغراي، كوليتوزوف، كليجانوف، خوتسيف، لاريسا شبتكو، بانفيـلوف، ميخائيلكوف، كليموف، وغيرهم.

إن الصراع بين المعاناة الناتجة عن إدراك تراجيديا الواقع البشري المعاصر، الخالي من التناسب والاتساق والعدالة، وبين الثقة الطفولية بالإنسانية وبالحلم البشري عن عالم اخوي تحكمه الروح الإنسانية، كان أحد مشاكل تاركوفسكي، مثلما كان شكل التعبير الفني عن هذا الصراع هو مشكلة جمالية بحتة أقلقته كثيرا.  فمع بداية الستينيات بدا تاركوفسكي مساهماته السينمائية، أي كانت أمامه تجربة هائلة لأربعين عاما من العمل السينمائي، حيث قطعت السينما السوفيتية، والعالمية،خلالها أشواطا بعـيدة، وعاشت صراعات فكرية وجمالية ملتهبة، وعالجت قضايا اجتماعية وسياسية ملحة، ورسمت مساراتها بوضوح ، وخلقت تقاليدها الفنية. ففي العشرينيات، كان السينمائيون السوفيت يسعون لخلق لغة سينمائية جديدة، ويسعون أيضا لمنح السينما خصوصية فنـية تخلصها من تأثيرات الفنـون الأخرى التي كانت السينما تابعة لها بهذا الشكل أو ذاك.  في إحدى المقابلات التي أجرتها جريدة ( الثقافة السوفيتية ) في العام 1962، قال المـخرج ميخائيل روم :( في النصف الثاني من الخمسينيات ظهر عدد من المخرجين الذين استطاعوا توحيد تقاليد سينما الثلاثينيات مع الأوضاع والظروف الجديدة أمثال : جوغراي، كوليجانوف، شفيستر، ألوف ونوموف،وغيرهم. فهؤلاء الشباب استوعبوا الظواهر الجديدة في السينما العالمية بشكل جيد، وفي هذه المرحلة اتضح لي نحن جيل المخرجين القدماء بأن الاختلاف ليس في التجربة فقط، وإنما في الفهم المبدئي لجماليات السينما، ولكن في السنوات الأخيرة تألق فلمان هما( الطلقة 41 ) لجوغراي، وفيلم ( طفولة إيفان ) لتاركوفسكي).

أن أهمية هذه الملاحظة لا تكمن في كونها صدرت من واحد من كبار المخرجين فقط، وإنما لكونها صدرت من أهم المنظرين في تاريخ السينما السوفيتية. وفي حديثنا عن تاركوفسكي يأخذ تعليق روم بعدا مهما، فهو المخرج الذي تتلمذ عنده تاركوفسكي، وتأثر ببعض جوانب أسلوبه ومفاهيمه النقدية والجمالية.

منذ فيلم ( طفـولة إيفـان ) يخط تاركوفسكي لنفسه اسما في تاريخ السينما. فمنذ أول فيلم له، وما سيتبعه من أفلام، يعتمـد تاركوفسكي على ( الـذاكرة ). فالـذاكـرة هي المنبـع. إن هذه الطريقة في التعبير والسرد السينمائي لدى تاركوفسكي تدخل ضمنيا في عملية بناء الشكل الفني للفيلم، كما أنها وسيلة ناجحة لمعالجة العالم الروحـي للإنسان ومنحه إمكانية ( المنولوج الداخلي )، أي أن إشكالية الماضي والحاضر، الذاكـرة والواقع، تطرح مشكلة مسؤولية الإنسان أمام نفسه وأمام الآخرين، أمام الزمن الذي يمتد من الأمس وحتى اليوم، ومن هنا يبدأ جـدل الواقع وجدل التاريخ، مثلما تبدأ ولادة الأفكار الجديدة.

إن اعتماد الذاكرة في عملية البناء الفني والشكل التعبيري عند تاركوفسكي تأخذ أشكالا عديدة، فالذاكرة تاريخ، مثلما التاريخ ذاكرة اجتماعية، وعند استخدامه يكشف عن شرائح الواقع، ولكن هدا التاريخ يكون أحيانا تاريخا شخصيا. ومن هنا نرى في أفلامه، أحيانا، النبرة التسجيلية التي تصل حدود الخشونة. لذا فأن موضوعة الذاكـرة هي مادة وثائقية يعالجها تاركوفسكي أخلاقيا وجماليا، مانحا إياها بعدا فلسفيا، بالرغم من أن الفلسفة فـي أفلامه لا تخرج عن كونها فلسـفة،متجسدة في النقاش الفلسفي المباشر حول الأخـلاق والـزمن والوجـود، الإبداع والتقليد، والعقل والشعور، الجـزء والكـل.

غير أن السلوك الشاعري للبطال والمجسد على الشاشة بهذه الوثائقـية، يمنح العمل الفني تعبيرية عالية، وهذا ما نلاحظه في جميع أفلامه، ومن هنا أستطيع القول بأن في أفلامه يكمن ما يسمى ب( الوثائقية الشاعرية )، وهنا بالذات نجد ملامح من تأثيرات ميخائيل روم وكوزنتسيف وخوتسييف.

أن تاركوفسكي لا يبحث فقط عن جمال الأشياء، وإنما يقدمها بشكل جميل، بل ويفجر لدى المشاهد الأحاسيس الجمالية، فهو لا يدفعنا إلى التفكير في تربية أرواحنا جماليا وأن يساهم في هذه التربية أي أن أعماله تؤدي وظيفة الفن الكبرى ( التطـهير )، مثلما تدفعنا لإعادة النظر بالواقع، وهذه إحدى مهام الفن الحديث، أي انه يجسد مقولة الناقد الجمـالي الروسي ( تشرنشيفسكي )في ( إن الشيء يكون جميـلا حينما يذكـرنا بالحيـاة ).

لكن عملية ( التطهـير ) في الدراما اليونانية تستند إلى كون أبطالها مأساويين، فهل أبطـال تاركوفسكي مأساويون؟ ..نعم..إنهم مأساويون، لكنهم ليسوا كأبطال التراجيـديا الإغريقية، فهم لا يسيرون وفق مشيئة أقدار مقدرة سلفا، وإنما يختـارون أقدارهم بأنفسهم ، ومن هنـا فأن أبطاله أقرب إلى أبطال الدراما الشكسبيرية..!

كما أن هناك معالجات أخلاقية في كل أفلامه، إلا أن للتقاليد الفنية دور مهم في هذه المعالجات الأخلاقية، لاسيما تقاليد الرواية الروسية في القرن التاسع عشر، ويتجلى هدا بشكل بارز في فيلم ( طفولة إيفان ) و ( إندريه روبلوف )، وهنا نستذكر مقولة غوركي عن الأدب الروسي وسؤاله: من المسئول ؟؟ ومـا العمـل ؟؟ .

تاركوفسكي والأدب الروسي الكلاسيكي

إن ابسط تدقيق في الأدب الروسي خلال القرن التاسع عشر، من الناحيـة الشكلية، يؤكـد لنـا بأن محاضر المحاكم، والقضايا الجنائية، وملفات الشرطة، والوثائق الرسمية، كانت نبعـا نهـل الأدباء منه كثيرا، وربما نستدل بأبرز الروايات الروسية الكلاسيكية مثل : (الجريمـة والعقاب)، و (الأخوة كورمازوف) لدستويفسكي، و (الحرب والسلام) و(البعث) لتولستوي..!!

لكن التاريخ لا يعني ما جاء في الوثائق والسجلات فقط، فالمشكلة ليست كامنة في الشروح الجغرافية والإجتماعية إذ مهما تكن وفرة هذه الشروح فإنها تظل سطحية، لأن الموضوع الواحد يمكن أن يعالجه الفنـان المبدع الأصيل، وكذلك المؤرخ، والفنـان السطحي أيضا.

فليست السمة الوثائقية للعمل الفني هي سر إعجابنا به، فقيمـته الفنية والجمالية لا تديـن للوثائق بشيء. أن التاريخ الوحيد الذي يعتد به العمل الفني هو تاريخه الشخصي الذي تتجسد فيه حرية الفنان لاختيار إحتمال واحد من بين آلاف الاحتمالات.

لقد استوعب تاركوفسكي جوهر أسلوب الأدب الروسي، لكنه ليس كاتب روايات وإنما صـانع أفلام..! والأفلام التاريخية تعتمد، عادة، على العصر وأحداثه، مثلما الأفلام الحربية تعتمـد على الأحداث المرتبطة بحياة الشعوب، فكيف لتاركوفسكي أن يعبر عن نمط الأفكار تاريخيا، نمط الإنسان، وشاعرية الأحلام البشرية، شاعرية المشاعر الإنسانية، والشعور التراجيـدي لإشكالية الوجود البشري، ومصير العالم ومستقبل البشرية، كيف له أن يستخدم الذاكــرة الجمـاعية..!!

أنـدريـه روبــلـوف....مـن المسئول..؟؟

لقد كتب سيرجي آينشتين :( من اجل إخراج فيلم عن التجربة المعاصرة، يكمن أن نعتمـد على الفيلم التاريخي، إذ يمكنه أن يلعب دورا مهم، من حيث أننا لا نريد للفيلم المعاصر أن يكون كمشهد من الحياة اليومية، ، فمن خلال الفيلم التاريخي يمكن ان على النظرة التاريخية الشاملة. المؤلفات الكاملة-ج 5،ص114 بالروسية). ومن هنا جاء اختيار تاركوفسـكي لشخصية ( إندريه روبـلوف ) الذي عاش في روسيا القرن الخامس عشر، فهنا المشـاكل الأخلاقية والجمالية مرتبطة مع نفسية البطـل، وحركة وعيـه في الإطار التاريخي. لكـن التاريخ هنا ( مكان )، والمكان باعتباره ( تاريخا ) يأخذ بعدا ( زمنيـا ) تاريخيا، لـذا فان اختيار الموضوع التاريخي، واقتناص اللحظة التاريخية، منح تاركوفسكي إمكانيـة هائلـة لتعميق الصراع الروحي والاجتماعي ، ودفعه لطرح الأسئـلة الجمالية والأخلاقية للـواقع السوفيتي المعاصر. بيـد أن اللجـوء إلى التاريخ، من جهـة أخرى، حل سـهل، لا سيما حينما يـود الفنـان معالجة الواقع المعاصر،لأن ذلك يعني استخدام الوثائق بدل التفكير بخلق أحداث جديدة. غير أن اختياره لشخصية ( أندريه روبـلوف )، فنان الأيقونات، لم يكـن اختيارا عابرا، سريعا وشكليا، ولم يكن بحثا عن السهل!!

لا نجـد في تاريخ السينما الروسية فيلما ارتقى فنيا إلى مستوى فيلم ( أندريه روبـلوف) من حيث القوة التعبيرية والجمالية للحدث التاريخي سوى فيلم ( إيفان الرهيب ) لآيزنشتينن رغم الفارق الزمني، وأسلوب المعالجة، وطبيعة الموضوع.

إن تاركوفسكي بدأ مع (اندريه روبلـوف) رحلته باتجاه الحدود الخطرة للفلسفة الميتافيزيقية، فالتجربة الروحية الكامنة في الشخصية التاريخية، وهذه الأسئلة عن الجمال، الحـق، النقاء، والروح، تدفع بالحياة نفسها، وبالفنان الحقيقي للسؤال عن المـوت، ومعنـاه، وجدواه، وعن جوهر المطـلق، أي إن تاركوفسكي يجسد من خـلال الفيلم مفهومه للفـن باعتباره حنيـنا إلى ( المثـال ).!! لكن أفلام تاركوفسكي ليست دينية، إذا لم نقل إنها في الجوهر أفلام مضادة للدين بمفهومه السائد، فقد طرح قضية فصل الأخـلاق عن الديـن في فيلم (اندريه ربلوف)، داعيا إلى الأخلاق الطبيعية، لا سيما في القسم الرابع من الفيلم والذي يحمل عنوان ( العيد ـ 1408 ) حينما يقضي ( روبلـوف ) ليلته عند الوثنيين الذين كانوا يطلقون الجسد لأفراحـه ، ففي تلك الليلة يلتقي هناك في الغابة بالمرأة الوثنية التي تؤكد له بأن الحب الأخوي والجسدي لا ينفصلان..!، وكذلك ما تزرعه تلك الليلة في روحه من شكوك، حيث يتجسد ذلك في أزمته الإبداعية التي هي في جوهرها أزمة أخلاقيـة وموقف من العالم، والتي تكون جوهر القسم الخامس من الفيلم والذي يحمل عنوان ( المحكمة الرهيبـة )، وما يرافقه من منولوج داخـلي يتحدث فيه ( روبلوف ) مع نفسه عن لا جدوى القدرة على تجسيد النقاء والطيبة في الأيقونات حينما يعجـز الإنسان عن الحـب، أو حينما لا يعرف ما هو الحـب..!!

لكن الإشكال يكمن في أن الفـن بحـد ذاته يأخذ لدى تاركوفسكي بُعدا دينيـا، فهذه المعـاناة الروحية والأخلاقية، وهذا الإحساس باللاعدالة، والظـلم، والفوضـى، تشكل ماوراء النـص البصري لديه، كما أن هناك جانب آخر يدفع به إلى الزاوية الحرجة، هو إن حبكة العمل الفني لديه تأخذ أحيانا طابعا دينيا، رغم انه في فيلم ( اندريه روبلوف)، الذي هو اقرب أفلامه إلى الموضوع الديني، يرتقي بموضوعه إلى مستويات أخلاقية وجمالية عالية وتاريخية عالية تضع الدين في قفص الاتهام..!

أن الأسئـلة التي يطرحها في هذا الفيلم لشديدة العمق، ففيـه جسد فلسفته وموقفـه من الفـن وعلاقته بالواقع، فالفن لديه ممـارسة أخلاقيـة وحياتيـة، ففي القسم الثالث من الفيلم والذي يحمل عنوان ( مخاوف اندريه ) يلتقي (روبلوف) بفنان الأيقونات (تيـوفان الإغريقي)، فيدور بينهما هذا الحوار:

الإغريقي: الشعب جـاهـل..!

الإغريقي:لكـن من المسئول..؟

الإغريقي : كل شيء عبث، فالشر، الكـذب، الـزيف في كل مكان، لو عـاد المسيح الآن
لصلبـوه من جديد..، إن الشعب..الناس هـم الذين خانوا المسيح..هـم الذين صـرخوا : اصلبوه!

روبلوف : كيف تنظر إلى العالم والناس بهذه النظـرة الحاقـدة، ثم ترسم في ذات الوقـت أيقـونات..؟؟ يجب أن ننسى أخطاء البشر.. يجب أن ننسى بعـض الأشياء..ليس كـل الأشياء، ولكن بعضـها، يجب تذكيـر البشـر بأنهم بشـر، يجـب أن نفجـر الجـوانب الطيبـة في قـلب الإنسـان..!!.

إن معظم الأديان استخدمت الفـن، مثلما تناولت الفنون الموضوع الديني، فلكي نفـهم الفـن البوذي مثلا، لا بد من أن نفهم قصـة بـوذا، فعند تفهمنا للموضوع الدينـي يمكننا أن نقـدر الأصـالة الإبداعيـة ونصل إلى التأويل الفني السليم. وهكذا نجد إن تاركوفسـكي، باستخدامه الذاكـرة التـاريخية، وضع السؤال الجمالي في إطاره الصحيح ومنحـه شموليته التاريخـية.  لكن المشاكل الروحية، والأسئلة الأخـلاقية والجمـالية المطروحة في فيلم (اندريه روبلوف) تجد انعكاسا لها أفلامه الأخرى، لا سيما أفـلام المنفـى..!

وعـي المــوت

كل أفلام تاركوفسكي تتحدث عن المـوت، المـوت الجسدي والروحي..مـوت الأشـياء، ومـوت الذاكرة..! فالبداية في أفلامه تكون دائما هي نهاية ونتيجة لتجربة طويلة وغير مرئية لكنها، ومن خلال الشخصية الجديدة، والأحداث الجديدة، تقود أيضا إلى نهاية دراميتة أخرى، فـزعي الحيـاة يقـوده دائمـا إلى وعـي المـوت ..! فإذا كان الإنسان في فيلم ( سولاريس ) قـد قـُذف إلى كوكب ( سولاريس )، فـانه في فيلم ( المـرآة ) قـذف إلى كوكب ( التـاريخ ـ الـزمن )، وفي فيلم ( ستالكـر ) قـذف بنفسه إلى المنطقـة الممنوعـة من الدخول، ليفتح الأبـواب الداخلية وليواجه عواصـف الـروح العاتية.

إن العزلة الكاملة، والعجز عن عبور الهـوة الأخيرة بين الـذات والأشيـاء، وعدم قـدرة النـاس على الاحتفاظ بتقارب وثيـق بين بعضهم البعض، وهذا الإحساس بالعجـز واليأس المطلق، والشعور بعدم جدوى كل جهـد، هو تجسيد لأفكـار تاركوفسكي لـوعي المـوت، ولقـد تجـلى ذلك بشكل واضح ، وهائل التأثير، في فيلمه ( الحنين - نوستالجيا ). إن البطـل لدى تاركوفسكي هو( الأنـا ) في مـرآة الزمن، هذه ( الأنا ) التي تواجه الشعور بالمـرارة، والتي تعي موتها..!. لكن تاركوفسكي لا يفلسف هذا الوعـي ويجسده في كلمات فحسب وإنما يدفعنا إلى الإحساس به من عناصر الطبيعة، والأشياء، ومن خلال إيقاع الفيـلم.

فإذا كانت الفواكـه، المـطر، الأنهار، الأشجـار المثمرة، والأجساد الفتية، والجيـاد الأصيلة، وكركرات الطفولة، والرعد والبرق، تؤلف عناصر حيـاة الطبيعة في أفلامه الأولى:( طفـولة إيفان )، ( اندريه روبلوف )، ( المرآة )، وحتى ( سولاريس )، فانه ومنذ فيلمه ( ستالكـر )، الذي هو آخر أفلامه في التحاد السوفيتي، مرورا بفيلميه ( الحنين ـ نوستالجيا) و( القـربان أو التضحية ) اللذان أخرجهما في المنفى، يبدأ في تجسيد وعي الموت من خلال موت الطبيعة، إذ تبدأ مشاهد الجـدران المتآكلة، والرطوبة الخانقة، والألـوان الرمادية والمعتمة ومساحات الفراغ الهائلة، والوحل الذي يكاد يشكل الرضية غير المباشرة..! أي إن وعي الحياة انعكس في التعامل مع الطبيعة، ومن خلال الطبيعة، فهي لديه ليست استعارة فنية فحسب، وإنما هي الحكيمة، الطيبة، الناطقة بصمت،فهو لا يتخلى عنها وإنما يستكشفها ويغور في أعماقها، لذا فان وعيه للموت انعكس على علاقتـه بالطبيعـة.

والحقيقة أن استعارات الطبيعة هذه هي الإرث الغنـائي الذي قـدمه عمالقة السينما السوفيتية في العشرينات، لا سيما ( دوفجنـكو ). فمشاهدة لفيلم ( الأرض ) لدوفجنكو تؤكـد لنا بأن الفواكه، الأشجار، الرعد، المطر، النار، المرأة العارية، الجياد التي تأكل التفاح، قطرات الندى، خرير المياه، ليست استعارات مأخوذة من ( الرمـزية الروسية) في الأدب، كما يذهب بعض النقاد الألمان، وإنما هي من تأثير أسلوب ( دوفجنكو ) و( دزيغا فيرتوف). مثلـما نجـد أن جماليات بناء اللقطـة، وديناميكيته، تمتد بجذورها إلى (آيزنشتين) في فلميه ( إيفان الرهيب ) و(الأمير نيفسكي )، والى المخرج السويدي (بيرغمـان ) في فيلمه (بيرسونا)، و( كوراساوا) في فيلمه ( راشمون )، و(كوزنتسيف ) في فلميه ( الملك لير ) و( دون كيخوتـة ).

في محاضرة له في العام 1954 عن (دراماتيكية السينما ومسائل البناء الفني للسيناريو والفيلم) قال روم:( الصراع بين الخيـر والشر يجب أن يكون دائما الموجه الأساس لمواقف الفنـان، فهذا هو الموضوع الخالد الوحيد الذي شغل الفن طوال آلاف السنين، رغم أن مفهوم الخـير والشـر يتغير أحيانا، ولكن إذا كان هذا الصراع الأخلاقي، صراع الخير والشر، ليس المركز الذي يلتف حوله العمل الفني، ولا يتطور الحدث والصدام من خلاله، وإذا لم يصـعد المخرج هدا الصراع، فانه لن يستطيع أن يقدم شيئا أصيلا)..!

بهده الكلمات الواضحة والبسيطة كان تاركوفسكي يسترشد دائما.فهذا الصراع كان يقلقه حقـا، لكنني لا أريد أن أقول عنه بأنه الطليعـي المضاد للطليعيـة (هذا عنوان مقال الناقد شليغل)، وإنما أقول عنه بأنه الامتداد الحقيقي والأصيل لأعرق ما في السينما السوفيتية الروسية مـن تقاليد طليعيـة، وقيم جماليـة وإبداعيـة، ومن الصعب جدا وضـع تعارضات فكـرية أو جماليـة، بينه وبين السينما الروسية والسوفيتية التي لم تخل من مخرجين مهميـن جـدا يشـاركون تاركوفسكي الكثير من القلـق الإبداعـي أمثال:تالانكين، كليموف، بانفيلوف، ميخائيلكوف، عبد الرشيدوف، خوتسييف، شنكلاي، أبولادزة، وشاعر السينما براجانوف!!

موقع "كواكب الإمارات" في 16 أبريل 2005